الفئة: رأي
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2012-07-16

دفاعاً عن المثقفين.. الروائي غسان كامل ونوس: بعض المثقفين ارتضى أن يكون ظلامياً

ثقافة
الأثنين 16-7-2012
هفاف ميهوب
يبدو أن في الأمرِ مرارة وضياعاً للوقتِ والجهد، حين يلزم أن نتحدث عن دورِ شريحةٍ هامة في الأزمات، كما هي الحال في سورية منذ أكثر من سنةٍ وربع السنة, أعني المثقفين تحديداً، مع أهمية الشرائح الأخرى, فيما المطلوب أن يكون العمل هو الدليل، والإنجاز هو الشاهد..

وإذا كان المثقفون، كباقي أبناء الشعب، ليسوا كتلة واحدة, لم يكونوا كذلك يوماً، ولن يكونوا, وليس مطلوباً ذلك, فالثقافة التي تعني المعرفة والاكتناز والتوازن والقدرة على التمييز والتقويم والإقدام (دون أن يتعلق ذلك بظرفٍ أو شخصٍ أو تيار) يُفترض أن تكون الحامل للمشاريع الحياتية والمصيرية أو الموجِّه لها أو إليها.‏

صحيح أن المثقفين لم يكونوا في بحبوحةٍ ليدافعوا عن حالٍ أو مرحلة، ولكن حين يتعلق الأمر بالوطن ومصيره، لايصح القول: «العبد لا يكرّ» بل: «خلتُ أنني عُنيتُ» لأن القضية أبعد وأعمق وأوجع، وتحتاج إلى مواقفٍ إيجابية لا إلى سلبية أو عواطف وأعمال، وانتهازية وشعارات.. وقد تراوحت حالات المثقفين وتباعدت، وتواجهت أحياناً، وتحولت من إمكانية أن تكون منبّهة دالّة حالّة، إلى عبءٍ أو تابع أو جزء من المشكلة، وفرق شتى!!..‏

ومن المؤسف أن صمتاً مريباً غيّب أصواتاً كانت تتسابق على المنابر والولائم، فيما تحول البعض بقدرةِ رنينٍ وأضواءٍ وتلويحاتٍ, إلى مواقعٍ لا تخدم الوطن ولا المواطنين, ولا تُلبي طموحاتهم النبيلة ولا أهدافهم المحقة، بل تساير المعتدين المُعلَنين، وتدعمُ المتطرفين بالتوافق والموازاة والتعمية, ولاسيما أن الرعاة والحُماة والدُعاة الذين يحضنون هؤلاء المثقفين وأولئك المتطرفين، يشكلون في معظمهم النقيض الواقعي والتاريخي والمستقبلي للعنوانات التي يتمثلون، واليافطات التي يرفعون..‏

وإذا كان السكوت في البداية يمكن تفهّمه للناس العاديين المشغولين بمتطلباتهم، المنشغلين بهمومهم وضيق أحيازهم وسبلهم غير السالكة بيسر, فمن غير المقبول تبنّيه من قبل المهتمّين بمسار الأحداث القريبة والبعيدة، المتابعين للقضايا والتحولات ومراكز القوى العالمية، المعنيين الدارسين الواعين, إذ يبدو من الصعبِ تصوّر أن يكون هؤلاء مشوّشين حول ما يُحاك حول سورية الوطن المستقل بقراره ومواقفه وعلاقاته، الواعي لقيمته ودوره عربياً وإقليمياً ودولياً، العلماني بنسبةٍ ما.. الساعي إلى الاكتفاءِ اقتصادياً, المتقدِّم تعليمياً وصحياً, الصامد، المقاوم لكل محاولاتِ العدوان والهيمنة المباشرة وغير المباشرة عليه وعلى سواه ممن يشاطرونه الرؤى والأهداف الوطنية والقومية والإنسانية, ولا يمكن تحمّل أن يُستهان بأمر سلامة الوطن ومصيره، وليس مقبولاً أن يكون للمصلحة الشخصية والحقد والرغبة بالانتقام حتى لو كان: (عليَّ وعلى أعدائي) الدور الأساس في اتخاذ المواقف..‏

مما يزيد من الأسف, أن يكون بعضٌ ممن كانوا مسؤولين ثقافيين رسميين، ومارسوا كل ما يتناولونه الآن من انتفاعٍ وارتهان، وسلطة وفوقية, على من كانوا تحت (رحمتهم)، وآراؤهم معروفة وسلوكهم ومتطلباتهم المتناقضة مع المنطق والوفاء والانسجام بين الموقف والأداء، وهذا عنوان آخر لما يمكن أن يوصفوا به وما يستحقون من تقدير واحترام!!!‏

إن الكثير مما يجري في الواقعِ من قتلٍ على الهوية، واستهداف للكفاءات العلمية والخبرات المهنية، وتخريب للمؤسسات الخاصة والعامة، وتهديد وترويع للمواطنين، واتهامات وتكفير وأحكام قاطعة مع التنفيذ أحياناً كثيرة، لا يحتاج إلى وقت وتفكير وحسابات لرفضه وإدانته وفضحه ومواجهته قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً, أليس هذا إقصاء لأي رأي أو فكر أو موقف؟!.. أليس هذا ما (يحاربه) المثقفون؟!.. وهل ما يواجه (أدونيس) وسواه أيضاً من اتهامٍ ووعيد وتحريض مباشر على القتل يمكن أن يمر بلا تعليق؟!..‏

إن من غير المقبول أن يتحدث المثقف بلغة الشارع، أو يتصرف كما في السوق، مع الاحترام لمختلف المواقع وكائناتها، وهذا لا يعني عدم تبنّي ما يطرح فيها أو ما يدور, بل المقصود أن لكلٍّ أدواته ووسائله للعرض والمناقشة والإقناع، وفي هذا تنظيم ولياقة وابتعاد عن الفوضى التي لا تفيد قضية محقة، ولا تخدم أحداً من أصحاب الحقوق! ومن الطبيعي والمقصود أن يستغلها المُغرضون الانتهازيون الظلاميون، ويخسر الجميع!..‏

إن الموقف الثقافي لا يسرّ ولا يرضي، ولا يصل إلى مستوى الحدث, وعلى الصعيد الخاص والعام والأفراد والمؤسسات, وهو لم يكن مميزاً يوماً, لكن الأزمة تفاقم الحالة الثقافية غير السليمة، وما زال مثقفون يرتضون أن يكونوا سلعة سياسية أو إعلامية أو إعلانية في هذا الجانب أو ذاك, بل يمكن أن ينتقل بعضهم من جانب إلى آخر, ومنهم من عاد ظلامياً في التفكير والممارسة، ولا ينقصه إلا حمل الأدوات الحادة! من دون أن ننسى من بقي مشرقاً بصيراً معرضاً للأذى, غير هيَّاب من قولِ الحق والوقوف بثباتٍ وبعد نظر، متحملاً كل التبعات والاحتمالات القاتمة!..‏

وفي حين تتعرض فيه الوقائع للتضليل والأفكار للتشويش والشخصية للتصدع، وتشهد الأقوال والمرويات عبارات وتوصيفات وتصنيفات وسمات لم تكن مستساغة، ولم تكن مألوفة أمام الأجيال الشابة، ولاسيما الأطفال الذين باتوا يرون مشاهد مروعة، ويعيشون أحداثاً كارثية، ويعاينون تفاصيل مشينة، ويعانون من فقدان في الأمان والسلامة والصحة والحاجات.. هذا الذي لم يكن موجوداً أو معلناً أو ممارساً بفظاظة وفظاعة.. ومنهم من تورط أيضاً بشكل أو آخر..‏

في هذه الظروف المستجدة تماماً، والضاغطة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، تتصاعد مسؤولية المربين في مختلف الميادين، وتتضاعف مهمة المثقفين، في الترميم والتعويض والتوعية، والأمر يحتاج إلى رؤى متزنة وإمكانيات وتضحيات، وسنين من الجهد والبذل، ومنابر أكثر توسعاً وانتشاراً وموضوعية واحتراماً للكرامات والحواس والملكات العقلية والإنسانية.. لقد أثبتت الأزمة أن شعباً مثقفاً يمكنه المواجهة والصمود والنهوض, فالثقافة ليست شهادات ومناصب وألقاباً وظهورات وأضواء, إذ إن هناك حالات إيجابية وسلوكات محترمة وأريحية مقدِّرة للكثيرين من أبناء البلد، وهناك صبر ومصابرة ومواساة وترفُّع عن المقاضاة الذاتية والمبادلة بالشر، وتعالٍ على الجراح والآلام.. يفترض أن تُعمَّم وتُدعم، لأنها وعي وتبصر وأثرة، وهي واقعية أيضاً، وممكنة دائماً، ومطلوبة ومرغوبة، وغالبة, لولا ذلك لما بقي الوطن، وسيقوم من محنته!..‏

ليس الأمر يسيراً, لكن المتطلبات والتحديات والمواجهات والرغبات بالخلاص والإرادات الخيرة تستوجب الاستنفار الثقافي الحقيقي الجاد بعيداً عن السجالات والبيانات والشعارات والمطامع الصغيرة والأوهام العظمى!!

اترك رداً