الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

حروب الإبادة غير الثقافيّة

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

بات من المتداول والمتناول في البحث والدراسة والتوصيف والتحقيب، أنّ للحروب أجيالاً، تعدّدت، حسب الأدوات والوسائل المتاحة زمنها، والمستعملة فيها. ومن المؤسف حقّاً، ونحنّ نجدّ الخطا في العقد الثالث من الألفيّة الثالثة، أنّ الغايات القاتلة لدى الكائن (العاقل!)، لم تضعف؛ بل إنّ الحال تفاقمت؛ إلى محاولة القضاء تماماً على العدوّ ووجوده الكيانيّ والتكوينيّ والمادّي، أو ما يعدّ عدوّاً مفترضاً أو حقيقيّاً، وبأقلّ الخسائر الذاتيّة، وأسهل السبل، وأسرع ما يمكن. ولا شكّ في أنّ العامل البشريّ، كان، وما يزال، العنصر الأساس في أيّة مواجهة؛ وقد انتقل المقاتل من المواجهة المباشرة بالأجساد، إلى السلاح اليدويّ، فالآليّ، فالمواجهة من خلف متاريس، وتضاريس، وحدود، وشاشات، ومسافات، وغيوم، وأجواء، وفضاءات، وأجرام ربّما. وإذا كانت تسميات مدجّنة، تطلق على بعض أنواع الحروب والسلاح؛ الحرب الناعمة، والسلاح الأبيض، والصواريخ الذكيّة، وبنك الأهداف، ورصاصة الرحمة… وهي تتنافى مع طبيعة الحرب القاتلة، وما يرمز إليه البياض، وما يفترض أن يحيل إليه الذكاء،  وما يوضع في البنوك، وما تؤدّي إليه الرصاصة، التي تؤكّد الموت… وهي ألفاظ تدغدغ الأسماع، أو تخفّف من وقع القتل المقصود في هذه وتلك؛ كمن يضع لك السمّ في الدسم، أو ينفث الرذاذ القاتل مع ضحكته، أو يسدّ منافسك، وهو يمسح على وجهك، أو يشاغلك عن الحقنة المميتة بالكلام المعسول… فإنّ الأخطر أن توصف حروف إبادة بأنّها ثقافيّة؛ وإن كان لا يخفى أنّ المقصود بها استعمال الثقافة ميداناً لها، وعناصرها وسائل للمواجهة، التي تستهدف إفناء أرواح بالجملة، ومن دون تفريق بين كبير وصغير، مقاتل أو مدنيّ، مسلّح أو أعزل، مشارك في الحرب، أو نائم في فراشه، متيقّظاً، مستنفراً، أو يعيش أوقاتاً حميمة! فللثقافة معنى إيجابيّ تقويميّ بنائيّ إنسانيّ؛ فيما الحروب بمختلف أنواعها غير إنسانيّة، وإن كان بعضها مشروعاً وواجباً ومفروضاً، للدفاع عن النفس، أو لاسترجاع حقّ مادّيّ أو معنويّ مغتصب، لا تنفع معه السبل الأخرى. ومع ذلك، ومع ضرورة البحث عن تسمية مناسبة، يجب العمل عليها؛ قد تكون: الحروب اللا مادّيّة، فيمكننا القول إنّ التأثير على العامل البشريّ، أساس أيّ مسعى للسيطرة على العدوّ، أو أيّة خطوة نحو الفوز، وإنّ أيّ سلاح؛ مهما كان ذكيّاً، وفعّالاً، ومذخّراً، ومحصّناً، سيغدو من دون فائدة، إن كان كادره البشريّ جاهلاً، أو جباناً، أو مستسلماً، أو متعاملاً مع العدوّ؛ على عكس جسارة المسلّح نفسيّاً، وصموده، واستعداده للتضحية؛ حتّى إن كان من الظلم المقارنة بين عديده وسلاحه وزوّادته وإمداداته، وبين ما لدى العدوّ من تفوّق. وإنّ الثقافة الحقّة المدعّمة بالمشروعيّة، والمحصّنة بالقناعة، والمدجّجة بالانتماء الحقيقيّ لهذه الجبهة، والمؤمنة بأهدافها، كفيلة بصمود المقاتلين حتّى النفس الأخير، أو دحر الأعداء والانتصار عليهم؛ مع الشجاعة والوعي والاستعداد النفسيّ، والرضا الذاتيّ، والمسوّغات المنطقيّة والعاطفيّة، للاستمرار في المواجهة، والتطلّع إلى تحقيق الانتصار الأكيد، والسعي الجادّ إلى أن يتمّ هذا بزمن قياسيّ، وفواقد محدودة في مختلف المكوّنات. ولا شكّ في أنّ الوسط المقاتل أو الحاضن له، سيكون أكثر ثباتاً، وأفضل رؤيا، إذا ما كان مستعدّاً مادّيّاً ومعنويّاً، مكتفياً، أو مؤمّن الدعم والمساندة، موحّداً غير مشرذم، ومنسجماً غير مصدّع. إنّ جنديّاً مهزوماً من الداخل، يغدو وسلاحه ورفاقه وقطاعه ربّما، هدفاً ساقطاً من نفسه، ويسهّل على العدوّ التخلّص منه، ويقلّص لديه وقت المعركة وأكلافها، ويمنحه الشعور بالقوّة والبأس والثقة لمتابعة التقدّم، وزيادة مساحة السيطرة، وكلّما ازدادت أعداد المنهزمين من دون أن يواجهوا، كانت الخسارة واقعة، والهزيمة أكبر وأوسع، وأبعد مدى وصدى وتبعات. فما من شيء يعوّض المعنويّات؛ مهما كان السلاح حديثاً ومتطوّراً ودقيقاً وبعيد المدى المجدي. وهذا ما يسعى إليه كلّ من المتقاتلين في الجانبين، وقد تدفع من أجل هذا أموال طائلة، وتستخدم وسائل متنوّعة، وجاذبيّة مرغّبة، ومواقع وأحياز منتقاة، ويجنّد كثيرون محترفون وهواة، ولا مبالون، ولا منتمون، بمختلف الأشكال والاهتمامات والعلاقات، ومن مختلف الشرائح والاختصاصات والعقائد والمرجعيّات، ومن بينهم للأسف من يدّعَون مثقّفين، فيكون لكلامهم ولحضورهم ولأقلامهم على الشاشات والمنابر، التي تتحوّل إلى جبهات متقدّمة، ومرافقة، ولاحقة، تأثير لدى متلقّين، وكلّما زادت شهرتهم، زاد الاعتماد عليهم في إضعاف روح المواطنين في جانبهم، والتقليل من عزيمتهم، وتصديع إرادتهم في الصمود والمواجهة، وكلّما تعدّدت المنافذ التي يظهر عبرها هؤلاء، كان التأثير أكبر، وأعمّ، وأخطر، ومن الواضح أنّ الأمر يستهدف الجميع بلا استثناء، المقاتلين وبيئتهم، التي يفترض أن تكون حاضنة لهم. ومن هنا تأتي فكرة الإبادة؛ فمن الطبيعي أن يكون الأقلّ ثقافة، ووعياً، وقدرة على التحليل والمقاربة والفهم والاستيعاب والتعامل مع كلّ سلاح، وظرف، وموقف… الحلقة الأضعف في السلسلة، التي يفترض أن تبقى متماسكة واثقة مقاومة في مختلف الظروف والمراكز والأوقات؛ من دون أن ننسى أن قدرات إضافيّة، وطاقات مهيّأة، وإمكانيّات مختلفة المصادر والأنواع، تلعب دورها أيضاً، في اتّساع التأثير، وحدّته؛ فالهدف إذاً ضرب الآخرين، وشلّ قدراتهم، والتشويش على ملكاتهم وأفكارهم؛ فيصبحون كالمأخوذين المستلبين العاجزين عن التبصّر؛ بلا حول ولا قوّة، ويستسلمون أو يتمّ القضاء عليهم في مواقعهم، أو قد ينتقلون إلى الضفّة الأخرى! وليست هذه الحروب جديدة؛ بل هي قديمة، وتتجدّد، وتتّسع، وتتفاقم، وتستشرس؛ من حيث كمّ المشاركين والمستهدفين، وكثرة الضحايا! إنّ من بيننا؛ للأسف، من قد يسهم في هذه الحروب الفتّاكة، من دون قصد ومن دون وعي، ويقدّم خدمات مجّانيّة للعدوّ المتربّص، فيغدو ثغرة ينفذ منها الفيروس القاتل، أو حاملاً للعدوى، أو مروّجاً لتسويقها لدى المواجهين وداعميهم وأرصدتهم؛ أمّا أولئك المنسحقون المنقادون من أحقادهم وصَغارهم، ودونيّتهم، وشراهتهم؛ فهم خارج أيّ تصنيف إنسانيّ، أو معنى إيجابيّ، أو حضور مجسّد في الصفحات المشرقة من تاريخ الشعوب والأوطان المتحضّرة الجديرة بالحياة الحرّة الكريمة.

***

غشان كامل ونوس

اترك رداً