الفئة: من أدب الرحلات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموقف الأدبي العدد 424
تاريخ النشر: غير محدد

طائر المساء‏

في الساعة العشرين من يوم الأحد 30/4/2006، أقلعت الطائرة “السورية” من مطار دمشق الدولي، حين كان المساء يكمل هيمنته على المشاهد، خلا أضواء تتباعد وتتناوس و..تتلاشى، تاركة المشاعر تتضاغط إلى مقاعد مربوطة بأحزمة “الأمان”، ومتقلقلة مع تزايد الصعود وارتهان الكائنات التي تملأ طائر المساء الجريء إلى فضاء وقدر ورجاء..‏

كنا نعلم أن الفضاء الشقيق غير الآمن يدفع بالطائرة المتوجهة إلى طهران باتجاه الشمال الشرقي نحو فضاء الجيران!! تلك إحدى المفارقات الشاقة في هذا الزمن العصي على الفهم والهضم والاقتناع. ولا سيما أن الفضاءات الشقيقة الأخرى ليست أكثر أماناً.‏

تساءلنا بمرارة، وغصصنا نجترع وقتاً مضاعفاً في فضاء مسود، أخذت تخفف من قتامته ابتسامات المضيفين (لا وجود لمضيفات!)، وضجيج الركاب المتصاعد، بعد أن فككنا أحزمة الجذع، وبقيت أحزمة أخرى عصية.. رغم أنها ليست المرة الأولى. لكن زمناً طويلاً امتد حتى تسنى لكل منا نحن الثلاثة أعضاء وفد اتحاد الكتاب العرب أن يعتلي من جديد صهوة الريح مزوداً بالثقافة ومؤملاً بالفرص التي تسنح، ولو بعد حين.. “أن تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي أبداًً!!”.‏

سيماهم في وجوههم:‏

لم يكن أي إحساس بالغربة يعترينا ونحن في الطريق، ولم يبد أو يخطر آن وصولنا إلى “مهبط طهران” (يسمى في إيران مهبطاً لا مطاراً تيمناً بالوصول الآمن) ليس لأن القنصل السوري السيد مصطفى ديوب كان في استقبالنا ممثلاً للسفارة السورية، ولا لأن السيد حسن (سعيد) باقري كان هناك أيضاً ممثلاً للرابطة المضيفة.. فحسب؛ بل لأن الوجوه لا تكاد تختلف، والملامح تشي بألفة وود وتواضع واحترام.. مما كان لـه الأثر الكبير في افتتاح الرحلة برقاد أليف في فندق “بزرك آرام” (آرام الكبير) حيث إقامتنا طوال وجودنا في طهران.‏

ومن المهم التأكيد أن هذه الملامح التي طالعتنا منذ ابتداء الرحلة لم تَنُسْ، أو تتحور مع مرور وقت الزيارة، بل تكرست عبر جميع اللقاءات المبرمجة والعفوية، ولدى جميع من التقيناهم في المؤسسات الثقافية التي زرناها؛ فالتواضع والجدية والغنى والرحابة والألفة والهدوء مظاهر تكاد تكون غالبة، وهذا ما يترك انطباعاً بأن الشعب هناك تليق به الحياة الكريمة، ويستحق الاحترام والتقدير..‏

رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية:‏

هضبة خضراء، ساحات وأمداء وأبنية تتوزعها متباعدة، لتعطي انطباعاً بالرحابة والترحاب لم يكن ليخفى لدى المسؤولين في الرابطة المضيفة، ابتداء من المطار وانتهاء به، ومروراً بكل مراحل الزيارة وفصولها الثرة.‏

المعاونون والمستشارون في الرابطة ومثقفون ومهتمون آخرون حضروا المحاضرة التي قدم فيها رئيس الوفد السوري عرضاً للمشهد الثقافي العربي المعاصر، وقدم عضوا الوفد مداخلتين في الموضوع ذاته، والذي أخذ حيزاً مهماً من حوار جدي وغني، استكمل خلال الوقت الذي تلا بما يؤكد ضرورة توطيد عناصر العلاقات الثقافية، وصولاً إلى حال أفضل وأجدى، وحضر اللقاء السيد مدير المركز الثقافي العربي السوري في إيران. وتمت زيارة مكتبة الرابطة المهمة ومركز التوثيق المعلوماتي فيها.‏

وجرى الحديث أيضاً وبالتفصيل عن اتحاد الكتاب العرب، ورابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية التي تتبع وزارة الثقافة وتتحمل مسؤولية العلاقات الثقافية الخارجية بين إيران وجميع بلدان العالم. ويتألف الهيكل الإداري من رئيس الرابطة ومجلس من الأمناء ومجموعة من المعاونين والمستشارين، ورؤساء الدوائر والأقسام المختلفة. وقد سعت الرابطة بالتعاون مع السفارة السورية إلى تمديد فترة إقامة الوفد السوري وهيأت له برنامجاً مكثفاً وغنياً، ورافقه ممثل عنها السيد حسن(سعيد) باقري رئيس دائرة العلاقات العربية والإسلامية في الرابطة في جميع لقاءاته وتنقلاته..‏

منظمة “سمت”:‏

في واحدة من طبقات البناء الثمانية العائد لمنظمة “سمت” والواقع في شمال طهران، كان لقاء حار وثر مع رئيس المنظمة الدكتور أحمد أحمدي ومعاونيه للشؤون البحثية والإدارية ورئيس قسم اللغة العربية في المنظمة وعدد من المستشارين.‏

وبعد أن تحدثنا بالتفصيل عن اتحاد الكتاب العرب: التأسيس والأعضاء الأصلاء والمرشحون للعضوية وأعضاء الشرف، والدوريات السبع والمطبوعات التي قاربت الألفي عنوان والنشاطات المتعددة والمتنوعة، والفوائد التي يقدمها الاتحاد لأعضائه، ولا سيما الضمان الصحي والراتب التقاعدي المستقل عن أي تقاعد آخر، وآلية النشر في الاتحاد، والهيكل الإداري المركزي والفرعي، وشروط الانتساب إليه..‏

ثمنّ الحاضرون الدور الهام الذي يقوم به الاتحاد في خدمة الثقافة والمثقفين، وأبدوا اهتماماً كبيراً ورغبة بالانتساب إليه.‏

وحضر اللقاء إلى جانب وفد الاتحاد الدكتور موسى الغرير رئيس المركز الثقافي العربي السوري في طهران، وشارك في الحوار الجدي والودي والمعمق حول ضرورة توثيق العلاقات الثقافية بين سورية وإيران بشكل عام، واتحاد الكتاب العرب ومنظمة “سمت” خصوصاً، والتي يمكن أن تتوج باتفاقية توقع قريباً بين الجانبين تمّ التمهيد لها في أثناء زيارة وفد المنظمة إلى الاتحاد منذ أشهر، وجرت مراسلات خطية بشأنها في الأيام الأخيرة.‏

وقد كان الاحتفاء بالوفد السوري كبيراً من خلال الترحيب والضيافة.‏

ومنظمة “سمت” هي منظمة (دراسة وتدوين كتب العلوم الإنسانية للجامعات)، تأسست عام /1984/م للقيام بتوفير الخدمات العلمية والبحثية، وتوفير الكتب الأساسية والمصادر والكتب الدراسية، والكتب الثانوية المساعدة للدروس، وبقية المصادر التعليمية والجامعية في مجال العلوم الإنسانية.‏

تتكون منظمة سمت من:‏

– مجلس الأمناء.‏

– رئيس المنظمة.‏

– المجلس البحثي.‏

ومن واجباتها وأعمالها:‏

– إعداد وتأليف وترجمة المصادر والكتب في فروع العلوم الإنسانية، وإقامة العلاقات والاتصالات مع أساتذة الجامعات، والندوات البحثية بمشاركة متخصصين.. وأهداف أخرى عديدة.‏

دائرة المعارف الإسلامية الكبرى:‏

بحفاوة ودماثة مميزين استقبل د. عقيل خورشة أعضاء وفد الاتحاد في مقر دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، والسيد خورشة رئيس قسم اللغة العربية في الدائرة، حيث تحدث عن مشروع الدائرة الضخم الذي يتمثل في إصدار دائرة المعارف الإسلامية الكبرى باللغات الفارسية والعربية، والانكليزية إضافة إلى الموسوعة الإيرانية، وفهرس الفهارس للكتب الفارسية والتاريخ الجامع لإيران.. وقد أشعت الفكرة في مخيلة السيد ناظم الموسوي البجنوردي حين كان سجيناً أيام الشاه، وانطلق المشروع بعد خروجه من غرفة صغيرة وصولاً إلى مقر مميز من خمس طبقات بمساحة/2000/م 2 لكل منها، وبمساحات خضراء أخرى بديعة. وتشغل المكتبة ثلاث طبقات، وعدد عنوانات الكتب فيها خمسمئة ألف عنوان، وهناك مكتبة إلكترونية تضم زهاء خمسين ألف عنوان. وقد صدر عن الدائرة /13 / مجلداً باللغة الفارسية من الموسوعة الكبرى التي تعدها، وهي لا تمثل سوى الأحرف الثلاثة الأولى حسب الأبجدية الفارسية، كما صدرت خمسة مجلدات باللغة العربية، ويجري العمل على إصدار موسوعة باللغة الإنكليزية.‏

وقد اطلع أعضاء الوفد على المكتبة بأقسامها المختلفة، وتابعوا مراحل العمل المضني والممتع للحصول على المعلومات والمعارف والوثائق من الكتب والدوريات والمخطوطات والإنترنيت..‏

وشرح الوفد للمضيفين نظام وأهداف ونشاطات اتحاد الكتاب العرب، فتقدم السيد الموسوي بطلب لعضوية شرف في الاتحاد، أرسل إلى رئاسة الاتحاد الأوراق المطلوبة لذلك مع الوفد.‏

المركز الثقافي العربي السوري في طهران:‏

وهو المركز الثقافي العربي الوحيد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولحضوره صدى طيب لدى الأوساط الثقافية، تردد في معظم لقاءاتنا مع المؤسسات الثقافية في طهران. وقد واكب الدكتور موسى الغرير رئيس المركز معظم نشاطات وفد الاتحاد في طهران، وشارك في الحوار، وساهم في إغناء الزيارة من خلال علاقاته الثقافية الهامة، كما شارك في بعض الفعاليات عدد من العاملين الآخرين في المركز.‏

وافتتح وفد الاتحاد معرضاً فنياً في قاعة المعارض للفنانة الإيرانية مريم زينيتي، وقص رئيس الوفد الشريط الحريري بحضور جمهور مهم من المثقفين السوريين والإيرانيين. كما حضر الوفد محاضرة في قاعة النشاطات قدمها عضو الشرف في اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد علي آذرشب حول العلاقات الثقافية بين الأدب الإيراني والأدب العربي، وقدم أعضاؤه مداخلات مهمة في الموضوع.‏

وأبدى المركز اهتماماً واضحاً بالتعاون الواسع مع اتحاد الكتاب العرب، واستعداده لإقامة معرض دائم لكتب الاتحاد في المركز، ومعرض متنقل في الجامعات الإيرانية العديدة في طهران والمحافظات الأخرى.‏

السفارة السورية في طهران:‏

حظي الوفد برعاية واهتمام سفارة الجمهورية العربية السورية منذ الوصول وحتى المغادرة، وقد سعت السفارة لدى رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية لتمديد فترة زيارة الوفد حتى مساء الأحد؛ بدلاً من مساء الخميس؛ ولدى زيارتنا مقر السفارة ظهر يوم الخميس، أصر سعادة السفير الدكتور حامد حسن على دعوة أعضاء الوفد إلى عشاء في منزله مساء الجمعة، حضره السيد معاون رئيس الرابطة ومستشاران فيها، وعدد من موظفي المركز الثقافي العربي السوري، ورئيس مكتب شركة الطيران العربية السورية في طهران وناظر محطة طهران.‏

وجرى حديث هام عن ضرورة زيادة وتائر التعاون الثقافي بين سورية وإيران بما يوازي على الأقل مستوى العلاقات السياسية المميزة والمستمرة منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وأبدى سعادة السفير اهتماماً بالسعي الجدي لذلك؛ كما عبر عن احترامه لاتحاد الكتاب العرب كمؤسسة ثقافية مقدرة.‏

وكان السيد علي محمود نائب السفير قد زار الوفد في مقر إقامته واتصل مراراً، ورافقنا في أمسية لطيفة في “بارك ميلات” واستضافنا في منزله إلى مأدبة عشاء مساء الأربعاء 3/8/2006 حضرها أيضاً السيد مدير المركز الثقافي العربي السوري في طهران.‏

3 ـ في جامعة طهران:‏

كان اللقاء في جامعة طهران متعدد الجوانب والمحاور والفوائد والمتعة؛ فهو لقاء مع الأساتذة الدارسين للغة العربية في المستويين المتوسط والعالي بإشراف الدكتور محمد علي آذر شب، وحضور الدكتورة بتول ميشكين فام، وبتمويل من مؤسسة جائزة البابطين، ويغطيها إعلامياً التلفزيون الكويتي. وهي دورة مكثفة وشاملة لمحاور كثيرة وبمستويات ثلاثة، وحضر اللقاء إلى جانب وفد الاتحاد رئيس المركز الثقافي العربي السوري في طهران، والأستاذ عادل سليمان مدير النشاط الثقافي في المركز.‏

وتحدث رئيس الوفد في محور المؤسسات الثقافية العربية، فشرح بالتفصيل كل ما يتعلق باتحاد الكتاب العرب في سورية، وأشار إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. كما تحدث عضو الوفد السيد ابراهيم خريط في محور أثر ترجمة الأدب الفارسي في الأدب العربي، فقدم مداخلة حول ترجمات الشاعر محمد الفراتي من الأدب الفارسي إلى العربية، كما تحدث عضو الوفد السيد مصطفى صمودي في محور العلاقة بين الأدبين الفارسي والعربي. وأجاب أعضاء الوفد عن الأسئلة الكثيرة التي تناولت بعض جوانب المحاور المذكورة، إضافة إلى أسئلة أخرى في قضايا الإبداع والأدب العربي والترجمة وسوى ذلك.‏

وقد بدا من خلال الأسئلة التي شارك فيها، إضافة إلى الدارسين، المدرسون المشرفون على الدورة، الاهتمام بالأدب العربي والافتقار حتى إلى المعلومات الأولية عن الأدباء العرب المعاصرين بشكل عام، وأدباء سورية بشكل خاص، وعدم وصول المطبوعات التي تعرّف بالأدب العربي والكتّاب العرب. ولمس الوفد مقدار الشغف الذي يكتنف الدارسين الإيرانيين للغة العربية وآدابها، واللهفة للتواصل مع الأدباء العرب السوريين والاطلاع على نتاجاتهم، واستعدادهم لشرائها، وتساءلوا عن إمكانية تواجدها في معرض طهران الدولي التاسع عشر للكتاب!!‏

في جامعة الزهراء:‏

وكما كانت الحال عليه في جامعة طهران، ظهر الأمر جلياً في جامعة الزهراء للإناث/ قسم اللغة العربية؛ حيث كان اللقاء حميمياً ومفيداً وممتعاً جراء اهتمام الطالبات بالأدب العربي والكتاب العرب، ولا سيما القصة القصيرة؛ حيث كان محور اللقاء( كتابة القصة القصيرة)‏

وقد قدم رئيس الوفد مداخلة مطولة في الموضوع، وقرأ عضو الوفد ابراهيم خريط نصاً قصصياً، وشارك عضو الوفد الآخر مصطفى صمودي بمداخلة حول الإبداع.‏

وحضر اللقاء بعض أساتذة الأدب العربي في الجامعة، ومدير النشاط الثقافي في المركز الثقافي العربي السوري في طهران، وأجاب أعضاء الوفد عن الأسئلة المتنوعة في موضوع اللقاء ومواضيع أخرى ذات صلة بالإبداع، وقد تم تصوير وتسجيل اللقاء بالكامل لعرضه على الطالبات في وقت لاحق ومناقشة الأفكار التي وردت والاستفادة منها ومن الخبرات التي عرضها أعضاء وفد الاتحاد، حسب قول المشرفات على القسم وأساتذته .‏

المعرض الكبير والحضور البائس :‏

الافتتاح :‏

أناقة البساطة وثراء المعنى وعمق الصورة : تلك هي العبارات التي خطرت للتعبير عن افتتاح معرض طهران الدولي التاسع عشر للكتاب في المكان الآسر؛ خضرة وزهور ومياه.. ومنصة صغيرة لا يكاد غطاؤها يقي من المطر الخفيف الذي بدأ يتساقط بعذوبة وأناقة، كما لم يكد يكفي السقف المعدني العالي لإبعاد خيوط المطر المتناثرة على الصفوف الأولى من الحاضرين ذلك الافتتاح المهم، والذين تمت دعوتهم بدقة. وكان موقعنا مناسباًَ في الجناح الخاص بالضيوف الأجانب إلى جوار عددٍ من السفراء(لم تكن السفارة السورية ممثلة بسبب تأخر الدعوة كما برر السفير بعد ذلك)، وكانت الترجمة فورية عبر الأجهزة التي وزعت حال وصولنا.‏

تحدث في الافتتاح رئيس المعرض، فأعطى لمحة عن المعرض وأهميته، وقدم إحصاءات حولـه، ثم تكلم وزير الثقافة الذي أشار إلى المساعدات التي تقدمها الدولة للمشاركين في المعرض، وحث الأدباء الإيرانيين على كتابة النثر ولا سيما القصة القصيرة .‏

أما الرئيس الدكتور محمود أحمدي نجاد، وقبل إلقاء كلمته، فقد كرم خمسةً من كتاب القصة الإيرانيين تشجيعاً للكتابة في هذا الجنس الذي ما يزال حضوره خجولاً في المشهد الإيراني، وكان واضحاً في حديثه عمق الإيمان بالثقافة، ومقدار الاهتمام بها ودعمها؛ كما مازح المسؤولين عن المعرض باقتراحين جديين:‏

الأول: إيلاء دور النشر الإيرانية مساعدة أكبر.‏

الثاني: التفكير الجدي بنقل المعرض إلى موقع آخر أكثر رحابة، كي يناسب الاهتمام المتزايد والحضور السخي لرواد الثقافة.‏

وأشار إلى أنه يمكن ألا يحضر الافتتاح القادم إذا ما أقيم في المكان ذاته.‏

ولم يتطرق إلى الشؤون السياسية، على الرغم من الضغوط التي تتعرض لها إيران بشأن ملفها النووي، والتي كانت في ذروتها.‏

كان السيد الرئيس واضحاً متواضعاً بادي الابتسام منذ وصوله إلى مكان الاحتفال، وحتى مغادرته التي تعثرت لانكباب الجمهور الإيراني لمصافحته والحصول على توقيعه.‏

في المعرض:‏

هل هذا معرض للكتاب أم يوم الحشر؟!‏

أفواج وزرافات متدفقة من كل منفذ، تتكاثف منتظرة أمام أبواب الأجنحة التي ينتظر افتتاحها اختتام الاحتفال الرسمي.‏

راغبو ثقافة وطالبو معرفة وطلاب علم ملؤوا جميع ساحات وطرقات وأرصفة وفسحات المكان الذي يمتد ويتوسع عند أقدام السفوح المتصاعدة حتى قمم الثلج المشرفة على طهران من الجهة الشمالية، مما يذكّر بمشهد قاسيون المطل على دمشق مع فارق الارتفاع والبياض.‏

صفوف متوقفة على مسافة عشرات الأمتار ينتظر الواقفون فيها بلهفة وتحفز أدوارهم في الدخول المنظم رغم كثافة الحشد.‏

اقتصرت زيارتنا في ذلك اليوم على بعض الدور العربية؛ لم تكن قد وصلت بعد إلى المعرض كتب وزارة الثقافة السورية، وكان جناحها خاوياً،( أما كتب اتحاد الكتاب العرب فلم تصل أبداً!)؛ وحتى حين أصبح الجناح عامراً بعد يومين، لم تصبح الحال مشجعة أو مقنعة من حيث الترتيب والجاذبية، رغم أن موقعه مميز في مستهل الدخول إلى الأجنحة الرسمية العربية في الطابق الثاني من المجمع الكبير /41/. ومن الغريب أن تغيب سلاسل القصص والروايات العربية، في حين احتفى الجناح بدلاً من ذلك، إلى جانب الكتاب الشهري الذي تصدره الوزارة، بالروايات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية، وكأن مهمتنا نشر الآداب الأجنبية في معرض دولي هو الأضخم في الشرق الأوسط!‏

وتعددت الأجنحة العربية الأخرى؛ سواء منها الرسمية أم الخاصة، وكانت لها مساحات ومشاهد متفاوتة، وكان جلياً لديها الاهتمام الإعلامي الخاص من حيث الصور والموسيقا وبعض الأثريات والنشرات؛ كما كان واضحاً الاهتمام بعرض الكتب الدينية، وعلق بعض الأصدقاء الإيرانيين على ذلك بما معناه (يأتون بالماء إلى حارة السقايين)!‏

تكررت زيارتنا للمعرض في اليوم الثالث لافتتاحه؛ لم يتغير المشهد: كثافة شديدة في الرواد خارج الأجنحة وداخلها، وطوال الوقت. وهذا ما أثلج صدورنا، وترك انطباعاً أكيداً بأن الشعب الذي يولي مثل هذا الاهتمام للكتاب والثقافة ليس غريباً عليه ذلك الاعتزاز الذي تحسه لدى أي من أبنائه، وتلك الثقة التي لا تخفى ملامحها، وليس كثيراً عليه تخصيب اليورانيوم، هذا الذي يفرح الإيرانيون بإنجازه، ويقلق الغربيون لتبعاته.‏

ويمكن القول: إن الحضور السوري في المعرض لم يكن مناسباً أو متناسباً مع المشهد الأدبي في سورية، ولا مع تميز العلاقات السورية الإيرانية في مختلف المجالات. وهذا ما أكدناه وتحدث به المسؤولون السوريون في طهران، وأسف له السيد محمد رضا وصفي نائب رئيس المعرض، وتحدث في لقائنا المهم معه عن رغبة أكيدة بتواجد عربي أفضل وحضور سوري مميز، وأبدى استعداد المسؤولين هناك للمساعدة في تأمين ذلك في الدورة القادمة.‏

أرقام من المعرض هذا العام:‏

مساحة المعرض: /80000/م2‏

المساحة التي تشغلها دور لنشر الخاصة: /24000/م2‏

عدد الدور الخارجية المشاركة: /945/ داراً‏

الدور الإيرانية: /1200/ دار‏

على الدار المشاركة في المعرض هذا العام أن لا تقل إصداراتها عن /40/ عنواناً في كل من العام الماضي والعام قبل الماضي.‏

يصدر في إيران سنوياً ما بين: /38000 / و/40000/ عنوان‏

شيء من النقد الذاتي:‏

هل يشارك اتحاد الكتاب العرب في معرض طهران الدولي التاسع عشر للكتاب؟!‏

سؤال ما انفك يتردد على مسامعنا في جميع اللقاءات الثقافية التي تمت؛ سؤال كنا نتوقعه ونحاذره لأن مبررات عدم المشاركة لا تكاد تقنعنا، فكيف نقنع بها الآخرين الغيورين الملحاحين الذين أضافوا أسئلة أخرى لا تقل أهمية، ولا تقل إثارة للشعور بالقصور في التواصل ومبادراته:‏

– كيف نحصل على الكتب العربية والإنتاج الإبداعي العربي المعاصر؟!‏

– من أين نأتي بالمعلومات حول الأعلام في مختلف الأجناس الأدبية في سورية وسواها؟!‏

– وكيف نلتقي بالأدباء ونتعرف على آرائهم وأفكارهم وأعمالهم؟!‏

صحيح أننا أجبنا بأننا لم نتلق دعوة رسمية خاصة بالاتحاد، وصحيح أن موقع الاتحاد على الانترنيت غني بكل المعلومات عن أعضائه ومنشوراته التي يمكن قراءتها واستنساخها دون عناء، لكن هذا لم يكن كافياً؛ فالمعرض سنوي ومعروف ومميز، وكتبنا تكاد تغص بها المستودعات في المركز والفروع، والأصدقاء الإيرانيون مهتمون بالاطلاع والمتابعة والدراسة.. ولا سيما في المؤسسات الثقافية والجامعات التي تحوي في أقسام الأدب العربي دارسين يزيد عددهم عنهم في سورية، كما قالوا، إضافة إلى أن عدد الذين يحملون شهادات عليا ( ماجستير ودكتوراه) في الأدب العربي يتجاوز العشرة آلاف؛ فأين موارد هؤلاء، من الكتب؟! وأين المراجع والمصادر العربية التي تؤمن لهم استمرار العمل في هذا الميدان الهام الذي يتيح إقامة جسور ثقافية حقيقية بين إيران وسورية بشكل خاص، والأدب الفارسي والأدب العربي بشكل عام؛ سواء من حيث الترجمة، أو اللقاءات المتواترة، والنشاطات المشتركة، وتبادل الأفكار والآراء في قضايا الثقافة والإبداع.. هذه الجسور التي تبدو واهية وقليلة وقاصرة عن متابعة العلاقات السياسية والاقتصادية المميزة والمتواصلة منذ أكثر من ربع قرن بين سورية وإيران، والتي صمدت وتصاعدت رغم الظروف بالغة التعقيد، والضغوط بالغة الشدة التي لم تتوقف يوماً من الأقربين والأبعدين.. وهذه العلاقات أحوج ما تكون إلى الثقافة لتدعيمها وإغنائها، فهي الأسلم والأبقى والأجدى؛ فلماذا لا يقام معرض دائم لكتب الاتحاد في المركز الثقافي العربي السوري في طهران؟! ولماذا لا يقام معرض جوال ومتجدد في الجامعات الإيرانية والمؤسسات الثقافية؟! وبالتالي تصبح المشاركة في معرض طهران الدولي للكتاب تحصيل حاصل، ومحطة لابد منها لتكون النوافذ أوسع والفرص أكثر.‏

أسئلة علينا أن نتحمل مسؤولية الإجابة عنها، وينتظر أجوبتها شغوفون باللغة العربية(المقدسة) وبالإبداع العربي والأدب العربي المعاصر.‏

بين الترف والعزة:‏

هي جنة أرضية لا ينقصها إلا الحور العين، ولا أحسب أنها كانت تفتقدها أيام كان يقيم فيها الشاه محمد رضا بهلوي؛ أشجار باسقة أو متفرعة، خضرة تغطي كل شيء، أطيار مغردة مختالة وجداول مسقسقة… وثلاثة قصور فخمة، أحدها في الأسفل قرب المدخل، والثاني على مسافة صاعدة مئات الأمتار، والثالث إلى الجنوب مايزال يستخدم لضيوف رئاسة الوزراء.‏

الغرف التي كانت للحكم والاستقبال والضيوف والطعام والاستراحة والنوم.. ما تزال على حالها مرتبة أنيقة بمحتوياتها الباذخة التي لا تقدر بثمن، وتنتصب الجدران المزينة بالمرايا، وتطوف الأسقف المرصعة، والأدراج المفروشة بالسجاد الأحمر، والشرفات المشرعة تتدرج أمامها الحدائق المعلقة.. وفي أقصى القصر الصيفي العلوي تتحدب الجبال، وتنحدر لتغيب خلف وشاح الخضرة العميمة.‏

كل شيء على حاله؛ المكاتب، والمفروشات، والأسرّة، وأدوات الطعام والشراب، ولوازم الصيد ولباسه، العربة ذات الهودج التي كانت تجرها الخيول، السيارة، الممرات المنظمة، الواجهات الحجرية المميزة.. غرف الضيوف الكبار الذين كانوا يستطيبون الزيارة والإقامة، والاتفاق على الناس المنكوبين بهم وبحكمهم، وانشغالهم بالألم والجوع ووخز الحاجات ولهفة التوق إلى الخلاص من الاستبداد..‏

أمام كل غرفة تجلس فتاة أو يقف فتى.. والحديث يستطرد عن العناصر الموجودة والتاريخ القاتم الذي تخبر عنه ببريقها الخادع، وزهوها الكظيم..‏

تقف وتتمشى وتقول : ما ترفّه غني إلا بما احتاج إليه فقير؛ ترى هل يمكن التكهن بمستويات الفقر التي كان يعاني منها الشعب الإيراني؟! ألم تكن الدافع إلى الثورة العابقة بلهفة المستضعفين ورؤاهم وإيمانهم بحقهم في العيش بعزة في وطنهم والتنعم بخيراتهم؟!‏

تلك الثورة التي أشرعها الإمام الخميني من منفاه في باريس، وتواصلت بعد عودته إلى أحضان الشعب، وإقامته في ذلك المنزل المتواضع، وتلك الغرفة التي لا تستطيع إزاءها سوى الشعور بالاحترام والتقدير لمن ارتضى أن يعيش عيشة الناس بل أقلهم مقدرة؛ غرفة لا تتجاوز أبعادها (3×5)مع خزانة وصوفا وأدوات أخرى جد بسيطة لا تطل إلا على المسجد المسمى باسمه، والذي لا يبتعد سوى أمتار، يمكن الوصول إليه بدرج نازل، أو بجسر من المعدن يصل الغرفة بالمسجد الذي كان يدخله الإمام خطيباً مصليا،ً بعدما لم يعد قادراً على عبورالدرج؛ مسجد بسيط أيضاً يتكون من طابقين، ولكنه على فقره بالعناصر والأدوات غني بمفردات الإيمان ومشاعر العزة التي استطاعت إشعاعاتها أن تصل إلى عقول الملايين وقلوبهم فتوحدت، وأنجزت ما جعل أباطرة الشر يحسبون إزاءه ألف حساب، ويعدون العدة، ويجهزون قوى العدوان، في محاولة للضغط تخويفاً وترويعاً وتأثيراً على مسيرة منظمة، أقل ما يقال في بُناتها إنهم يعرفون ما يريدون، يخططون له، ويسعون جادين لإنجازه.‏

إنها العزة التي تحدث عنها الأديب الدكتور محمد علي آذر شب في محاضرته التي ألقاها في المركز الثقافي العربي السوري في طهران، العزة التي يحتاج إليها المسلمون لإنجاز حضارتهم المرجوة؛ العزة بعد الإرادة التي من دونها لا معنى للحياة، ومن دون العزة لا معنى لأية قوة أو إمكانية.‏

غادرنا المقر الجليل للإمام الخميني في الحارة المتضاغطة جدراناً وسكاناً وتقى وأحاسيس إنسانية، وفي أذهاننا حكايات وأفكار وأصداء ومقارنات وأمنيات ومشاعر اعتزاز لا تخفى.‏

عالم من الخضرة:‏

تمتد طهران على مساحة بقطر /60/ كم، ويعيش فيها نحو خمسة عشر مليوناً من البشر يستظلون بوارف من الخضرة الدينية والدنيوية..‏

الشوارع منظمة امتداداً والتفافاً واتساعاً وعقداً مرورية كثيفة بمستويات متعددة.. إضافة إلى محورين للمترو تحت الأرض: من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.‏

رغم كل هذا فالازدحام مشكلة حقيقية في طهران، عليك أن تحسب حسابها دون أن يكون ممكناً ضبطه دائماً. لكنك لا تسمع ضجيج المنبهات ولا صراخ السائقين؛ هل يعود ذلك للبرود الذي يتميز به الإيراني، كما أخبرنا المستشار الثقافي الإيراني السابق في الإمارات، وأضاف: لكن إذا غضب فمن الصعب تهدئته. ونحمد الله أننا لم نشاهد أحداً في حالة كهذه؛ فالابتسامة والتودد والتواضع والهدوء كانت سائدة في مختلف المواقع والأوقات..‏

ما يميز” تِهران” (هكذا يكتب اسم العاصمة الإيرانية العملاقة هناك) ذلك العالم الأخضر الذي تكاد تتماهى فيه، وتهنأ بظلاله الوارفة؛ فالأشجار تزنر البناء الذي لا يتعالى كثيراً سوى في بعض الأحياء الحديثة والمنشآت الاستثمارية، وتوشي الشوارع مهما تعرجت أو امتدت؛ فشارع ولي العصر يمتد أكثر من اثنين وعشرين كيلو متراً باستقامة واحدة من الشمال إلى الجنوب، وتكاد تظلله الأشجار الباسقة التي تتقابل وتتقارب حتى تكاد تتلاقى، وتتوزع الأشجار على الأرصفة الجانبية للشوارع بشكل عام كي تبقى الرؤية مؤمنة، ويظل الإحساس بالاتساع قائماً.‏

ولا تتوقف الخضرة عند حدود الأبنية والمؤسسات والجامعات والساحات والضواحي والانحدارات.. مهما كبرت أو صغرت؛ فجميعها مخضوضرة مزهوهرة، حتى يمكن القول إن طهران عالم من الخضرة لا ينتهي!‏

ولا تكاد الحال تختلف في أصفهان مدينة التاريخ الثر والحاضر الحيوي، ولا في قم مدينة الحوزات والمقامات المقدسة.. والتي تتكاثف فيها الخضرة الروحية أيضاً.‏

الأمر عينه في باقي المدن الإيرانية التي لم تتسنّ لنا زيارتها، كما أُخبِرنا، وكما يفترض أن يكون، طالما أن هناك ذاك الإحساس الأخضر الغامر، والذي تؤكده الملامح الإنسانية والمادية، ما ظهر منها وما لا يكاد يخفى.‏

“قم” المقدسة ومكتبة المخطوطات الكبرى:‏

لم يكن أمامنا الكثير من الوقت للتجول في مدينة قم واسعة الشهرة، لكن المعالم الدينية البارزة بزخارفها ومآذنها وقبابها وكثافتها وضخامتها( جامع المعصومة، مدرسة الإمام الخميني للتعليم الديني، جامع آل البيت، الحوزة العلمية…) تجعلك تشعر بالأمان والراحة النفسية، على الرغم من الحرارة الضارية ظهيرة ذلك اليوم، كما أن زيارة مكتبة الإمام المرعشي النجفي للمخطوطات استطاعت أن تغني ذلك العبور السريع من طهران إلى أصفهان.‏

وتعتبر المكتبة ثالث أكبر مكتبة للمخطوطات العربية في العالم، وأكبرها في إيران، وتضم /37000/ عنوان، وقد كان الإمام المرعشي يبتاع تلك المخطوطات بما كان يمكن أن يسد به رمقه؛ جاع كثيراً، وصام عن الآخرين، وصلى عن أرواحهم، وتقاضى مقابل ذلك مخطوطات جمعها، ووضع حجر أساس المكتبة، قبل أن يتوفى بستة عشر يوماً، كان ذلك منذ ستة عشر عاماً. وقد انتصبت الآن خمس طبقات مصممة لمقاومة الزلازل والقذائف الضخمة، وفي مدخلها مرقد الإمام المرعشي بناء على وصيته.‏

ومن أروع ما ضمته المكتبة، إضافة إلى المخطوطات النادرة المكتوبة على البردي أو الخشب أو الحجارة، والأوراق السميكة المنوعة الملونة.. مستشفى الكتب؛ التسمية الأكثر تعبيراً عن عملية ترميم المخطوطات التي تتم بأفضل الطرق وأحدثها، وباحتياطات صحية وبيئية صارمة، وباستخدام الأدوات والآلات والمواد الحديثة التي تعيد الكتاب إلى ما يشبه الأصل بعد أن كان رميماً..‏

اليوم السابع:‏

لشمس أصفهان حين تشرق نكهة خاصة تتصادى في أشعتها حكايا ونوادر و”أغان”، وتتردد عبر الظلال التي تفرشها الأشجار الكثيفة في مختلف الشوارع والأركان تنهدات الذين استظلوا ذات وقت بقبابها ومآذنها وأدعياتها وجدرانها الموشاة – لا تزال- بآثار الفن ونتاج الصبر والفكر وأصداء الإرادة. لشمس أصفهان حين تجدّ في المسير حنين الوداع القادم بعد ساعات، وعتب الذي لم يكد يتلمظ قطرات الألفة، وزفرات الوصال..‏

أتراها انعكاس المشاعر، ونثارات العواطف التي تهاطلت من ملامح الذين التقيناهم دون ميعاد، وسنغادرهم دون أمل أكيد بلقاء قريب؟!‏

هي كلمات قالها “بن ملوحي” رئيس قسم اللغة العربية في جامعة أصفهان: نودعكم وغصة في مدامعنا، وحرقة في صدورنا.. لكأننا نفارق أنفسنا!‏

لم نكد نفرح باللقاء أو نتذوقه كما يجب، وكما يستحق، حتى تضاغطت الدقائق، وتكاثفت المشاهد التي نتشهى اصطحابها أو التزود بها أطول فترة ممكنة. ها نحن نسارع بعد الندوة التي بحثت في تطور المشهد القصصي العربي المعاصر، ومأدبة الطعام التي تلتها، إلى قصر “علي قابو” الأثري، ونتهامس في زواياه المتباعدة، فتسمع الهمسات بوضوح محير والوجوه متخالفة؛ هي إحدى عجائب الرحلة التي لم تستطع الإحاطة إلا بجزء يسير منها؛ جامعا الإمام الخميني في السوق الكبير المستطيل الذي تسوره المحلات ذات التحف والبضاعة المتعددة والمصنوعات المميزة والثياب والسجاد.. والـ..منّ والسلوى..‏

كان الوقت سوطاً عنيداً، والشمس قارسة بعتبها، والمرافق الدليل متردد يحتاج إلى دليل أكثر تسارعاً وحكمة في مثل هذا الظرف الذي يضيق باطراد؛ فلا استطعنا زيارة حديقة الطيور، ولا معاينة المئذنتين التوأمين( تهتز إحداهما لدى اهتزاز الأخرى)..‏

لم يكن بإمكاننا إعطاء المدينة المميزة حقها، وهي تحتفي بأعلام الدول وسط الساحة وجوار البحيرة، عاصمةً أخرى للثقافة الإسلامية إلى جانب المدينة العزيزة حلب.. ربما كان للمساء الجميل الذي سبق ما يواسي عبر المسير المسحور فوق الجسر المميز ذي الأعمدة الثلاثين على النهر الكبير، والجلوس جوار الماء المتدفق خلال إحدى فتحاته مع قرقرة النارجيلة، وارتشاف بعض الشاي الحلو!‏

أن تشرق الشمس في أصفهان، وتغرب في قم، فأنت تفقد الكثير، فتستقبلك الأضواء الأرضية التي تستمد وقودها من مقامات الأولياء وحضورهم الكثيف..‏

لكن بعض الوقت لا يكفي، وأنت تعبرها من جديد في طريق العودة، التي تمتد أكثر من أربعمائة كيلومتر بين أصفهان وطهران، التي ستلوح أضواؤها بعد حين، تتقارب وتتباعد، تستقيم وتنحرف، بعد أن تجاوزنا مرقد الإمام الخميني، وستضاعف الضغط على اللحظات والأعصاب بإحساس المفارق حلماً أو كالخيال، واقعاً أو حكاية لم تطل، ولن تنوس أصداؤها في وقت قريب؛ أطيافها ستستوطن –لا ريب- في تلافيف الذكرى مع تويجات الأمل بلقاءات أخرى، وإحساس بالرضى والود قرأته في كل العيون التي كنت تلتقيها عرضاً، أو تتقصد تقرّى ملامحك القريبة، كما ملامح أصحابها الأليفة التي احتضنتك أياماً، وأسعدتك كثيراً، ورحبت وتقاربت وانفتحت، شعور تتنسمه عبر الكلمات المعبرة والمواقف النبيلة لأصدقاء كان منهم من كان، وصار آخرون.. أبناء الوطن الذين غمرونا باللطف والدماثة والاهتمام..‏

إنه اليوم الطويل بأحداثه والقصير بساعاته؛ اليوم السابع للرحلة التي ستنتهي مع انتهائه، اليوم الذي بدأ في أصفهان جنوب شرق طهران، وسينتهي في دمشق الثالثة صباحاً، حيث الفجر سيطل نقياً أليفاً يناغي أويقاتنا التي لما تستقر بعد، ويدغدغ قلوبنا التي ما تغربت تماماً، ولكنها تلفتت كثيراً لكثير من الحب، وقليل من العمر الذي كان.. في إيران!‏

اترك رداً