الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

حكاية من زمن قريب

الأسبوع الأدبيّ-

غسان كامل ونوس-

يحكى أنّ جماعة شبه منسيّة، ارتأت أن تبدأ العمل في مشروعها الثقافيّ الخاصّ؛ بحماسة واندفاع وبمبادرة ذاتيّة، وتطوّع وعطاء وبذل؛ من دون تعويض أو انتظاره، من أيّ أحد أو نوع كان، ولأيّ من العاملين المسهمين بوعي في الأداء الميدانيّ المشهود. وكان العمل يمضيّ بجدّ واجتهاد وجدّيّة، من دون انتظار مساعدة أحد، أو إطلالة مسؤولة أو رعاية خارج الإطار، الذي توسّع من قرية إلى قرى، ومن مجموعة إلى تجمّعات.. وكان يلاحظ أن التجربة، من لقاء إلى آخر، تزداد رسوخاً وجاذبيّة، ويزداد المشاركون كمّاً ونوعاً بالتحاق موهوبين جدد بالركب السيّار، مع ثقة تتنامى، بالنفس والقدرات وما يُقدّم، وبالمستقبل؛ وهو الأهمّ؛ على الرغم ممّا لاقت القافلة، لدى انطلاقتها، من عدم اهتمام، على أقلّ تقدير، من قبل كثيرين قريبين وبعيدين، في الدائرة نفسها، أو في دوائر أعلى! ومن شرائح معايشة، وأخرى منبتّة؛ لمسؤوليّة أو تعالٍ، أو لغياب المصلحة الشخصيّة المباشرة، أو لانشغال باهتمامات مغايرة.. وعلى الرغم من الظروف العامّة المكدّرة، والخاصّة المحزونة؛ لفقدٍ في الأنفس والأعزّة، وخسارة في مواقع العمل والإنتاج، وتخريب في المساكن والممتلكات، وتعثّر في الانتقال والسفر، وشحّ في الموارد، واغبرار في الآفاق.. يتوزّع هذا كلّه أو بعضه، الحيّز نفسه، والأحياز الأخرى البعيدة كما القريبة.. فإنّ المشروع استمرّ، وتصاعدت وتيرة الإنجاز؛ بحضور كثير من الأهلين، وتشجيعهم، ومباركتهم، وغيابٍ مسؤول إلّا في المستويات الأقرب!

وكان أن فكّر بعض الغيورين على هذا الفعل الثقافيّ الجادّ، القريبين منه، العارفين جوهره وإيقاعه وتأثيره ومداه، أنّ من حقّ هؤلاء الصغار واليافعين والشبّان، ومن همّوا في مجرى الأيّام أكثر، وما تزال لديهم الهمّة والرغبة واللهفة، أن يضاء على تجربتهم، وأن تظهر معالم مشروعهم، لشرائح أخرى، وعلى مساحة أكبر في الوطن العزيز؛ احتراماً لخيارهم، وتقديراً لإنجازاتهم، وتعميماً لمواهبهم وإمكانيّاتهم، وتعميقاً لهاجسهم الرؤيويّ، وتدعيماً لاهتمامهم المختلف؛ عسى أن يقتدي بهم آخرون، وأن يحذو حذوهم من لديهم هاجس وموهبة وتوق، ويحتاجون إلى هادٍ ودليل ومثال، ممّن يعيشون الظروف ذاتها، ويعانون من أحوال تقارب أحوالهم، أو أفضل منها، ولم يُقدِموا على مغامرة كهذه؛ لأسباب شتّى..

وتمّ الاتّصال بمن يلزم، لإجراء ما يلزم، وكان الوعد بذلك!

وارتأى بعضٌ؛ بحسن نيّة، وصفاء طويّة، أن تبدو الأمور أبهى، وأنصع؛ لأنّ الإعلام سيغطّي الفعاليّة، فلا بأس أن توسّع النشاطات، وتتعدّد الفقرات، ولا بدّ، من أجل أن تكون الجمهرة مميّزة، والمناسبة قيّمة، أن يحضر المسؤولون، وتقام الطقوس المرافقة المعتادة، ومن البدهي، أن يُحرص في الإبلاغ على تأكيد أنّ الإعلام موجود! ولهذه الإضافة فعل سحريّ؛ فاللباس سيختلف، والملامح ستتزيّن، وطالبو المشاركة أكثر، والحماسة لدى الجميع أكبر! والعدد سيتضاعف حتماً؛ فكمّ الفعاليّات الموجودة في المنطقة والمرافقة للاحتفال، سيزداد، وبعض الذين كانوا قد انقطعوا عن الحضور؛ اعتراضاً على مساحة الاهتمام بهم، التي يريدونها أكبر ممّا يستحقّون، وممّا يمكن أن يقدّموا، سيهرعون، وكثير من الأطفال، الذين لا عمل لهم، ولا جدوى من وجودهم؛ لكنّ لأهليهم رغبة في إظهارهم على الشاشة، وتعويدهم على الفرجة المغرية، بعد أوقات عصيبة ومشاهد قاتمة طالت كثيراً!

وجاء من جاء، وحضر المعنيّون الطبيعيّون، واحتشد من لهم علاقة ولا علاقة لهم، وتضاعف انشغال القائمين على النشاط بترتيب الجلوس، ومعالجة عقد سلسلة الترحيب الحسّاسة، واختيار الموادّ الأكثر تفاعلاً من الجمهور، والأكثر حيويّة، وخرج من خرج من المسؤولين المشغولين، وتعثّر التقديم بين الفقرات المعهودة، وما استجدّ من موادّ؛ لضرورة المناسبة! وضاعت جدّيّة الموهوبين، وتعذّرت مشاركة بعضهم؛ لكثافة المشاركين والراغبين، وهمّشت تضحية أصحاب المبادرة الحقيقيّين، وتعذّر إتمام الإجراءات التقويميّة والتوجيهيّة المعهودة، وانشغل الجميع بالمصوّرين وأجهزتهم، من الفريق الإعلاميّ المختصّ- ومن الهواة والمكلّفين- وهم يصولون ويجولون، ويختارون الزوايا والمواقع الأكثر مناسبة في المشهد والخلفيّة، ويصوّرون من يلفت أنظارهم، وما يروق لهم، وما يبدو أكثر حيويّة، وينادون لهذا، ويهتمّون بذاك، ويهملون آخرين…

وانتظر كلّ من حضر، أن تزيّن صورته الشاشة، وتمنّى كلّ من شارك، أن يرى أداءه الجمهورُ الواسع؛ سواء على الشاشة، إن تتكرّم الكهرباء، أو على الشابكة (النتّ)، في مواقع وصفحات عامّة وشخصيّة.   

ولكن..

أين ذهبت المشاهد، التي تعدّدت؟! وأين تبخّرت الأوقات، التي استهلكت في تخيّرها، وأين الدقائق، التي تحدّث فيها المشاركون في مختلف الفعاليّات، والمشرفون عليها؟!

كان الوقت، الذي عرض (تغطيةً) للاحتفاليّة كلّها شحيحاً، والمشاهد مقتضبة، ومقتطعة بلا مسوّغ، والمقابلات مبتسرة، وغيّب كثيرون عن المشاهد؛ ظهورأ وكلاماً.. فإذا كان هذا هو الوقت المسموح به، أو المقرّر لهذه الفعاليّة المميّزة- ومن الذي يقرّر؟!- لماذا التعب والوعد والوهم؟! ألا تستحقّ مبادرة ذاتيّة بعرق ولهفة وهاجس وشغف وتطوّع، اهتماماً أكبر، وتحفيزاً أوسع، وإضاءة حقيقيّة، وتغطية واقعيّة؟! بصرف النظر عن ثقافة الإعلام (الثقافيّ) والقائمين به وعليه، وأهمّيّة الأسئلة والحوارات والإجابات، ومع الانقباض من هشاشة وسطحيّة وسذاجة وخيارات وعشوائيّة؟! وهل يقتنع أحد بأنّ الوقت ثمين، لدى الإعلام المرئيّ، إلى هذه الدرجة؟! وأنّ الأوقات الأخرى مشبعة بما يليق؛ من حيث الفائدة والمتعة والجاذبيّة والقرب والإقناع؟! ألا تشكّل هذه المحصّلة، التي تمخّضت عنها الهمهمة والحمحمة والتمتمة، إحباطاً للهمم وإضعافاً للعزائم؟! وكيف سيستوعب الموهوبون والأهلون ما جرى، ويستأنفون استكمال المشروع الواعد؟! وبأيّ نفسيّة وقابليّة وهمّة؟! وكم من الوقت والهدهدة، ومحاولات التخفيف من الأثار والانعكاسات وردود الأفعال السلبيّة لِما حدث، يحتاجون غليه؛ للعودة إلى لإقلاع القعّال والمجدي، والوصول إلى نتائج إيجابيّة مطّردة؟!

لا شكّ في أنّنا نحتاج إلى إعادة نظر في كثير من السلوكات والأعمال، اختياراً وتنفيذاً وإخراجاً وإظهاراً، ولا بدّ من التقويم الموضوعيّ للمنجز الإعلاميّ- وخاصّة الإعلام الثقافيّ- وصداه وجدواه؛ ولا سيّما في هذه المرحلة، التي نحن في أمسّ الحاجة إلى كلّ مبادرة مبشّرة، وحبّة عرق، وقطرة دم، ما تزال تتشكّل، وتسيل في مجاريها الطبيعيّة، وإلى كلّ موهبة وإمكانيّة وطاقة؛ وخصوصاً إذا ما كانت كلّها منبعثة من الذات، وبشعور شخصيّ بالمسؤوليّة، من أجل إعادة بناء حقيقيّة، والإسراع في تعويض ما فات من وقت وفرص واحتمالات خلّاقة.

***

 غسان كامل ونوس

اترك رداً