الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ملحق الثورة الثقافي ع 836
تاريخ النشر: 2016-10-11

ليس سهلاً أن تجد ضرورة في العودة إلى البدهيّات؛ للحديث فيها، ومحاولة الإقناع؛ بدلاً من أن يكون الكلام في ما حال دون تنفيذها، والعثرات التي ظهرت في أثناء الممارسة، التي يُفترض أن تكون أشواطها تعدّدت، ومساراتها تعمّقت على مرّ السنين، لدى شعب أصيل في منطقة عريقة، لم تهدأ فيها العواصف، ولم تتعب الخطوب.. لكنّ هذا الحديث في البدهيّات والأوّليّات، لا يعني أن ما من شيء تحقّق، أو أُنجز، أو ما من خطوات مشيت على الدرب؛ فالصمود الأسطوريّ لغالبيّة الشعب، والبقاء المؤسّساتي في غالبيّة المدن والمناطق، يؤكّد أنّ هناك بناء هيكليّاً حقيقيّاً، وكساء متماسكاً في كثير من عناصره؛ لكنّ هذا لا يمنع من القول إنّ الدرب طويلة؛ وهي كذلك حقّاً؛ لأنّ الأمر يتعلّق بمجموعة من العوامل العديدة، التي تتكامل، أو يُفترض أن تكون الحال كذلك، ليكون المسار آمناً، والنتيجة مضمونة الإيجابيّة والخلاص، وبأقلّ الخسائر والأكلاف البشريّة والزمنيّة والماديّة.‏‏

وليس الوعي وصفة تعطى للمحتاجين في أوقات عارضة، ولا لأفراد من دون آخرين، وليس شعاراً يرفع، بصرف النظر عن (وعي) رافعيه، والعناصر المستعملة في ذلك، ومدى جدّيتها وقدرتها على تعميمه، وقناعتها بذلك؛ وهو ليس منّة من أحد، أو هبة أو أعطية.. إنّه الرؤيا المتشبَّعة أو المتمثَّلة، والمتبنّاة، من قبل أوسع شريحة من الناس، وفي أغلب الأوقات، إن لم تكن في كلّ آن ومكان. وليس الوعي خاصّاً بأناس من دون آخرين، ولا بجماعة أكثر من سواها؛ بل إنّ حال البشر والمجتمع والقوى الفاعلة فيه، هي من يحدّد هذه الدرجة. ومن البدهي أنّ حال أيّ شريحة، تنعكس على حال أخريات بالسلب أو بالإيجاب. وليس معنى ذلك أن ننتظر حتّى تكون الظروف مناسبة للشرائح كلّها معاً لظهور الوعي، أو لنموّه، وانتثاره، وحيويّة الممارسة المتّسمة بالوعي.. على الرغم من أنّ هذا ما يظهر من ملامح وإشارات عامّة تَسِمُ مجتمعاً ما، لا من حالات خاصّة لدى أفراد محدّدين أو محدودين. لكنّ السعي الواعي في أيّ مجال، ولدى أيّ مجموعة سيُفيد الآخرين. وعلينا في أيّ موقع كنّا، وأيّ موئل نعيش، ومع أيّة شريحة نتعامل، أن نحرص على العمل الواعي، بما نستطيع، مع تطوير قدراتنا باطّراد؛ وليس حسب ما يدفعنا إليه، أو بما يُدفع لنا من أجله، ولا كما يريد الآخرون منّا؛ بل ما نريده نحن؛ لأنّه في صالحنا دائماً؛ لا في ما ننتظر لقاءه من مكافأة؛ فالنتائج الإيجابيّة فرديّاً وجماعيّاً أعظم جائزة وأغلى هديّة.‏‏

والوعي هو الهدف والوسيلة لغاية أكبر، ومصير أفضل، وخلاص حقيقيّ ودائم.‏‏

فبالوعي تشرح وتعبّر وتمثّل، وبالوعي تُقنِع.. لكن بالوعي أيضاً تُفهم الأشياء، وبالوعي يتمّ الاقتناع. وكلّما كانت نسبة الوعي أكبر، كان الاستيعاب أفضل، وكان الخطو أسرع وأجدى، والنتيجة أكثر إيجابيّة.. حتّى قياس درجة الوعي أو معاينتها يحتاجان إلى وعي، يرصد ويربط ويحلّل ويستنتج، ويصل إلى خلاصات تفيد في المراحل القادمة، التي يكون ضروريّاً فيها اختصار الوقت والجهد والكلفة.‏‏

لكنّ هناك مجالات تستطيع أن تلاحظ، بلا كبير عناء، أنّ تأثير العمل الواعي فيها أكبر من سواها، والنتائج، التي قد يطول زمن الحصول عليها، تبقى أكثر ثباتاً ورسوخاً وفاعليّة.‏‏

هل نتحدّث عن التربية في البيت، والتعليم في المدرسة، والحيويّة في الثقافة، والمبادرة في الإعلام؟!‏‏

فجميع هذه الشرائح، إذا ما كان الأداء فيها إيجابيّاً، كانت النتائج مُرضية والإنجاز أفضل.‏‏

وليس الترتيب هذا اعتباطيّاً أو عفويّاً؛ بل إنّه مقصود في الواقع، والمسار المنطقيّ والرؤية في هذا الواقع للأفراد والمجموعات.‏‏

فالتلميذ يخرج من البيت إلى المدرسة، ليبدأ التعلّم، ويمضي فيه؛ والبيت أوّلاً، والأسرة الحضن الثاني بعد الرحم. ولا يتوقّف تأثير الأسرة مع انتقال التلميذ- والتلميذة- إلى المدرسة، وتدرّجه صعوداً في مراحلها؛ بل يتّصل هذا التأثير بلا انقطاع، ويتفاعل، أو يُفترض أن يتفاعل مع تأثير المدرسة بمراحلها المتنامية ارتقاء في المستوى والمعارف، مع تنامي نضوج الفرد الجسميّ والعقليّ، وتفتّح ملكاته.. ومن ثمّ يغتني سلوكيّاً ومكتسبات وعلاقات وممارسات؛ فبالعلم والمعرفة والتواصل مع الزملاء والزميلات، والجهاز الإداريّ والتعليميّ، وما يحتضنه، ويعيش معه من شرائح جديدة خارج داره وأفراد أسرته وحارته، وما يتبادله مع هؤلاء جميعاً، ممّا لديه من أوّليّات، وما يمتلكه من إمكانيّات ومواهب، يغدو مثقّفاً بهذه الدرجة أو تلك، من المعنى العام للثقافة ومفهومها وقابليّتها لاستيعاب للعلوم والمعارف وسواها، أو بما «هو مضاف إنسانيّ إلى الطبيعة»، بصرف النظر عن التواصل المهمّ مع المؤسّسات الثقافيّة، أو المتابعة لها، مع أهمّية ذلك والتشجيع عليه، حتّى خلال المراحل المدرسيّة، والانتماء إلى إحداها. والثقافة هنا وفي هذا المفهوم، من دون تحديدها بأدب وأجناسه، وموسيقا وصنوفها، وفنون وتجلّياتها… لا بدّ أن يكون لها دور رياديّ تأخذه، قبل أن تُعطاه، وتعطاه من دون انتظار طلبه، أو قابليّته؛ وهي إشعاع على كلّ المستويات، وفي الاتّجاهات كلّها.. والإعلام من بينها؛ فالإعلام المثقّف، يعرف ما يريد المجتمع، وما يتطلّبه منه، وكيف يتحرّك ويؤدّي بما يفيد أكثر، وما الذي يجب أن يضاء أكثر؛ ليكون احتذاء ومثالاً وقدوة، وما الذي يثار أو يطرح ليصار إلى معالجته، ومن ثمّ يعرف الإعلاميّ المثقّف إلى من يتّجه، هدفاً أو مُعيناً، قضيّة أو وسيلة، ويعرف الإعلام الواعي أنّ الإهمال يؤدّي إلى الموات. وعليه؛ فإن إهمال الإيجابيّ، يسبّب خسارة مضاعفة؛ فقد غاب ضوؤه وضاعت قيمته، وغاب أثره وجدواه.. وفي الوقت عينه، إنّ المبالغة في العرض والتعويم، تأتي بالنقيض من الغاية؛ سواء أكان امتداحاً، أو انتقاصاً؛ فالمبالغة في تعظيم النجاحات، تدفع بصاحبها إلى الغرور والتكاسل؛ لأنّه بلغ الكمال، والاستغراق في عرض السلبيّات والنواقص يعجّل في الغرق، بدلاً من الإنقاذ؛ كما أنّ الإضاءة على ما لا يستحقّ تضليل وتغرير، وحرف عن الاتّجاه الصحيح، إلى جهة قد تغدو العودة عنها صعبة ومكلفة، وإلى تعلّق يصبح التخلّص منه عصيّاً.. (كالخطاب الديني مثلاً؛ فحين نبالغ في الارتهان إليه لمواجهة من يستخدم الدين سلاحاً، يؤدّي إلى الانجرار (المطلوب) إلى الحفرة التي نخسر فيها، حتّى لو تحقّق الفوز في هذه الجبهة، ويصبح سحبه من التداول صعباً، وسيبقى مهيمناً على الحضور الثقافي المتنوّع والمتعدّد والمنفتح؛ لأنه متناقض معه بنيوياً وممارسة…).‏‏

إنّ الحديث في المحاور الأربعة، لا يجعل الأمر متوقّفاً عندها، ولا عليها؛ لكنّ تأثيرها يتوزّع الحالات الأخرى؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة… مع مؤثّرات أخرى عديدة ومختلفة الفاعليّة والتأثير.‏‏

ولا يمكن التغافل- مثلاً- عن الوعي العام بالحقوق الشخصيّة والمجتمعيّة، وضرورة المطالبة بها، والأسلوب الذي يجب أن يتّبع في ذلك؛ وليس مناسباً ولا مقبولاً التنازل عن الحقوق إلا لدرء خطر أكبر وإلى حين وليس بإطلاق؛ أمّا الواجبات، فمن المهمّ أن يعرف المرء ما عليه منها، تجاه نفسه، وغيره من الناس، الذين يعيش معهم وبينهم، والطبيعة التي نعتاش منها؛ وهنا تكون المعرفة بالقانون مهمّة، كيلا يتمّ تجاوزه؛ على الرغم من أنّ غالبيّة من يتجاوز الحدود في العادة، يعرف أنّه يرتكب هذا الفعل مخالفاً؛ لكنّه يعتمد على جهل الآخر به، واستسلامه أو خنوعه لقوّة المعتدي، وتمثّلاً بآخرين أقوى، داعمين أو غاضّين الطرف عن فعلات كهذه..‏‏

إنّ للحياة العامّة في أيّ مؤسّسة أو دائرة أو تنظيم، كما في الضيعة والشارع والحيّ، وفي الحافلة والحديقة والموقف، قواعد وأصولاً، وعلامات تدلّ على وعي أصحابها؛ فمن يقف بالدّور في تقديم معاملة، أو الحصول على خبز أو معونة، يفرض احترامه على كلّ من يراه، أو يتعامل معه؛ وهو يختلف عن ذاك الذي يتجاوز الإشارة؛ لأنّ الشرطي لا يراه، ويحمل تحت إبطيه ما خفّ حمله، وغلا ثمنه، وغشّ في الامتحان؛ لأنّ المراقب لا يراه، أو لا يريد أن يراه، ويسكت عنه، بأجر أو «قناعة»ّ؛ أمّا الارتكابات الأكبر، فتقتضي معالجة أعمق وأوسع وآلم من الإشارة والعتب والازدراء، إلى المحاسبة والتشهير والحكم بما يستحقّ فاعلوها وداعموهم.‏‏

ومع ذلك، ومع محاولات تعميم مفاهيم الفساد والانحلال والخيانة واللاانتماء، يستطيع المحصّن بالوعي أن يبقى خارج دائرة التأثّر، وخارج الأمواج المعكّرة، مع تقبّل فكرة المقاومة الشرسة، التي لا تقلّ عن المواجهة المسلّحة للأعداء، واحتمال التضحية إلى آخر درجاتها.‏‏

ولا يمكن التغافل عن أنّ الأداء الفاعل في المجتمع بمؤسّساته المختلفة، لا بدّ أن يقوم على الحوار والانفتاح على الآخر؛ والحوار ليس تلقيناً في اجتماعات، أو محفوظات في كرّاسات، ولا انصياعاً غريزيّاً بتوجيه أو فتوى؛ بل هو قول واستماع، وأخذ وعطاء، وفرص متاحة للجميع، بما يملكه الشخص من قابليّة وإمكانيّات، وما يمكن أن يقدّمه بلا انتظار الربح والثمن..‏‏

إن كلّ مؤسّسة ودائرة وتجمّع مهما صغر أو كبر، يشكّل مجتمعاً يطول التواصل معه أو يقصر التفاعل فيه؛ كما هي حال الأسرة والحارة ومساكن العاملين في قطاع واحد، أو الجمعيّات السكنيّة التي لها طابع خاصّ أو حتّى عام؛ حيث المشكلات تتشابه وتتكرّر، والأحاديث مكرورة، والناس متقاربون، وقد تنتقل تراتبيّة العاملين في المؤسّسة إلى تراتبيّة في المستوى الأسريّ، مع ما لذلك من آثار نفسيّة، يحاوَل التعويض عنها بأساليب غير طبيعيّة!‏‏

لكنّ هذا كلّه، مع عوامله الذاتيّة والقريبة والمتفرّعة، ليس من دون تأثير خارجيّ؛ وليس عبر وسائل الإعلام العاديّة التقليديّة، فحسب، بعد أن صار لوسائل التواصل الاجتماعيّ حضور يتّسع، وعبور دائم- كأنّك على طريق عامّة- وإقامة شبه قائمة.. ويزداد تأثير ذلك، باطّراد، وتتفاعل تبعاته أضعاف ما كان يحدث؛ فقد تفرّق من كانوا يجتمعون في أحياز كبيرة، وقاعات وصالات وساحات ربّما، ومن بعدُ، أمام شاشة كبيرة أو صغيرة، إلى أفراد- حتّى وهم في مجموعات- مع شاشات أصغر فأصغر، وأحياز محدودة، وصار الانفعال سلبيّاً منفرداً، والسلوك توحّداً.. وحين يخرج إلى الآخرين يغدو مَرَضياً ومؤذياً، وينعكس سلباً على العلاقة حتّى مع الأهل والجيران والأصحاب.. ولم يعد القريب الأليف مألوفاً أو مقبولاً، بل صار البعيد الغريب أقرب وأكثر حضوراً وجاذبيّة.‏‏

لا يعني هذا أن الأمور قاتمة باطّراد، والكارثة حالّة لا محالة؛ بل إنّ حالات إشراق لا يمكن تجاهلها، ومواقف في مجالات شتّى، فرديّاً وجماعيّاً، يجب الاحتفاء بها وتجذير حضورها، وتعميم تأثيرها.‏‏

فلا يمكن أن نتحدّث عن الوعي المجتمعيّ في ظروف كالتي نعيش، من دون أن نشير إلى العنوان الرئيس للوعي في ردود أفعال ذوي الشهداء، حين استقبال جثامين أعزّتهم؛ ومنهم من فقد أكثر من ولد أو شقيق؛ والقبول بالأمر، لا يعني تقليلاً من الحزن

، أو استخفافاً بالحالة؛ بل هي تقدير للحال التي استدعت هذه الخسارة، واحترام للبطولة والشجاعة والتضحية في سبيل الوطن وأبنائه وحدوده وكرامته.‏‏

لقد أظهرت وقائع العدوان المتّصل على سوريّة منذ ما يزيد عن خمس سنوات ونصف، أنّ تفتيت المجتمع هدف وأسلوب وسلاح لدى الخصوم، وهو أهمّ وأخطر من الحروب المباشرة، وهذا ما يستدعي العمل بلا هوادة، ولا إهمال، ولا غفلة لتحصين مجتمعاتنا وتحسين ظروف الناس، وتأمين الكفاية والعدالة والإحساس بالكرامة للناس، الذين يحتاجون إلى التعامل الإنسانيّ دائماً (ولاسيّما المنكوبين منهم)، وبقدر أكبر من أيّ حاجة أخرى؛ كيلا يخفّ انتماؤهم، ويسهل انزلاقهم أو استلابهم نتيجة الترغيب والتضليل والتبرّم من شظف الحياة وعسف المعاملة. ومن الطبيعيّ ألّا يكون العمل في أثناء الأزمة فحسب؛ هذه التي تكشف العيوب والنواقص المهملة والمتراكمة من قبل الأزمة، مع معرفتنا وقناعتنا بأن وراء الأزمة وبعدها أزمات، وتاريخنا يشهد؛ فلا مسوّغ أن نفاجأ في كلّ مرّة! وهي مسؤوليّة الجميع من دون شكّ؛ لكنّها مسؤوليّة المثقّفين أكثر!‏‏

وإذا كان ما من حلول جذريّة مباشرة للقضية «الوعي المجتمعيّ»؛ فإن الحلّ السحريّ الذي يبقى صالحاً وضروريّاً ومجدياً في كلّ حين، هو الحلّ الثقافيّ، الذي يستوعب ما كان، ويتفاعل مع الحاضر، ويؤسّس للمستقبل، وهو حلّ نظيف سلميّ، ليس فيه من خاسر؛ بل الجميع رابحون. وإذا كان هذا الحلّ مهمّاً دائماً، وفي أيّ ظرف؛ فإنّ أهمّيته تتضاعف في الأوقات العصيبة، ولا سيّما إذا كان الكثير من المشكلات لها أبعاد تتعلّق بالأفكار والعقائد والإيديولوجيّات؛ ولا سيّما الدينيّة منها، والظلاميّة التكفيريّة، التي تنسحب على العقائد الأخرى. وحين تستعمل في العلاج الأسلحة العقائديّة ذاتها بمفرداتها وبمصطلحاتها وانتشارها، يكون الجميع خاسرين؛ فيما الوطن، بناسه ومكوّناته وأرضه، ومع الآخرين.. يتطلّب أن يكون الجميع رابحين؛ لأنّ في ذلك خيراً للإنسانيّة كلّها؛ وهذا ليس خياراً؛ بل هو ضرورة لا بدّ منها، ولا بديل عنها، للخلاص الآمن، والبقاء المنتج، والعيش الكريم.‏‏

اترك رداً