الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

الوعي والأزمات

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

من المعتاد أن يتعرّض شخص أو أشخاص أو مجتمع محدّد، أو وطن، إلى ما ليس طبيعيّاً من ظروف وأحداث وأفكار وسلوكات، تقوى أو تضعف، تقصر مدّة هيمنتها أو تطول، وقد تتبدّل الظروف، وتشتدّ الوقائع بما هو متوقّع، أو غير محتمل، وتدخل فيها عناصر وقوى مستجدّة، ومن الطبيعيّ والمألوف والمفروض، أن يقاوَم كلّ هذا؛ مهما كانت شراسته، بما امتلكه الكيان المستهدف، عبر السنين والأزمات الأخرى المشابهة أو المغايرة أشكالاً ومضامين، من قوّة ومناعة وتماسك، وسبل مطلوبة وممكنة، وحوامل حيويّة أو مادّيّة، وبنى تحتيّة وفوقيّة، واستعداد نفسيّ ومعنويّ لذلك. وعلى الرغم من تعدّد التمظهرات، التي قد تبدو بها الأزمة، وتنوّع العوامل المسبّبة والمساعدة في ذلك، من خبرات سابقة وحاضرة، فقد تحدث مفاجآت صادمة، وتشترك في المواجهة أسلحة مستحدثة، وأشكال مغايرة عمّا هو متواتر، أو متحوّرة عن سواه.. ومن الطبيعيّ أن تكون هناك أزمنة قارسة، وأوقات عسيرة، وأحياز ضيّقة، وقد يفقد المرء أرضه، والعزيزين عليه، ونفسه؛ ولكلّ فقيد أهل وأعزّة ومحبّون، تختلف مستوى علاقته بهم قرباً وبعداً، جهراً وسرّاً، قوّة وضعفاً.. وقد تتزايد الضربات، وتتكاثف الحُجُب، وتتقاوى الضغوطات، حتّى لتغدو الصورة قاتمة، والمياه عكرة، والرؤية مشوّشة، والحال إلى تفاقم؛ وهذا ما يزبد من حدّة المعاناة، وصعوبة الخطو، وكثرة المطبّات؛ فتصبح الحياة عصيّة، وتبتعد ملامح الخلاص المأمول.. ومن الطبيعيّ أن تكون أصداء كلّ ذلك وانعكاساته متفاوتة على الناس، حسب مستويات فهمهم لما يجري، وتحليلهم للمجريات، وتفاعلهم مع الأحداث، وانفعالهم بها.

وهنا تظهر فعاليّة الحصانات الداخليّة، والمناعات المتراكمة عبر الأيّام، والمنعطفات، والتاريخ، والسير، والتحوّلات؛ إنّه الوعي بالأمر الذي، يجب أن يتحلّى به المرء، وهذا لا يتوقّف على كمّ المعلومات والقراءات والتجارب المطّلع عليها، ومصادرها ودقّتها؛ على أهمّيّة ذلك؛ بل هو دور الثقافة بمعناها الإيجابيّ الحيويّ الفعّال؛ أي القدرة على التحليل والاستيعاب والتشخيص، والوصول إلى خلاصات منطقيّة مفيدة، تساعد على البقاء على قيد الحياة، وهو الحدّ الأدنى المراد، ومن بعده، ومعه، وبعده، القدرة على استيعاب الصدمات، بأقلّ الخسائر الممكنة، وبما تبقّى من إمكانيّات، واستنهاض المزيد من أسباب الصمود، وتضميد الجراح شديدة النزف، والتخلّص من الذي صار بلا جدوى، أو تجاوزه مرحليّاً على الأقلّ، واستثمار ما بقي قادراً على المواجهة، ومدّه بالدعم المادّيّ والمعنويّ، واستبصار الرؤى المعاينة والهادية والمولّدة، والحثّ على القول المفيد، والفعل المجدي، وتكامل الجهود في مختلف المجالات…

الكلام هنا لا يتناول من وقفوا إلى جانب المعتدين على الوطن وأهله ومقدّراته، من بنيه العاقّين؛ فهم خارج الرصيد حاضراً ومستقبلاً؛ كما لم يكونوا منه أو فيه، في الماضي القريب أو البعيد؛ إلّا من رجع إليه صوابه، وعاد إلى رشده، وفهم المسألة على حقيقتها، واقتنع بالقضيّة، وبما عليه من مسؤوليّة في ما جرى، ويجري، وما يجب أن ننتهي منه وإليه، ووضع نفسه في المواجهة من جديد، وفي مكان مختلف؛ فأولئك يمكن استيعابهم، والتركيز على تأهيلهم وتثبيتهم على ما صاروا إليه..

لكنّ المقصودين هنا من هم في جبهة الوطن، والدفاع عنه أمام مختلف العدوانات والاستهدافات، بمختلف الوسائل والطرق، وأحدثها الإعلام، الذي يوجّه نفثاته المسمومة، على مدار الوقت، ومن مئات منابر البثّ المتّصل، والقول السفيه، والتضليل والتـعمية والكذب والتشويش.. هذا الإعلام الذي يسوّق للمتآمرين، والخارجين على القانون الإنسانيّ، ويكرّر الصورة المشوّهة، والفكرة المدبّرة بأكثر من شكل وحين؛ للتمويه أكثر، وجعل ما يقال حقيقة لدى السامع، الذي تضيق به الحال، ولتزيد معاناته، وهشاشته، ويتعمّق النخر في نواته الحافظة، والتشكيك في مصادر قوّته وعناصر مقاومته؛ فيغدو من هم في هذا الجانب الصامد أوهن، وأقرب إلى اليأس والقنوط والاستسلام والانهيار.. وما أصعب أن يساعد الكائنُ الآخرَ على هزيمته؛ بفتح الطرق له؛ بقصد أو من دون قصد، أو بالتهرّب، أو والهرب منه، أو الخنوع والهوان وتسليم الأمر له، وانبطاحه أمامه؛ على الرغم من أن هذا المنهزم المستسلم، يمتلك ذاتيّاً وجمعيّاً مكامن قوّة، لم يهتدِ إليها، وقوى وإمكانيّات لم يختبرها، ووسائل لم يلجأ إليها، وأصدقاء لم يثق بهم؛ كما لم يثق بنفسه؛ وهذا يأتي في صلب الاستهداف الخبيث المركّز والمتنوّع للتأثير على النبض الحيّ، والجذوة الموقدة للإرادة، والعزيمة، والصمود، والمقاومة. إنّ الإنسان المقاوم الصلب؛ ولا سيّما في الأزمات، لا يمكن أن يكون بلا ثقة بنفسه، وبلا إيمان بحقّه، وبلا انتماء يعتزّ به، ويتمسّك به، ويدافع عنه، وبلا رؤيا تهديه إلى طريق الشرف والكرامة، وإن كانت مسكونة بالمخاطر، ومعرّضة لأيّ من أنواع الخسارة، حتّى خسارة النفس، في سبيل الأجيال ومستقبلها، والوطن وما يستحقّ، والحياة وما تحترم.

كلّ هذا مرهون بالوعي بحقيقة الاستهداف، وجذور المسألة، وتاريخ المنطقة، وجغرافيّة العالم، ونيّات المستهدِفين، وأساليبهم العلنيّة والسرّيّة؛ والإيمان بضرورة المواجهة حتّى آخر رمق.

 ولا بدّ من أن نتنبّه إلى أنّه، ليس كلّ من كان في صفّنا صادق الطويّة، مؤمناً بالقضيّة، مستعداًّ للتضحية في سبيلها؛ فمن بيننا نهّازو فرص، ولديهم نوايا مختلفة، وغايات قاتمة، وقد يكونون خناجر في الخاصرة والظهر، تشتدّ ضراوتهم و”أهمّيّتهم” في أوقات الضيق والحصار المادّي والمعنويّ؛ إنّ بيننا أصحاب مصالح خاصّة، يريدون مجداً شخصيّاً، ونفوذاً ما كانوا ليحصلوا عليه، في ظروف الرغد والهناء والاستقرار والسلام؛ وهم قد يتظاهرون بالاستعداد للمشاركة في المواجهات؛ وقد يقدّمون من لدنهم القليل؛ لينالوا الكثير من المغانم، وينشغلوا بها.. وقد استعدّوا لهذا، وأعدّوا العدّة والعتاد لذلك..

إنّ بيننا، من هو صادق النيّة، شحيح القدرة على التبصّر والشجاعة والإقدام، ويستمع إلى الإشاعات والدعايات، ويستدعيها، ويصدّقها، وقد يتبنّاها، ويسهم في تعميمها.. إنّ أمثال هؤلاء عبء وعطالة وعثرات.. وبين ظهرانينا، أيضاً، من يحتاج إلى دعم معنويّ ونفسيّ، وتشجيع ومبادرة، ولا بدّ من التوجّه إليهم بالاهتمام والتوعية؛ لكسب قدراتهم في المواجهة الضاريّة في أكثر من جبهة ووجهة وسمت. وتبقى في الجوهر شريحة من الأوفياء الشرفاء، الذين يمتلكون الحسّ والثقافة والقناعة والثقة، وعليهم مسؤوليّة كبرى، في ضمان الإبقاء على الحدّ الأدنى من الثوابت والقيم النبيلة، التي تتعرّض هي الأخرى لوابل من السهام المعدّة بدقّة وإتقان؛ لكنّهم يدركون جوهر القضيّة، ويفهمون مدياتها المفتوحة والمغلقة، فيتمثّلونها، وينشدون الحقّ لهم ولسواهم، وهم واثقون بقدراتهم، وبصدقيّة الأصدقاء، التي تتكشّف مع مرور الوقت!  هذه الشريحة، مهما كان عدادها، لها تأثيرها الواعد، ونتاجها المبشّر، ويجب ألّا تترك لوحدها، وألّا ينتقص من نشاطها وعزيمتها وقصدها وجدواها، في ما تقوم به من عمليّات وفي مختلف الجبهات؛ سواء بالطرق العاديّة أو المبتكرة، المألوفة أو المستجدّة؛ بل يفترض أن توجّه إليها الثناءات والإشادات فرديّاً أو جماعيّاً حاضراً ومستقبلاً…

ومهما كانت الحرب معقّدة ومديدة، ومهما استخدم فيها من أساليب، فإنّ المواجهة واجبة وممكنة ومصيريّة، وطالما بقي الوطن المقاوم حرّاً؛ مع الفواقد والخسائر والجراح والنزيف، فإنّ قوى العدوان ستفشل في مبتغاها؛ ولكنّها لن تنسحب بسهولة، ولن تسكت على خذلانها، وستلجأ إلى أساليب أخرى؛ لإطالة زمن الخراب، وترحيل زمن الترميم وإعادة البناء إلى أجل غير مسمّى، وهذا يستدعي وعياً أيضاً؛ لأنّ اليأس من الخلاص لا يجدي، والتشكّي ممّا هو قائم وماثل، لا يفيد، والمطالبة بإحقاق الحقّ والعدل واجبة وحقّة، لكنّ هذا لا يعني إظلام النفس، وتسعير الجمر، الذي ما يزال تحت الرماد، في ما تبقّى من جسد وإحساس وروح..

ولا تقلّ الحاجة إلى الوعي، مع انتهاء العمليّات المدوّية، والتفكير في ما يلي ذلك؛ فالمطلوب كثير، والممكن أقلّ، ولا بدّ من وعي وقّاد، لوضع الأولويّات الضروريّة، وتأمين الحاجات الأساسيّة، مع ابتداء حملة المراجعة للثغور، التي نفذ منها الأعداء، والعمل على إحكام إغلاقها، وتشخيص المعابر والمنابر، التي كانت ميسّرة لهم، ومعالجتها، ومن الضروريّ تثمين الحالات الإيجابيّة، وتعزيز الأصداء المشرقة لحالات الصمود الأسطوريّ، والمواجهة المستحيلة…

ولا بدّ من التأكيد على أن التركيز على سبب واحد للأزمة/الكارثة، أو سمت واحد من النتائج، وعامل واحد خارجيّ أو داخليّ، قبل أو بعد، غير حكيم وغير واع؛ مع عدم إمكانيّة الادّعاء أنّ الحال، قبل العدوان المرصود، كانت سليمة، والجسد والأعضاء والحواس كانت مصانة، وهي الآن كذلك أيضاً، ولكن عدم توسيع زاوية الرؤية، يجعل الخطو ينحصر في وجهة واحدة، وتبقى السلبيّات الأخرى بعيدة عن الاهتمام، حائلة دون أيّ إنجاز حقيقيّ مستدام، ويجب العمل على كلّ ما من شأنه، الإسراع في التخلّص من الشوائب التي كانت، وما زالت تطفح على السطح، ومن العلامات الخبيثة المتشعّبة في أنحاء الكائن فرداً أو جماعة، والقضاء على المظاهر الطفيليّة المتحوّلة، التي خرجت من نفايات الحرب العدوانيّة، ومعالجة الأخاديد والندوب والصدوع، التي خلّفتها فصول هذه الحرب الشرسة، والإقدام على الترميم بمصداقيّة ونقاء سريرة، ووضوح رؤى؛ مع البحث عن الكفاءات، وأصحاب الخبرات، والمواهب والمبادرات، والتمثّل بالقدوات الحسنة، التي كانت قبل الحرب، وظهرت خلالها، وستظهر بعدها، والعمل الجادّ والفعّال على إعادة تأسيس البنيان المادّيّ والإنسانيّ وهيكلته وإكسائه وإغنائه، بأفضل شكل ومحتوى، وبوعي وثقة وأمل.

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً