بين الرأي الشخصيّ والرأي العام
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
يرتاح كثيرون إلى الدمج ما بين الرأي الشخصيّ والرأي العام؛ أي تنسجم آراؤهم مع رأي المجموع، أو تنحو نحوه، أو تتماهى فيه؛ وهذا ليس عيباً إذا ما كان ناتجاً عن توافق التحليل الشخصيّ والرؤية الذاتيّة للفرد مع المنطق العام، أو السياق العام، أو الأفكار السائدة في المجتمع؛ وتكون هذه الرؤية العامّة حقّاً عاماً، يمثّل الأخلاق والقوانين والمبادئ الحضاريّة الإنسانيّة؛ أمّا بعضهم فيرى أنّ في هذا الاندماج خلاصاً أو تملّصاً من المسؤوليّة، التي يتطلّبها أن يكون لهم رأي خاصّ، يتبنّونه، ويشهرونه، ويدافعون عنه؛ هذا الذي قد يفرض موقفاً مفارقاً للرأي العام، أو متمايزاً عنه، أو غير ذائب فيه، ويعبّر عن شخصيّة مستقلّة ناضجة، وقد يؤدّي ذلك إلى مواجهة مع كثيرين، تطول، وتقصر؛ تشتدّ، وتضعف.
ولمّا كان الرأي العام، غير محدّد تماماً، في كثير من القضايا، وكان من غير الواضح أحياناً، فيما إذا كان الرأي المطروح أو المتداول بقبول ورضا في حيّز ما، رأياً للناس كلّهم في نطاقه، أو رأياً لمجموعة كبيرة أو قليلة، وليس من هو قادر على البتّ المعلّل في هذا؛ ولا سيّما في مسائل إشكاليّة، أو طارئة، أو مستجدّة؛ فإنّ ذلك يُفسح في المجال لمن يدّعي هذه المعرفة، أو يسوّقها، أو يستغلّها، أو يستثمر فيها؛ سواء أكان شخصاً أو جهة، أو جماعة منظّمة أو غير منظّمة. وهناك طرق متعدّدة للوصول إلى التصوّر الممكن لرأي عام في حيّز ما، والتعليل المسوّغ له؛ من البحث الميدانيّ، والرصد الموثوق لردود الأفعال، التي تظهر شفاهاً أو تدويناً بأيّة وسيلة- ومنها الآن الفضاء الإلكترونيّ؛ على الرغم من الشوائب، التي قد لا ينجو منها- إلى الاستبيانات، التي قد تأخذ نماذج عشوائيّة، أو تتناول شرائح ممثّلة للناس المعنيّين في الموضوع، إلى الانتخابات، التي تكمن فيها ثغرات، أو تظهر؛ فقد لا يشارك فيها عديدون، لأسباب مختلفة- وقد يكون الامتناع عن التصويت جانباً من الرأي العام- أو قد لا يمارسونها بقناعاتهم الحقيقيّة؛ لأسباب ذاتيّة أو خارجيّة عن الشخص؛ كما أنّ هناك مرغّبات ومسهّلات ومحفّزات، من قبل أصحاب المصلحة في إجرائها ونتائجها؛ إضافة إلى حملات متفاوتة الحماسة والإقناع، قد تسبق العمليّة الانتخابيّة، وتروِّج لها من قبل جهات أو فئات أو مجموعات، أو أشخاص؛ بهذا الشكل أو ذاك، أو يقوم بها مرشّحون للقيام بالمهمّة المنتظرة ذوو مواصفات مناسبة أو غير مناسبة؛ ولهذا أيضاً دور في بروز الرأي العام الموافق أو الرافض، من دون أن ننسى أنّ هناك عوامل عديدة أخرى مؤثّرة في الممارسة والنتائج؛ كما يجب ألّا نُغفل دور الخارج القريب أو البعيد في ذلك. وهناك شريحة قد لا تعبّر عن رأيها؛ كسلاً أو لا مبالاة، أو استهتاراً، وربّما ابتعاداً عن أيّة مسؤوليّات، حتّى بينهم وبين أنفسهم، أو تفادياً للتعرّض لمشكلات، قد تنجم عن إبداء هذا الرأي.
ولا شكّ في أنّ الرأي الشخصيّ مهمّ للكائن وللمجتمع وللوطن، ويعبّر عن فعاليّة الكيان الناطق به، وحيويّته، وموقعه وحضوره؛ أو يبعده عن أيّة حسابات مقدّرة؛ متناسين أو مستسهلين أنّ الرأي العام الحقيقيّ، هو مجموع غالبيّة- أو أكثريّة- الآراء الحقيقيّة للأفراد المشكّلين لهذه المجموعة؛ لأنّ الإجماع غير ممكن، وغير متاح، وكلّما كانت المشاركة جدّيّة ومعبّرة عن مواقف المشاركين بوعي وصدق وواقعيّة، كان الرأي العام أكثر أهمّيّة، وأهمّ دوراً، وأكثر قابليّة لمخاطبته، وأخذه في الحسبان، والاعتماد عليه في التخطيط والبناء والإقرار وتصويب المسارات.
وفي العادة لا يظهر الرأي العام بشكل سريع ومفاجئ، وليس من السهل الوصول الواثق إلى جوهره وعناصره وتركيبته ونسبته؛ كما ليس من اليسير تعديله أو تبديله بسرعة؛ على الرغم من أنّ هناك وسائل متعدّدة مشروعة وغير مشروعة؛ كالسرعة في الوصول إلى الهدف المعروض أو المقصود، وضخّ المعلومات الصحيحة أو المضلّلة بكثافة وتكرار، وعرض الأحداث الجارية من وجهة النظر الموافقة للرأي العام المطلوب؛ أخباراً وصوراً؛ بحرفيّة، وبترتيب مدروس، وبمساحة زمانيّة ومكانيّة مخطّط لها، وقد يتمّ إغفال جوانب منها، أو تهميشها، ودحضها، وإشراك نفر أو مراسلين خاصّين من قلب الحدث، واستخدام شخصيّات جذّابة فاعلة في المجتمع المحلّي، أو من الوسط المحيط، والأبعد، في القول والادّعاء والتحليل والتفنيد. ويعتمد في القيام بذلك على مؤثّرات وتقنيّات حديثة إعلاميّة وغير إعلاميّة، وعناصر وعوامل متنوّعة، حيّة مقيمة أو وافدة، أو مواد موجودة أو منقولة، ظاهرة أو خفيّة، علنيّة أو سرّيّة، حاضرة أو ماضية… حسب الإمكانيّات المتوافرة والغاية المنشودة، ويمكن للإجراءات أن تكون دائمة، يتمّ تحديثها حسب الحاجة؛ أو مؤقّتة مرافقة لظرف معيّن، أو حال قائمة أو متوقّعة أو مطلوبة.
ويلجأ كثيرون إلى شمّاعة الرأي العام، الذي قد لا يكون ملحوظاً، أو مؤكّداً في السلوك والتصرّف والموقف، فيتّكئون عليه، أو يعتمدونه في أقوالهم وتحليلاتهم ومواقفهم، وقد يغيّرون من بعض ما يطرحون أو جلّه أو كلّه، حين تتغيّر الأحوال المهيمنة، وتتبدّل الملامح والمعالم والألوان والفصول؛ وإذا ما مرّت أوقات لا تظهر فيها الكفّة الراجحة، ليميلوا إلى جهتها، سكتوا حتّى عن قول الحقّ، الذي قد لا يخفى؛ وهؤلاء عالة على المجتمع، وعبء على النهوض والتطوّر، وليسوا عناصر مجدية، أو مساعدة، أو مفيدة، إذا لم يكونوا عناصر فاسدة، توهن الكيان، وتضيّع البوصلة؛ فإنّهم إذ يسكتون منتظرين؛ بلا لون أو صوت أو رائحة، من دون رأي أو موقف، يزيدون في عطالة أيّ كيان بشريّ، تلك التي تعيق حيويّته المبشّرة، وحركته المجدية في الاتّجاه الصحيح؛ ولا سيّما إذا ما كانوا كتلة كبيرة، وإذا ما شكّلوا نسبة مهمّة.. وقد يكون هذا ناجماً عن عدم نضوج القوام المادّيّ والفكريّ لشخصيّاتهم؛ وهذا لا يتّصل- فقط- بالعمر والشهادة والموقع والمسؤوليّة؛ بل بالوعي العام والخاصّ، والثقافة المتوارثة والمستجدّة، وبالتربية والتعليم، والخطاب البينيّ والأفكار المبثوثة لهم، والحوار فيما بينهم ومعهم، والثقة بالنفس، والقدرة على التحليل والاستنتاج والوصول إلى رؤية ورؤيا؛ من دون شخصنة ومصالح ضيّقة، وانتماءات نافرة متعصّبة؛ كما يمكن أن يزداد عدد الرماديّين؛ بسبب حجب المعلومات أو شحّها أو فقرها، أو غموضها، أو عدم مصداقيّة الجهات المسؤولة عنها، أو عدم الاقتناع بالباثّين، أو بالحاملين الرايات، والمنادين بالشعارات؛ وعدم وجود الظروف، التي تسمح بالرؤية والتعبير عمّا يُرى.. ويُفترض أن يؤخذ هذا على محمل الجدّ، حين مقاربة واقع القوى والشرائح الاجتماعيّة، والمكوّنات المجتمعيّة الوطنيّة، ونشاطاتها وإمكانيّاتها، ومدى قدرتها على المضيّ بالمشروع الوطنيّ؛ بوعي وقناعة وصلابة وإنجاز مضمون؛ ولا بدّ من العمل على أن يكون لأصحاب الآراء غير المتّفقة مع الرأي العام، اهتمام ومتابعة بجدّيّة ومسؤوليّة؛ فقد تكون آراؤهم مفيدة ومعلّلة؛ كما يمكن أن تكون شاذّة ممجوجة وغير مسوّغة؛ ولا أظّن أنّ عاقلاً يرضى أن يواجه المجموع، إلّا إذا كانت له قناعات تتملّكه، واعتقادات راسخة، توصّل إليها بمنهج واع ورؤية مشرقة، ومنحى إيجابيّ؛ أو إذا هيمنت عليه أفكار ظلاميّة، ومواقف معاندة، ومصالح عمياء… ومن المفيد والضروريّ، ومن مصلحة الوطن، والرأي العام، أن يقام حوار مع أُولي التوجّهات الوطنيّة الحضاريّة الإنسانيّة المتفتّحة؛ بعيداً عن التعصّب، والتبعيّات، والاصطفافات مع الجهات الخارجيّة المعادية والمشكوك في تاريخها وعلاقاتها ومواقفها ومشاريعها، ومع القوى المناوئة لمصالح الشعب والوطن؛ وصولاً- أو محاولة وصول- إلى ما أعتقد أنّ ما من اختلاف على التطلّع إليه، ونشدانه، والرغبة في تحقيقه، وقد يُختلف على السبل المجدية المؤدّية إليه، من قبل الرأي الشخصيّ للمواطن، والرأي العام للشعب؛ وتتمثّل جوانب أساسيّة منه في التماسك والاستقرار والتنمية والاستقلاليّة والعيش الكريم الآمن.
***
غسان كامل ونوس