الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: البعث 15785
تاريخ النشر: 2017-03-12
رابط النص الأصلي: http://albaath.news.sy/?p=127224

ذات ضحى خريفيّ مكتئب من العام (2013م)، جاءني اتّصال مشرق من الصديق الدكتور جورج جبّور، يقول: قرأت في جريدتكم “الأسبوع الأدبيّ” أنّك سترأس وفد اتّحاد الكتّاب العرب إلى اجتماع المكتب الدائم للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في عُمان، بصفتك نائباً لرئيس الاتّحاد؛ أستودعك أمانةً؛ أن تلفت اهتمام المجتمعين إلى ضرورة التحضير لمئويّة وعد بلفور، على الساح الثقافيّة العربيّة!.
وكان ذلك الأمر واحداً من موضوعات عدّة طرحتها في الجلسة الافتتاحيّة صباح (24-11-2013م)؛ منها ما يتعلّق بدور المثقّفين الباهت في مواجهة ما تتعرّض له بلداننا من عدوانات وفتن وتخريب ممنهج؛ وهل غدا المثقّف العربيّ مثل لاعب كرة محترف، يسدّد حيث يريد من يدفع له، ويسجّل أهدافاً في مرمى خصوم من يستضيفه في منبره الإعلاميّ؟! ومنها التأكيد أنّ الحلّ الثقافيّ هو الحلّ المضمون لأزماتنا المتكرّرة، وقد تمّت الإشارة إليه في القرارات التي نتجت عن الاجتماع المذكور.
وحين جلسنا لصياغة البيان الختامي، ممثّلين للوفود التي كُلّفت بذلك؛ بناء على طروحاتها ونقاشاتها وأفكارها في مختلف الجلسات، ثبّتنا الفقرة الأولى التي تتعلّق بقضيّة فلسطين المحتلّة، وتتضمّن خمسة بنود، وفيها بند خاصّ بمئويّة وعد بلفور كان نصّه الآتي:
“ينبّه المجتمعون أنّه بعد أربع سنوات من تاريخه ستحلّ الذكرى المئويّة لوعد بلفور المشؤوم والكارثيّ، الذي منح الصهاينة ما لا يملك، بوعده بوطن قوميّ يهوديّ في فلسطين، الذي هيّأ مع مزاعم صهيونيّة بحقّ لا يقرّره التاريخ، ولا يقبله الواقع، وقد فرض بقوّة السلاح ودعم قوى الاستعمار الغربيّ، وهذا مخالف لكلّ المواثيق الدوليّة والقوانين والأعراف التي تمنع احتلال أرض الآخرين، وهذا يتطّلب الحشد الثقافيّ المقاوم للاحتلال، وتعبئة الرأي العام العربيّ والعالميّ بضرورة العمل لإزالة آثار هذا الوعد، مع استخلاص العبر من قرن مضى على الاغتصاب والاحتلال.”
وقد صدر البيان مع المقرّرات والبيان الثقافيّ وبيان الحرّيّات مساء (27-11-2013م) في مسقط عاصمة سلطنة عُمان.
لكنّ الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، ويستدعي التساؤل، هو ضعف الاهتمام بهذه المناسبة المُرّة، للوعد المشؤوم، التي تحلّ بعد أشهر، خلال السنوات التي مرّت بعد ذلك الاجتماع، وذلك البيان، الذي خرج عن مؤسّسة ثقافيّة مهمّة، باسم الاتّحادات والروابط والأسر والجمعيّات، التي تمثّل الكتّاب والأدباء في جميع الأقطار العربيّة ما عدا السعوديّة وقطر، اللتين لا توجد فيهما مثل هذه الروابط. هذا ما لاحظته من خلال متابعتي، وأرجو أن أكون مخطئاً، وما لاحظه أصدقاء أدباء أيضاً؛ إذ إنّ عدداً محدوداً جدّاً من المؤسّسات تناول هذا الأمر في اجتماعاته أو ملتقياته، وعدداً قليلاً من المثقّفين، اهتمّ بذلك!.
ومهما تكن من حال، فإنّ القضيّة تتطلّب جهداً مؤسّساتياً حيويّاً وممنهجاً ومتكاملاً.. ليس على الصعيد الثقافي فحسب؛ بل في الميادين كلّها، وإنّ عملاً مهمّاً، كان يجب أن يُنجز، وكان ممكناً، بعد أن يحضّر له على صعيد المؤسّسات القوميّة والوطنيّة. وإذا كان متعذّراً أو مستبَعداً، أن تقوم به حكومات تابعة للفلك الذي أصدر وعد بلفور، ولم تعد خجلة من مواقف باتت معروفة، بعد أن كانت خارج الضوء، فإنّ مؤسّسات أخرى أكثر استقلاليّة، في بلدان أخرى لها موقف مقاوم، كان وما يزال بإمكانها أن تبادر إلى القيام بذلك، من دون أن تنتظر إشارة قوميّة، أو أمراً حكوميّاً غير ضروريّ، وغير معترض على ذلك؛ بل محفّز ومبارك، ويمكن أن ترعى الجهات الرسميّة مثل هذه النشاطات، وتسهم فيها، على الرغم من حال الانشغال بما يجري في أحيازها من وقع قارس، لا يقتصر عليها؛ بل يجتاح الساح العربيّة في معظمها؛ من عدوان على القيم والكرامات والسيادات، والماضي والحاضر والمستقبل؛ وهو عدوان يأتي تنفيذاً لمخطّطاتِ من أسهم في تكريس الواقع، الذي تضمّنه الوعد الكارثيّ، وفي السياق العام لتبعاته وانعكاساته، واستطراداً لأبعاده وأهدافه المدمّرة.. وهو يفاقمه بوعود وشعارات وغايات بارزة (الشرق الأوسط الكبير، والجديد، والفوضى الخلّاقة…) في محاولة مستمرّة وجليّة لاستكمال السيطرة على المنطقة ومقدّراتها، بشكل مباشر وأشكال غير مباشرة؛ عن طريق التسفيه والتشويه والتصديع والتشريخ والتخريب في جسد البلد الواحد والمجتمع الواحد والكائن الواحد؛ بمشاركة بعضٍ من أهل الديار المنكوبة، حكّاماً ومرؤوسين!، وهذا ما يجب أن يدفعنا أكثر إلى استذكار ذلك الوعد، وتحضير ما يمكن من الوثائق والخلاصات والشواهد والشهود، والعمل في المحافل الدوليّة لتحميل الجهة التي أصدرته، ومن أسهم في تنفيذه، المسؤوليّةَ الأخلاقيّة والتاريخيّة عمّا حصل بسببه خلال قرن من الزمان، من سفك دماء، واحتلالات، وظلم وعسف وتدمير مصائر لأجيال في فلسطين المحتلّة صهيونيّاً، والأقطار العربيّة الأخرى المعتدى عليها، والمهدّدة باستقلالها ونهضتها ووحدة أراضيها.. وهو ما يستدعي اعتذاراً على أقلّ مستوى، أو السعي من أجل الحصول عليه؛ إضافة إلى كثير من إجراءات ومطالبات ونشاطات ومبادرات…
صحيح أنّ وقتاً كثيراً قد فات، لكنّ الأوان ما يزال مفتوحاً لأعمال، تؤكّد أنّ ذاكرتنا ما تزال تعمل، ووعينا ما يزال قادراً على المعاينة والتبصّر، وإرادتنا ما تزال حاضرة للقيام ببعض ما يفترض القيام به، وما يمكن؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وليبقى مطروحاً أمام الأجيال القادمة، للبناء عليه واستكماله بما هو ضروريّ ومفيد وأكثر جدوى.
***

اترك رداً