ليس آخراً
زقزقة
غسان كامل ونوس
تضجّ في داخلك الأفكار، وتتشوّش الرؤى، وتختلط المشاهد، المزعج منها والمروّع والمحيّر، وتتداخل الأخبار الفاجعة القريبة والدامية في الطرق والحارات.. والجوار؛ حتّى في بيتك.. ربما؛ فتحسّ كأنّ في دماغك وكراً للدبابير، أو نفقاً للجرذان، أو كأنما “على رأسك الطير”، أو على صدرك صخر تدقّه المطارق، أو أنّ الأسنّة تتنابل في جبهتك، ولا تتكسّر النصال على النصال في جنبيك، وما يسيل على وجهك وفي ثناياك ليس سوى سوائل حمر؛ فتكاد تقع إذا ما وقفت، وتعرج إذا ما مشيت، وليس ما تحتك إذا ما كنت مستلقياً بأيّ داعٍ سوى شوك ومخارز..
وتكاد لا تتنبّه إلى الفجر، أو لا تريد أن تستشعر الصباح؛ فما من مكان لوخز جديد، ولا حيّز لأنةٍ مستجدّة، ولا مسمع لخبر قاتم.. ولا حتّى لعبارة أو ترنيمة أو ترتيلة مذكّرة بمواعيد وفروض وواجبات..
ولا ترغب في أن تصدّق أن زقزقة بكّرت، وعبرت ستر النافذة العاتم أو ركام الوقر في مساماتك؛ فكيف استطاع عصفور أو طائر ما عبورَ الأجواء المسكونة بالمقذوفات الطائرة الهادفة أو الطائشة؟! وكيف يقدر أن يزقزق إذا ما قدّر له أن يفلت منها، كما يقدّر لأفراد كتبت لهم الحياة من جديد، بعد كمائن محكمة، وحصارات خانقة، حتّى إنّ بينهم مصابين رجوا زملاءهم أن يقتلوهم، لكي لا يقعوا في أيدي من لا يعرفون الرّحمة، أصحاب القلوب الذين لا ينتمون إلى صنف البشر، وهم يحملون “الحدود” المثلّمة من الحزّ الليّن.. ناهيك عن فصول الفتك الأخرى وأدواتها الأفظع!
لعلّك تردّد في سرّك الأمنية ذاتها، وأنت بينهم؛ تنتابك قشعريرة؛ فما كنت تراه ليس إلا كابوساً يتكرّر في حالات التنوّم، كما يعاود جلده في حمّى اليقظة..
تتململ لتختبر قدرتك على الحركة، فتُفَكَّكُ عقد، وتتوالى طقطقة، كأنّ نومك امتدّ أكثر من أهل الكهف، رغم أنك في فراش وتحت غطاء و.. سقف، وسواك يتلبّس العراء في برد كانون وعتمته وجنونه، وضغط الترقّب الجحيمي لضربة قاضية أو قنص مباغت، أو يستعدّ حاملاً مكتظاً أو محمولاً على آلة صمّاء قد تغدو “حدباء”، في طريقه إلى مهمة نوعية، أو عملية استئصال دقيقة، لا مناص فيها من كونه قاتلاً أو مقتولاً.. هو الذي لم يتعوّد مثل هذه المواقف، ولم يتوقّع أن مثل ذلك يمكن أن يحصل في هذا الموقع أو ذاك من الجسد الواحد، رغم أن التاريخ والمسموعات والجهات لا تكاد تسكت عن مثل ذلك المعترك الذي يهيم فيه الكائن العاقل، بعد ما امتلك أعماق الأرض وأركان السماء!
تحاول التنصّت، لتتأكّد أن الصوت حقيقي، وليس حلماً شرد من بين أوصالك، وأن الضوء طبيعي، وليس وهجاً ناجماً عن جمر لا يرمد، وحريق في البال. تتحرّك بمشقة، لأن المكابس على المفاصل لا تتفلّت بسهولة، ولا تتنزّل الأثقال عن الأطراف التي لا تحمل إلا نفسها، وتحاذر أن تمدّ أصابعك المتيبّسة إلى وجهك مخافة أن تجرّحه، وأنت تزيل عنه ما تظنّه طبقات من قتام، ولا تحاول أن تصل إلى رأسك الذي تحسب ما عليه أشعث ملبّداً، تحاذر أن تمرّ بالمرآة كيلا تكتئب أكثر من رؤية شكلك الشيطاني بقرون وأظلاف وأشياء متطاولة ومتدلية، تُجَرجَر أو تُسحج أو تهوِّم!
لكنّ الخوف يقودك إلى استراق النظر إليها، فتدهش وتنظر حولك؛ فهل يساكنك أحد؟! أو يجاورك، أو يداهمك كائن آخر؟! الأبواب موصدة جيداً والنوافذ محكمة، والأصوات الراجّة والقابضة تصل من بعيد أو قريب..
الكائن يشبه أحداً تعرفه، أو كنت تعرفه، وتحنّ إليه، إلى هيكله، رغم أن للشياطين المتربصين الغازين الغادرين لهم أشكال مقاربة وهياكل مشابهة.
ها هو يحاول أن يهرب إذ تهرب، ويتقدم حين تتقدّم، ويحرّك ما تحرّك، ويخبّئ ما تخفي.. في وجهه ملامح إنسان، وفي مظهره شكل آدمي، وعناصر وجهه ظاهرة، وشعره منكوش قليلاً أو كثيراً، ولكنه خفيف كشعرك وناعم؛ لعلّ الكائن المقابل أنت!
صوت الزقزقة يتوالى ويتكاثف؛ أمعقول أنك نجوت مرة أخرى؟! وأنّ لديك طاقة وحيوية ورغبة.. تدفعك إلى أن تتأكّد من ذلك، وأنّ لديك شعوراً بالضوء الذي ينتثر أكثر فأكثر؛ حتى الشمس تشرق، وتطلّ من بين الغيوم، لتؤكّد لك أنّ حياة ما تزال لديك ولدى الآخرين الذين تتعالى أصواتهم في أكثر من صوب..
إذن.. ما زلتَ حيّاً؛ ويفشل الموت بالرصاص أو بـ”الأسلحة السوداء”، وبالكوابيس، والتهديد والترهيب والتجويع..؛ لم تنتهِ أوقاتك وفرصك واحتمالاتك، كما لم تُختتم الحياة لدى كائنات أُخر!
لعلّ في ذلك أملاً ودافعاً وسبيلاً إلى السعي بوعي وجدّ من أجل خلاص جديد، خلاص وشيك.. أكيد!!
***
غسان كامل ونوس