في الزمن الراجع والقاص الأديب غسَّان كامل ونّوس
فاضل سفَّان
الثلاثاء 13 / 1 / 2009
في حدود المئةِ والستين صفحةً من القطع المتوسط جاءتْ مجموعةُ الأديب غسان كامل ونّوس القصصية ( في الزمنِ الرَّاجع ) و التي ترصدُ هموماً إنسانيّةً في دَفَقٍ شاعري عِميق سمتُه التشاؤمُ من واقعٍ مُظلمٍ ، ومعينُه عبثيَّةُ الحياةِ , وقد بدا هذا التوجُّهُ المستبطَنُ نَبْرةً دافقةً في القصَّةِ
التي حملتْ عنوانَ المجموعة ( في الزمن الراجع ) حيثُ يعترفُ بصدقِ الررؤية وشفافيتها بقوله : ( الكائنُ الذي لا يمشي ولا يقِفُ تماماً كما كان يفعلُ ، لا يعرفُ أيَّ مبررٍ مقنِعٍ لوجوده في هذا التوقيتِ أيضاً ،بعد كلِّ تلك السنينَ و لولا أفكارُ المباغتة والاندهاش المرتقَّبِ لَبَكَّرَ هذا الصباحَ أيضاً رغمَ شُحوبهِ وصقيعِ لحظاته و الرمادِ الذي تكادُ الرّيحُ الشرقيةُ تبعثره على الرأس أيضاً ) (ص 128)
وفي جزئياتٍ يرصدُها القاص من واقع اللحظةِ المستثارةِ تبرز الهمومُ المستوطنةُ في الأعماق لتدركَ أبعادَ الرؤيةِ الوجدانية في نزعةِ الأديب الصوفية برُمَّتِها .
ضمت المجموعة ثلاثَ عَشْرةَ أقصوصةً تَتزاحمُ في رصدِ أحاسيسَ إنسانيةٍ بعيدة الأثَرِ في التكوين المعيش لإنساننا العربي في لحظة من الضياع والعبثية , تحصد مشاعره وتقزِّم رؤاه في ضلالةِ التنكُّرِ لكلِّ المفاهيم ، وفي غربةٍ نفسيةٍ قاتلة ، و ربما يعذرُ الكاتبُ وهو يرصدُ هذا الواقع المأزومَ في جوانب الحياة .
وأنتَ مع هذه الغربة المصيريةِ منذُ القصَّة الأولى ( رؤيا) حيث يبدو فيها في حالةِ حلُمٍ مطبقٍ في ظلمته لا يجدُ دليلاً و لايستقرُّ على أرض محايدةٍ في هذا الضياع النفسي .
و أنت في أقصوصته ” قبل الوصول” تعيش هذه الغربةَ الوجدانية لأن طريق الحياة يبدو محفوفاً بالمخاطر ، و لا تكاد تجد فيه شعاعاً للنورِ و من هنا تبدو عبثية الواقع طالما يرى الكاتب ( مع كل هزّةٍ ومضةُ نصلٍ وكلِّ امتداد تحليقٌ جاحظٌ ، رغمَ أنني وحدي . خارج هذا الصندوق المحصّن فارسان مدجَّجان يتبادلان الشرودَ والنُّعاس ) ص 15
هذا الهاجس المأساوي له أرضيةٌ استطاع الأديب المبدع غسّان أنْ يرصدَها بشفافيّةٍ وصدق ، و هو لا يريد أن يرسم واقعاً متخيَّلاً من الرُّؤى المستعارة برومانسية الحلم .
لكنّه أدركَ عمقَ مأساة الإنسان في مجتمعه المعيش فراح يعرِّيها في واقع ترميزي هادف و لا تضيرنا مسحةُ التشاؤم الطاغية إذا كان الهدفُ سامياً
ولعلَّكَ تجدُ مثلَ هذا الرصْدِ واضحاً في أقصوصته ( ثقب أسود ) حين يقولُ ( ما الفائدة من كلِّ هذا العلم إذا كانت الأرضُ التي تكادُ تغصُّ بمن فيها و ما عليها من كائنات تتشارك و تتعاركُ وتتسلَّحُ وتكمن و تغدرُ وتدمِّرُ وتقتلُ ليستْ سوى احتمال ، فاللَّهُمَ نجنا من الاحتمالاتِ الأخرى ) ص 152
الأديب ونّوس فيلسوف في إهابِ مبدعٍ ، لا يجامل الواقعَ و لا يجمِّلُه إلا بمقدار ما يتركه من رصيد، يريد تفعيله وهو يرسم الصراعَ المتجذِّرَ في أعماق الوجود ، و لا يريد لعوامل الشرِّ والتخلف والنكوص والانهزام أن تحكم الكون في نواميسها , وأرى هذه التعريةَ ثورةً كامنة في الأعماق , أتمنى للقاص المبدع مزيداً من هذا التوجه الرائد والملتزم ، و ربما تتاح لي فرصة أخرى لدراسةٍ معمّقة , أحاول أن أكون أكثرَ توصيلاً لمجمل ما أراه في إبداعات القاص الأديب غسان ونوس آملاً أن أكون قد أصبت بعض ما يرمي إليه في هذه المجموعة في ملاحظاتي السريعة و المتعجلة.