تداخل الأجناس الأدبيّة
وانفتاح العصر والرؤيا
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
ليس في صالح الأدب عموماً؛ مع تعدّد أجناسه، وترامي مدياته، وترامح إشعاعاته، أن يقف من يريد امتشاق مغامرته، عند تخوم باتّة مبتوتة لأجناس أدبيّة محدّدة ومحدودة؛ ولا سيّما أنّ طيف الأدب واسع وفسيح وعميق وسامٍ، وعالمه كثيف ومتنوّع، ونفثاته مثيرة ومحفّزة، وأيكاته مغرية وجذّابة؛ بما فيها، وما وراءها؛ وأنّ هناك تواشجاً بين مختلف أجناسه، يقلّ، أو يكثر، يقترب، ويبتعد، يظهر، ويتوارى؛ إضافة إلى أنّ الموهبة أسّ كلّ ذلك؛ بهذا الشكل أو ذاك، بذاك القدْر أو هذا؛ وهي تمتح من رصيد لغويّ معرفيّ خبراتيّ، تحتاج إليه مختلف النصوص الأدبيّة، التي تعتمد عنصراً واحداً مشتركاً وأساسيّاً؛ هو اللغة بقواعدها واشتقاقاتها وتشكيلاتها ومعانيها، وصياغاتها، واستعمالاتها، وانتثاراتها؛ هذا العنصر الضروريّ غير الكافي؛ فللمهارة في الاستخدام المناسب لكلّ هذا دور في التمييز والتصنيف، والتعبير والتجويد، والكشف والغوص والتحليق؛ كما لا تتناسب شساعة الأدب وحيويّته وعوامل استمرار انبثاثاته، مع تقييده، والحدّ من احتمالات تحوّلاته، وارتياده أحيازاً متجاوزة، جديدة، أو متجدّدة، بأشكال وسبل ووسائل مختلفة. وهذا لا يعني انتفاء وجود ملامح لهذا الجنس الأدبيّ أو ذاك، ومعالم لهيكليّة وارتسام في الذهن لدى المشتغلين في الأدب وسواهم؛ لكنّ الأمر لا يستدعي تزمّتاً في القوننة والتقييم والتعاطي؛ ما يؤثر سلباً على متعة التلقيّ، وأريحيّة التعامل مع النصوص الأدبيّة، والتفاعل مع الحال الأدبيّة، والتواصل مع الفاعلين في الوسط الأدبيّ؛ كتابة واستقبالاً وحوارات وانفعالات، تنبع من موهبة وشغف ولهفة وقابليّة، وتمضي في الجداول والشعاب والتضاريس، ولا تقف عند حدود، أو قيود.
ومن المؤكّد أنّ الأمر لا يعني أنّ كلّ من كتب قادر على اجتراح معجزة نصّيّة، تبدع جنساً أدبيّاً جديداً، أو تقديم مدوّنة، تشكّل قيمة مضافة لهذا الجنس الأدبيّ أو سواه، أو تُداخل بين جنس وآخر، ببراعة واقتدار وجدوى، ولا يعني أنّ ما سبق يعطي مسوّغاً للإبحار في محيط الأدب؛ من دون عناصر وأساليب وأدوات ورؤى، تخوّل ذلك، ولكنّ هذا في الوقت عينه، لا يُفضي إلى أن تُشهَر الموانع، وتنشط الكوابح، وتنثر العثرات؛ جهلاً أو خوفاً، أو عجزاً أو مكابرة، في دروب من يريد الوصول إلى آفاق وفضاءات غير مطروقة؛ حتّى قبل إقدامه! وإذا قلنا إنّ للنصوص المختلفة، التي تمنح المشروعيّة للخروج على خطّ مرسوم، أو درب معلوم، أو شكل موهوم، خصائص مميّزة، وعوامل مولّدة، ومكوّنات مفارقة؛ فإنّ ما- ومن- يحدّد هذا، ويفرزه، سيأتي لاحقاً، وليس من الممكن والمقبول أن توضع شروط مسبقة، وتتمّ المحاسبة عليها، قبل أن يظهر النتاج، الذي يسمح بالحديث في هذا، أو يستثيره، ويلحّ عليه ربّما؛ ومثل هذه النصوص، لا يأتي دائماً، ومن أيّ كان، ولكنّ تقييمها أيضاً، وإعطاءها ما تستحقّ من اهتمام وتمييز، يحتاج إلى من يمتلك رحابة في التفكير، وانفتاحاً في الرؤيا، وقدرة على التعامل الأثير؛ بموضوعيّة وحبّ وصدق وأثرة وعمق.
لا شكّ في أنّ التخويض في هذا الموضوع محفوف بكثير من الحذر والخطر؛ في ظلّ انتشار كتابات، وتعميم منشورات، مطبوعة وفضائيّة، تتطلّب متابعة حثيثة ودقيقة؛ لوضعها في المنزلة التي تستحقّ؛ من حيث الاحترام والتقدير والتجنيس؛ حتّى إن كانت متجاوزة للمألوف؛ أو إهمالاً وانفضاضاً حتّى إن انتمت إلى جنس أدبيّ معروف… ولنعترف؛ إنّ هذا ليس سهلاً، وليس في المتناول، وهذا ما يشجّع على الإيغال في ما يجري، ويدفع كثيرين إلى هذا الميدان، الذي ينمّ الظهور فيه عن مقدرة ومكانة ومأثرة؛ ولا سيّما أنّ هذا الظهور، صار يدعّم بالصور والألوان، ويعجب به كثر، ويبارَك من مؤسّسات وجهات وأسماء، ويثمّن بمسمّيات وألقاب وجوائز. ومع تكاثر من يَكتب، وكثافة ما يُنشر، وقلّة ما يُقوَّم، وندرة من يقوِّم، تصل الحالة إلى ما يشكّل خطراً؛ ليس على الأجناس الأدبيّة القائمة والمحتملة وبناها وأطرها فقط؛ بل على الذائقة الأدبيّة الخاصّة والعامة، وعلى الوعي العام أيضاً. وقلنا سابقاً، ونقول، إنّ المتابعة النقديّة لما ينجز، غير كافية؛ وهي مشكلة قائمة ومزمنة؛ كانت كذلك، وما تزال؛ مع انتشار نقد متسرّع، وانطباعيّ، وتسويقيّ، ومنحاز أحياناً، ومع قيام من ليس لديهم العدّة والاستعداد والوقت للإنجاز النقديّ المرموق والموثوق؛ حتّى من أصحاب الشهادات والمواقع والمسؤوليّات والنفوذ؛ فكيف ستكون الحال مع استشراء الكتابة المجّانيّة، و”الإخوانيّات” في التعامل معها، والمتابعة الجادّة المحدودة والخجولة؟!
لقد فات الزمن، الذي كان يقال فيه: هذا ليس شعراً؛ بناء على وزن وقافية؛ أو هذا ليس قصّة؛ لأنّ النصّ يخلو من مقدّمة وحبكة وخاتمة؛ أو ليس رواية؛ لأنّه لم يهتمّ بالأحداث ومساراتها المنطقيّة وخواتيمها، وخرجت إلى النور نصوص قصصيّة تحتمل الشعر، ونصوص من الشعر تحكي قصصاً، ونصوص مسروائيّة… ولم يتوقّف الأمر على ظهور ما أسمي بالقصّة القصيرة جدّاً، أو الومضة الشعريّة، وحسناً فعل من أطلق عليهما مع سواهما من الفصيل القريب منهما، الأدب الوجيز؛ بل ظهرت نصوص، في الأدب غير الوجيز، لا تتقيّد بضوابط صارمة، ولا بحدود باتّة؛ وهذا في رأيي أمر مهمّ ومشروع ومطلوب ومرغوب ومحتمل.
ومن المهمّ الإشارة إلى ضرورة عدم الوقوف طويلاً عند التسمية والشكل؛ من قبل من يودّ الكتابة عن موهبة وهاجس وأصالة؛ ولا التربّص بالنصوص من قبل الحرّاس المزعومين على أساسهما؛ بل إنّ الأهمّ والأجدى، أن تكون إمكانيّة القول المختلف متاحة، واحتماليّة تطوير الأجناس المقيمة حاضرة، وظهور أشكال أدبيّة جديدة واردة؛ فالعالم يتحوّل، والواقع يتغيّر، والعناصر تتحوّر، وتُبتَكَر، والزمن يضيق، وينضغط، ويتشتّت، والأحياز تتقارب، ووسائل التواصل تتنوّع، وتَختصِر الكثير، والعمل يتجزّأ، ويتفرّع، وتختلف طقوس الحياة المعيشية، عن تلك التي كانت منذ زمن؛ كما أنّ الموضوعات تتجدّد، وتستجدّ، والأفعال وردودها، تختلف، وتتفاوت، وظروف الكتابة، والتلقّي، اختلفت عنها منذ زمن، ووسائل التفاعل والاستثمار في الأدب تُستحدث…
وليس مقبولاً، ولا منطقيّاً أن نبقى أسيري أنماط قارّة في التفكير والتدوين والتقييم، ومسابير مثلّمة ومواد مستهلكة في الكشف والمعالجة والاختبار، وأحياز مسوّرة في العرض والحركة والتشكيل، وآفاق مرتادة، في الأدب وسواه؛ فما يزال في السموت والفضاءات والقدرات، والأفكار والعواطف والمواقف، والرغبات، والحماسة، واللهفة، والتوق… بقيّة.
***
غسان كامل ونوس