شهادة
حول الكتابة والحداثة
مشروع حياة/مشروع خلاص
من أين لذاك الدارج في الأراضي المستصلحة حديثاً، العارج في الأراضي البور، أن يفكّر في الحداثة؛ قراءة أو كتابة؟!
عينٌ على العنزات أن لا تقرب شجيرات الزيتون الفتيّة، وعين في كتاب؛ أيّ كتاب، تلتهم الحروف والكلمات باندغام وتماه مع حالات إنسانيّة إبداعيّة مبثوثة خلل السطور، بأيّ شكل وأيّة طريقة.
كتب عديدة بأوراق صفراء جذّابة مغفِلةٍ الراعي عن ماكراته، ومُنسيةٍ مرور الوقت وانكباب الشمس وراء الجبال، أو انغماسها في البحر؛ لانغماسه في معارك لا تنتهي، مع بطولات وحيلٍ وأشعار وأمثال وسحرٍ وضربٍ بالرمل وقراءة الغيب؛ ما يجعل العقل مستلباً، والمشاعر متأجّجة، والقارئ مشدوداً إلى أجزاء ومجلّدات من سيرة سيف بن يزن، إلى تغريبة بني هلال، إلى الزير سالم، إلى مئات الليالي من ألف ليلة وليلة… هذه الكتب وسواها مشفوعة بكتابات وقصص وروايات عربيّة ومعرّبة، كان يستعيرها أخي الأكبر محمّد كامل ونوس؛ وهو شاعر وأديب، أو يستقدمها من الشام؛ مفضّلاً إيّاها على حاجات له ولنا، ذات ضرورة قصوى؛ وقصوى كانت فرحتي بها؛ خاصّة روايات الجيب، وكتابي، والهلال، وغيرها. ومن ثمّ كانت مكتبة المركز الثقافي العربيّ في صافيتا؛ فبغناها وتنوّعها صارت المصدر الرئيس لقراءات غزيرة مستمرّة آناء الصيف وأطراف الشتاء؛ إضافة إلى ما يبثّه المذياع من برامج الثقافة وأخبارها المتنوّعة.
كلّ ذلك، كان قادراً على تسريب الوقت المسائيّ أيضاً بساعاته المتأخّرة؛ مضاءةً بسراج أصفر الشعلة مسودّة الذؤابة بدخان، يطوف، حتّى يجد له مكاناً بين أخشاب متصالبة، متفاوتة السماكات، متحوّرة الألوان؛ دخان يضاف إلى دخان موسميّ آخر، تبثّه بلا هوادة مدفأة مضعضعة قادرة، أيضاً، على حرحرة العيون، وتضبيب الحيّز المضاء بالكاد، وعلى بثّ الدفء، حين يطيب لها وللخشب المرطّب المخضرّ ذلك.
كنت أقرأ كلّ ما يقع بين يديّ من الكتب؛ أدبيّة كانت، أو علميّة، أو نفسيّة، أو فكريّة، أو اجتماعيّة.. وأقرأ بنهم كبير.. أذكر مرّة أنّني وصلت إلى البيت عصراً قادماً من الإعداديّة، وجدت رواية على الطاولة الوحيدة، فتحتها من ثلثها ربّما، ولم أتركها حتّى انتهيت من قراءتها بعد منتصف الليل.. تاركاً كلّ الواجبات الأخرى..
ساعات طويلة، وأيّام متعاقبة، وسنون متلاحقة، والزاد المتنوّع يتراكم بلا انتظام، والأفكار والأشكال تتواشج، وتتصارعُ؛ لترتسم في المخيّلة ملامحُ غامضة، وعلامات وإشارات، تبعث على التساؤل، وتنفث أصداء، تضاف إلى تلك التي تردّدها الوديان، وتُضاعفها الوحدة، في تلك القرية (الصليّب) الضائعة بين الجبال.. تلوكُ الوقت والحكايا والأعمال ذاتها، من دون رتوش مهمّة. وتجد بعض الوقتِ لتبادل الكتب والروايات، وتوديعِ الذاهبين في سفر قريب للعمل في لبنان، واستقبال الآيبين..
كلّ ذلك كان مبعث قلق وتساؤلات، كان أخطرها تساؤل، كنت أهرب منه كثيراً: لو لم يكن هذا ماذا كان يمكن ان يكون؟!
وهذا تشمل الشكل هذا من الحياة، وهذه الأحياء، والطبيعة، والأرض والسماء، وما بينهما، أو حولهما.. وربّما كان ذلك مبعث هرب إلى الكتب؛ كما كان مبعث هرب منها، حين أجد فيها ذلك التساؤل عينه؛ بدلاً من إجابة تشفي..
وكان ذلك يجعل الوقت عصيّاً، والتعامل مع عناصر الحياة لدناً، وساعات النوم قلقة أكثر، بعد أن يتكفّل بقلقلتها “دلف” شتويّ، يمكن أن يخطر في أيّ وقت، أو أيّ مكان، أو حشرات صيفيّة، تتقدّم مرفوعة الذنب أو القرون أو مشرعة اللسع واللدغ.. من أيّ ثقب في طين الجدران الحجريّة، أو أيّة حافّة حجريّة من الحفافي الموزّعة في أيّ اتّجاه، أو يمكن أن تهبط من بين أخشاب السقف المتصالبة في أيّ حين، وتستولي الكوابيس على ما تبقّى من أوقات.. وكنت أفيق؛ حين أنام، على همهمات والديّ المهمومَين من ظروف الحياة، وظروف المُناخ، وشحّ الموارد، وجدب المواسم.. وعلى تنهّدات والدي من رداءة الأخبار، التي يلاحقها منذ أوّل نشرة صباحيّة، إلى آخر وجبة إخباريّة مسائيّة؛ أبي الذي رحل من دون أن تتحسّن الأخبار، وأقول لروحه الطيّبة، بعد كلّ تلك السنين: ما زالت الأخبار سيّئة يا أبي..!
كلّ ذلك، كان يجعل التوازن مفقوداً، لولا الكتابة، على الرغم من نجاحات متكرّرة مميّزة في الصفوف المتعاقبة.
لقد بدأت أولى المحاولات الكتابيّة في المرحلة الإعداديّة، ثمّ جاءت المرحلة الثانويّة غزيرة الإنتاج.. وأذكر حالة انضغاط كبرى، لم أكن أعيها، استمرّت أيّاماً، حتّى خرجت فكرة على مدى صفحات، ثمّ تلت ذلك أفكار وصفحات، قال لي صديق بانفعال إيجابيّ، وكنت أحكي له فكرة كتبتُها منذ حين: لماذا لا ترسلها إلى “المعرفة”؟!
ولم أرسل شيئاً حتّى صرتُ في جامعة تشرين- اللاذقيّة، وعلى الرغم من ضغط الدوام والدروس العمليّة والمواد، وضيق الوقت، وضيق ذات الحال، التي رافقت دراستي الهندسة المدنيّة، شاركت في مهرجانات الطلّاب، وراسلتُ برامج الأدب الشاب في الإذاعة، وصفحات الأصوات الجديدة في “ملحق الثورة الثقافيّ” أيّامذاك، وكانت كلمات مشجّعة، حتّى نشرت أوّل مقطوعة لي في نيسان (1985م)، في “نادي الأصدقاء” في صحيفة البعث، ثمّ صار لي موقع أسبوعيّ في النادي على مدى سنوات، وكانت مقاطع قصصيّة شعريّة، تمايزت فيما بعد إلى درجة ما، حتّى صارت قصصاً وقصائد، نشرت في الصفحات الثقافيّة في “البعث” و”الثورة” و”تشرين”، وفي “الأسبوع الأدبيّ”، وفي المجلّتين “الموقف الأدبيّ” و”المعرفة”.. وفي عدد من المجلّات العربيّة؛ أهمّها “الشعر”، التي يصدرها اتّحاد الإذاعة والتلفزيون في جمهوريّة مصر العربيّة، التي زرتها فائزاً في مسابقة قصصيّة عربيّة العام (1990م)؛ كما فزت في مسابقة شعريّة محلّيّة العام (1992م) في إدلب؛ كلّ ذلك كان قبل أن تصدر لي أيّة مطبوعة.
والجدير ذكره، أو التأكيد عليه، أنّ الكتابة الإبداعيّة لديّ، بدأت بشكل متوازن أو متواشج بين الشعر والقصّة، ثمّ كتبت الرواية، وشيئاً كالمسرحيّة، وكثيراً من المقالات والزوايا..
أقول هذا الكلام؛ لأؤكّد أنّي لم ألزم نفسي بخطّ معيّن، ولا بشكل محدّد، ولا بجنس أدبيّ من دون آخر؛ بل إنّي تارك الأمور تجري بالراحة، حسب ما تمليه الحالة والانفعال والقدرة على الكتابة.
وأشير كذلك إلى أنّني لا أضع رؤوس أقلام، ولا أسجّل الأفكار إلّا فيما ندر؛ تنبثق الفكرة، ثمّ تروح وتأتي مرّات، وفي كلّ مرّة أحسّها تنمو، وتغتني ككرة الثلج، حتّى تصبح ذات هيئة، يمكن أن تعلن عن نفسها بها، فأكتبها.. وقد تظلّ واهنة، لا تقوى على الظهور، وقد لا تكتمل؛ وهذا لا يحدث كثيراً على أيّة حال.. ويمكن أن تخطر الفكرة في أيّ وقت، وفي أيّ مكان، من دون أن تكون هناك ضرورة لهدوء أو استفراد، أو طقوس استلهاميّة معيّنة؛ هذا مع الإشارة إلى أنّي شغوف بالسهر الطويل، ومن النادر أن أركن إلى النوم، إلّا بعد أن أصل إلى حال قصوى من الإنهاك، وتتيح لي ساعات الليل المتأخّرة فرصة غنيّة للتأمّل والشرود والتخيّل، الذي يتيح لي الجولان في أيّ فضاء وأيّ اتّجاه، ويؤمّن لي لقاء أو تماهياً مع الطبيعة؛ زمناً ومكاناً، في لحظات صفاء أو بوح أو ندم..
وإذا ما حاولت أن أقول شيئاً عن هذه التجربة المتواصلة؛ وليس يسيراً أن يقول المرء شيئاً عن أعماله، فإنّني أقول: إنّ الواقع لم يستهوِني بما هو واقع؛ بل بما يمكن أن يتخفّى خلف الأحداث والعلاقات والمواقف؛ بما يمكن أن يكون العلّة أو السبب أو المسوّغ؛ مبتعداً قدر المستطاع عن المباشرة أو الشرح؛ تاركاً أمر استنتاج الكثير لقارئ مهتمّ أو متابع، أو ناقد.. وهناك خيط، يكاد يصل بين مختلف القصص، لا أدري ما أسمّيه، ولكن أدري أنّي حاولت- أو أزعم ذلك على الأقلّ- أن تتماهى في القصّة جرعة فكريّة أو فلسفيّة أو نفسيّة، تختلف درجة وضوحها أو إشعاعها.. وتستدعي تساؤلاً أو تساؤلات، يتوقّف عندها من يودّ التفكير بالإجابة، وتختلف هذه الجرعة من نصّ إلى آخر، ومن مجموعة إلى أخرى.. وأحسب أن الأمر بلغ مدى مهمّاً في “دوار الصدى”؛ حيث كانت الحالة ضاغطة أكثر، والتساؤلات عديدة. وقد هيمنت عليّ حال من الأفكار والتخيّلات والاستنتاجات، أنتجت؛ إضافة إلى “دوار الصدى” مجموعة قصصيّة أخرى، ومجموعة شعريّة ونصّاً كالمسرحيّة..
ولا بأس من التأكيد مرّة أخرى أنّي أمين لحالة الكتابة، أمانتي في السير بخطاً جادّة؛ في محاولة للوصول إلى كنه الأمانة، التي صدعت الجبال، وحملها الإنسان.. محاولاً الدخول أكثر في الجانب الأعمق من الحياة؛ أقصد النفس والوجود والمآل. وحال هذا الكائن المقلقل المبتلي بعدم القناعة وعدم الاستقرار؛ بدءاً من بكائه الأوّل حتّى البكاء عليه؛ هذا الكائن الموسوم بالعاقل، والموهوم بالأرقى، والمشبّه بأنّه على مثال صورة الإله، وينوء تحت وزر الخطيئة الأولى، والخطايا الكثيرة الأخرى، التي يرتكبها تجاه نفسه، والأحياء الأخرى، والطبيعة كلّ يوم؛ فيعيش حالات من الضغط والتشتّت والقنوط والعري أمام قوى لا يفهمها، وشروط أكبر من متناول بحثه وإمكانيّاته، التي تتنامى، وقناعاته التي تتداعى بعد طول اعتناق.
واستطراداً بشأن تجربتي الإبداعيّة، يمكنني القول- من دون مباهاة، ودونما ادّعاء-:
ما من أديب أسرني إلى ما لا نهاية، وما من قاصّ كان أسلوبه عندي المنهج الأفضل أو الأوحد، وما من مدرسة أدبيّة أعدّها سائدة بإطلاق، وهذا القول يعبّر بشكل كبير عمّا أحسّ، ومستنتج من مجمل الآراء، التي تناولت ما كتبت؛ وهذا يومي إلى أنّ أيّة مادّة إبداعيّة كتبتها، كانت بنت حالتها، واختارت لبوسها، الذي ظهرت به إلى العلن، من دون تصنّع أو افتعال، وإنّ أيّ رجوع إلى نصّ كتبته، وإن مضى على ذلك سنوات، يجعلني أنفعل، وأتأثّر، وهذا يؤكّده التنوّع في المواضيع، التي تناولتها قصصي، والأشكال التي خرجت بها. ويمكنني القول بمنتهى الصدق، أن غالبيّة نصوصي، خرجت مرّة واحدة؛ أقصد أنّه لم يكن هناك حاجة إلى تعديل جذريّ في الشكل- أو على الأقلّ لم يحدث ذلك؛ بل اقتصرت المراجعة على تبديل كلمة أو جملة، أو إضافة سطر أو بضعة أسطر، مع إشارة مهمّة إلى أنّه ما من مادّة أرسلت للنشر، أو قرئت في الأماسي أو حتّى على الأصدقاء قبل مرور أشهر على كتابتها، ومن ثمّ هناك متّسع للمراجعة والتعديل، لو كان ذلك يحدث.
وهناك أمر آخر، يلاحظه من يتابع، هو أنّي لا أستشهد بالأسماء كثيراً، أدباء ونقّاداً، ولا أحبّ الأقوال المأثورة أدبيّاً أو في أيّ مجال، ولي كامل الثقة بأنّ التجربة هي خير برهان، ومن لا يستطيع الخوض في النهر، يكتفي بترديد محفوظاته عن مخاطر السباحة ومواصفات التيّارات والدوّارات والضحايا من على الشاطئ، بينما يعيش سواه لذّة المغامرة بما تحتويه من احتمالات العوم أو الغرق.
إنّني مؤمن بالتجريب من دون أيّ تردّد، وأحبّ التحليق، حتّى لو كان خارج السرب. ولكن ليس تحليقاً مجّانياً من دون غاية، وأحسب أنّه ما من تحليق من دون غاية، حتّى لو كانت ضرورة الاقتناع الذاتيّ أو متعة المحاولة- والتحليق المتفرّد، يحتاج إلى امتلاك أسباب التحليق وأسراره، وإمكانيّة اغتنام قدرات أخرى، لا يستخدمها السرب، أو لا يسمح بها منطق السرب. وفي رأيي إنّ الإبداع خاصّ وإفراديّ وليس عامّاً، والقدرة على الالتقاط والتحليل والاستنتاج، ليست عامّة؛ بل هي ملكة فرديّة، إنّها موهبة، والحداثة تتضمّن تلك القدرة، أو تسمح بها؛ إضافة إلى لذّة الاكتشاف والمغامرة.
الحداثة ليست شكلاً أو طريقة؛ بل قد يعجز عن ضبطها شكل، ويضيق عليها حيّز أو سبيل؛ إنّها ليست مثالاً أو قاعدة، إنّها قدرة على الفهم، قدرة على التجاوز.. الحداثة موهبة؛ نعم هكذا من دون مواربة..
إذ ليس من يحارب القديم بالكلام حديثاً، لكنّه الذي يبتدع نصّاً قادراً على الوقوف طويلاً بعلامات فارقة.
وكما في كلّ شأن، الموهبة وحدها لا تكفي، ولا بدّ من وعي ومبادرة وثقة وعناد.
وأستطيع القول إنّ كثيرين من الذين يملكون الأواليّات، لا يجرؤون على الانطلاق خارج ما هو موهوم؛ لوجود مثبّطات كثيرة، ربّما يكون منها هيمنة اسم أدبيّ أو نقد أدبيّ، أو وسط ثقافيّ معيّن؛ بما فيه الإعلام. وهناك كثيرون لا يقدرون على ذلك؛ لعدم توافر الاكتناز أو الاغتناء، الذي يفرض تفجّر الإبداع في أيّة فرصة، تختلق، وهناك من حاول الخروج على القيود، التي افترضها، تبنّاها، وتمثّلها، وكتب مدافعاً عنها، ثمّ جرّب بعد حين الخروج من إسارها، واستطاع ذلك بدرجة أو بأخرى..
ولا بأس من التشبيه بحالة النبع، الذي ينبثق من أيّ صدع في جبل الصخر، تحت ضغط حال من الإشباع الناتج عن تسرّبات كثيرة من طبقات أخرى، فوق أو تحت، إلى مناطق، تستطيع الاحتفاظ بما يتسرّب إليها، فتتجمّع فيها المياه، وقد تجري أنهار تحت سطح الأرض، تنتظر أيّة سانحة للخروج إلى النور، ماء حرّاً صافياً.. ومن الطبيعيّ أنّ طبقات كثيرة أخرى، لا تستطيع الاكتناز بالماء المتسرّب إليها؛ بل ينسرب منها إلى طبقات أعمق فأعمق؛ ليضيع في مسارب الطبقات ومتاهاتها. ومثل هذه الطبقات، لا تستطيع إخراج قطرة واحدة، لا نبعاً غزيراً متواصلاً. وهناك طبقات عصيّة على قبول الماء، الذي ينسرح من على سطحها سريعاً غير آسف، أو يحتجز في حفر ومنخفضات وقتاً طويلاً، حتّى يتعفّن، أو يعود من حيث جاء بخاراً، يقصد بقاعاً أخرى، قد تستحقّ.
إنّ النصّ القصصيّ الحديث ليس بالضرورة تجريداً أو تقطيعاً أو لغة متشظّية؛ بل إنّه في رأيي منطق في التناول والمعالجة، يتيح أكبر قدر من الحرّيّة، ويعبّر أحسن تعبير عن تمثّل الكاتب للحالة، التي أفرزت النصّ، ومن ثمّ ما من شرط للحداثة، ولكن هناك أكثر من شرط لعدم التقليديّة، أقصد عدم تقليد الآخرين، وعدم اتّخاذ شروط مسبقة للكتابة؛ كما كتب فلان؛ بوصفه مرجعاً للقصّة القديمة أو الحديثة.
إنّ الحرّيّة في الكتابة تبرز مدى موهبة الكاتب، وتعطيه المشروعيّة والإمكانيّة للتعبير عنها، وتسحب من بين يديه، ومن تحت قدميه كلّ الحجج والمسوّغات، التي تقيّده أو تلزمه سلوك نمط معيّن، أو استخدام أسلوب محدّد، ومن ثمّ لا مسوّغ لديه، إن لم يقنع..
والحرّيّة في الكتابة، هي المعوّل الأساسيّ في اكتناه عوالم أخرى وإبداعات جديدة متجدّدة، تعبّر أكثر عن معنى الحياة، وتجعل أمر عبورها أكثر يسراً ومتعة.
وبعد.. هل أنا كاتب حداثيّ؟!
لم يقل لي أحد غير ذلك؛ وأترك أمر الحكم لمن يتابع، ويهتمّ..
ولا بدّ من أن أقول شيئاً للإنصاف: إنّني لم أجد الكثير من العراقيل في الطريق إلى النشر، وكنت مصرّاً وجادّاً، بالرغم من أنّي جئت وحيداً من دون معارف أو وسطاء، سوى النصوص، التي كنت أرسلها بريديّاً، أو أحملها أحياناً، ولم أعانِ سوى من البعد عن مدارج الإعلام ومنابر الشهرة، ولم أفكّر كثيراً أو قليلاً في الدخول في شلل أو تكتّلات؛ كما يطيب لبعض أن يسمّيها!
ولو أنّني استمعت إلى تحذيرات كثيرين- ومنهم أدباء- لما كنت تجرّات على إرسال نصّ أو مجموعة للنشر.
ولا بأس من القول إنّ هناك كثيراً من الأسماء، التي كنت أقرأ لها من دون أن أعرفها، تمنّيت- بعد أن عرفتها- لو ظلّت الحال كما كانت عليه، وقليلون من كنتُ سأخسر لو لم ألتقيهم!
ولا بدّ من أن أسجّل هنا بعض الخيبة من إمكانيّة الفعل أو التفعيل على مستوى المؤسّسات الثقافيّة، وهناك ميل واضح إلى السلبيّة، وترك الأمور على ما هي عليه. ولا أنسى أن أضع مسؤوليّة مضاعفة على الأدباء أنفسهم- وأنا منهم- الذين قد يقولون أكثر ممّا يفعلون، ويريدون أكثر ممّا يقدّمون، وتستخدم حساسيّاتهم في غير موضعها، ومواهبهم في أمور أخرى غير الإبداع! وبعضهم يحارب الجديد؛ أسماء ونصوصاً بمنطق الأدب الشابّ، أو الأستذة الدائمة، أو القدرة على التحكّم في مصادر النشر، والوصول إلى مواقع القرار؛ رفضاً أو قبولاً.
وأؤكّد هنا، أنّني أفرح أيّما فرح لأيّ اسم جديد، من أيّ اتّجاه أتى، وأيّ نصّ جديد بأيّ منطق كان؛ إيماناً منّي بضرورة أن يُكتب، ويكتب، حتّى يُقرأ ويُقرأ؛ حتّى يتبدّل شيء ما بأنفسنا، والبقيّة تأتي!
وأقول أخيراً: إنّني أسير فوق “تضاريس”، ترتسم “على أفق شاحب”*، فأتعثّر، ويختلّ توازني، ويتصاعد قلقي، فأكاد أقع، لولا أن تساعدني الكتابة؛ الكتابة التي كانت تسرق منّي أوقاتاً كثيرة، يمكن أن تُغتنم لزيادة الدرجات في معدّلات امتحانات كثيرة مرّت، أو لزيادة أشياء أخرى، يجري خلفها كثيرون، يلهثون، ويفخرون، ويسقطون..
إنّها مشروع حياة، تليق بكائن يحلم، ويصوغ أحلامه من نبض عيش معذّب، ومفردات عصيّة على الاتّساق، وأوقات شائكة عالقة بتساؤلات بلا أجوبة، تتعلّق بأصل الحياة ومنتهاها، بقوانينها التي تتيح، وتسوّغ للقويّ، أن يبتلع الضعيف ملتذّاً، وبطبيعة هذا الكائن سيّد الأحياء، الذي يطيب له الطعام وجاره جائع.
الكتابة مشروع خلاص؛ فعلى أيّة شاكلة يكون؟! وهل كان ثمّة خلاص؛ كي يصاغ على منواله؟!
إنّها دخان، ينبئ من يودّ أن يرى، أو يتساءل، أو من تحرحر عيناه أنّ هناك “احتراقاً”*، وأنّ هناك مسيراً أو سائرين في مفازة بين “هامش الحياة وهامش الموت”*، وأنّ هناك كوكباً في مدار مسجّى؛ لا الوقوف ممكن فيه، ولا الوصول وصول؛ بل هو ابتداء دوران قد يسبّب دواراً لذاك الهارب من أيّ صدى، بعد أن يئس من أيّة بارقة أو جدوى، ويراقب متأذّياً تحوّر “الأحمر إلى أبيض”*، فقعد يكتب في “ظلال نشوة هاربة”*.
***
(1996م)
*عناوين كتب للكاتب في الشعر والقصّة.