تنطوي العلاقات الاجتماعيّة على كثير من الحالات، التي يزيد فيها السلام والكلام والسلوك، والملامح أيضاً، عمّا تتطلّبه الحال، أو تقتضيه المناسبة، وقد يسمّى بعض هذا في العرف الاجتماعيّ؛ تسويغاً ربّما، بالمجاملة!
وإذا كان من الممكن تفهّمها في الأحوال العامّة؛ فهل تجوز المجاملة في الثقافة عموماً، والأدب خصوصاً؟!
فهل يصحّ أن يتضمّن تقويم لنصّ عبارات لا يستحقّها، وتوصيفات لا يحملها، وتأويلات لا يتحمّلها؟!
والسؤال الأمرُّ: أليس هذا موجوداً واقعيّاً في الوسط الأدبيّ؟!
فهل يصحّ أن تبالغ في امتداح نصّ؛ لمجرّد أنّه يعود لشخص معيّن؟!
أليس هناك من يقول في نصّ ما لا يقوله في نصّ آخر مشابه، أو يفوقه جودة فنّيّة؟!
أليس في الوسط الثقافيّ من يطلق العنان لتقريظه، لأنّ صاحب العمل يعنيه لأمر أو آخر؟!
ألا يصبح مسؤول ثقافيّ “مبدعاً” بمجرّد تسلّمه المهمّة، وتنهال الكتابات عنه وعن “إبداعاته”؛ وحين يغادرها، أو تغادره، يكون الانفضاض عنه وعن أدبه، وحتّى عن ذكره؟!
ألا يصول نافذٌ من خارج الثقافة بـنتاجه “الأدبيّ”، ويجول، وتُفتح له منابر ومواقع ثقافيّة، ما دام في حصنه المادّي أو المعنويّ؟!
وقد يتغيّر الرأي في نصوص الشخص ذاته من قبل “الناقد” عينه؛ لأّنّ العلاقة بين الناقد والمنقود، تغيّرت من حال إلى حال!
وفي أوقاتنا هذه ومنذ سنوات، يستشري هذا الأداء غير السويّ، عبر منافذ التواصل الاجتماعيّ في “الواقع الافتراضيّ”؛ فتنهمر عبارات الإعجاب والاندهاش بغير وجه حقّ! وتنال كتابات أكثر من قيمتها بكثير، وليس هذا بقليل؛ كما قد تتسارع الكلمات المعجبة إلى السياق، حتّى قبل مرور الوقت الكافي لقراءة المادّة؛ فهل يتمّ ذلك على الاسم أو العنوان أو التكهّن أو التمنّيّ، أو التوهّم؟!
وقبل الاستغراق في الحالات والمواقف المشابهة، لا بدّ من التمييز بين التشجيع المطلوب والتحفيز المرغوب، والإيجابيّة، التي يمكن؛ بل يُفترض أن يُتعامل بها مع أيّ صاحب نصّ، أو نصّه، وبين المجاملة السمجة؛ كما يختلف الاهتمام بالمادّة أو احترامها عن المديح المجّانيّ، وإطلاق عنان الإطراء إلى حدّ بعيد!
ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّ أيّ دراسة أو قراءة لنصّ، يجب أن تستند إلى معايير ومبادئ ومعطيات، لا بدّ منها في المقاربة والتقويم والحكم، وحتّى إبداء الرأي، وهذا ينسحب على جميع النصوص لا على بعضها؛ من دون إغفال الخصوصيّة؛ التي قد تقتضيها نصوص وحالات، والتي يُفترض أن تذكر في إطار القول.
وقد يختلف تقويمنا للنصّ عن رأينا بصاحبه؛ ويجب ألّا ينسحب ما بيننا على ما نقول، ونمارس، فنرفعه إلى منزلة علّيّين، أو نتجاوزه بإهمال، قد يصل حدّ الإهانة، حين نتجاهل النصّ وصاحبه، ونقارب سواه!
وليس من الموضوعيّة في شيء، أن يُذكر بعض من هم في ساح القول والأداء والإنتاج الثقافيّ، ويُحجم عن ذكر آخرين في الحيّز ذاته، والتوجّه عينه؛ كما قد يكون لأسلوب تقديم الرأي أو إعلان الموقف أثر في سلبيّته أو إيجابيّته؛ فهناك فرق بين بيان الهنات والعيوب، وبين التناول الخارجيّ مع نعوت وتوصيفات، لا علاقة لها بالنصّ! كما تختلف الحال بين الإشارة إلى قصور محدّد في جانب أو أكثر، وتعميم العجز على النصّ بمجمله، ونصوص أخرى للكاتب، ربّما!
ومن الكلام ما يكون تسلّقاً على قامة أدبيّة أو ثقافيّة؛ سواء أكان مادحاً أو ذامّاً؛ أو دارساً بلا مصداقيّة أو مسؤوليّة!
ومن الكلام ما يكون إغراء وجذباً لأصوات شابّة؛ بغية التأثير المباشر على من يشكّلون توابع، يدورون في فلك القائل الساعي إلى تأكيد نجوميّة، أو تعزيز نفوذ، أو هيمنة؛ ولا سيّما عبر الشابكة “الواقع الافتراضيّ”، الذي يتحوّل إلى واقع ملموس، فيمضي بالجماعة التي حظي بها، ومعها، من منبر إلى آخر؛ في سياق أو سباق لغاية في نفس يعقوب!
وليس كلّ من يفعل ذلك أو بعضه ضليعاً في الأدب وفنونه، ولا جديراً بالقول الفصل؛ وإن كان لكلّ حقّه في إبداء الرأي بما يُكتب، ويُنشر، ويُقرأ؛ وقد يكون بعضهم ممّن يمتلكون القدرة والإمكانيّة والسلطة، وهنا الحال الأخطر؛ حيث التأثير أوسع، والصدى أبعد!
وإذا ما كان ممكناً لسلوك من هذه السلوكات غير المحبّبة؛ إن لم نقل الشائنة، أن يضلّل بعض المتلقّين، فإنّ المتابع الجادّ النابه، يستطيع أن يلحظ هذا، وأن يشير إليه، وأن يفنّده؛ ويخرج هذا الناقد من دائرة الاهتمام؛ وهذا ضروريّ؛ كي يتخلّص الوسط الأدبيّ من شوائب كثيرة، تغطّي جواهر حقيقيّة أصيلة وضّاءة.
إنّ الإشارة الصادقة إلى ما يوهن النصّ أو يؤثّر على جودته، ضروريّة للمؤلّف؛ فيدور حوار مهمّ؛ وإن كان غير مباشر، بين المتلقّي والنصّ، ومُصدره، الذي قد يعيد النظر بنصّه أو كتابته؛ فتضاء جوانب لم يكن ملتفتاً إليها، وقد تزداد ثقة الكاتب بما في أوراقه، وما بين سطوره، ويبقى ملتزماً بخطّه ورؤاه، وصوته الخاصّ؛ يرسّخه، ويعزّزه، ويدافع عنه بثقة وقناعة.
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الشارقة الثقافيّة - العدد (41)
تاريخ النشر: 2020-03-01