الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: عبد اللطيف أرناؤوط
الناشر: صحيفة تشرين
تاريخ النشر: 2011-04-21

تمثل كتابات غسان كامل ونوس التجارب الأدبية لجيل من الشباب يمثل ثورة على النمط التقليدي للثقافة العربية، وأساليبها،.

بحكم أنها كتابة ماخوية في بناها وهي جامدة وسطحية ومفارقة للواقع التاريخي الجديد الذي أمست البشرية تعيش فيه، فعقم الفعل الاجتماعي الراهن ناجم في نظر المنظرين لهذه الثقافة من قصور فاعلية الأدوات القديمة، ينسحب ذلك على الخطاب الأدبي في الشعر والنثر الذي جمع عند حدود العقيدة التقليدية في الشعر، والسرد الخطي السطحي في كتابة الفنون الأدبية من قصة ومقالة ومسرح ورواية بحكم أن هذا السرد لا ينفذ إلى أعماق الأشياء، ولا يداوي أزمة المجتمع العربي، فلكي يتغير وجه المجتمع لابد من تجاوز الواقع بظاهره المحسوس إلى تغيير الباطن في النفس. ‏

وغسان كامل ونوس أحد هؤلاء الشبان التجريبيين في مجالات القصة والشعر والثقافة، ولد في طرطوس عام 1958 وهو عضو اتحاد الكتاب العرب، ومن الأدباء الذين مارسوا الكتابة الأدبية رغم اختصاصهم العلمي فهو مهندس مدني شأنه شأن العجيلي الطبيب وأبو ريشة الكيماوي، ويبدو أن هؤلاء الأدباء الذين لم يكونوا مختصين جامعياً بدراسة الأدب واللغة يظلون أكثر جرأة على اقتحام اللغة والاجتراء على قوانينها والسعي لتحديث أساليبها التعبيرية من الكتاب والشعراء المختصين بمجالي الأدب واللغة الذين يفرض عليهم اختصاصهم الأدبي ملازمة التراث ونصوصه المختلفة ما يجعلهم أكثر تأثراً بأنماطه التقليدية وطرائق تعبيره الموروثة، وقد أهله ميله الأدبي إلى إصدار عدد من الآثار، منها في مجال القصة (الاحتراق) 1992، وظلال النشوة الهاربة 1994، ودوار الصدى 1997، وأحمر وأبيض 1998، والعائذ 2000، ومفازات 2003، وخطايا 2005، وفي الزمن الراجع 2007، ما يشعر بدأب هذا الكاتب والشاعر ومثابرته على الإنتاج القصصي بانتظام وبمعدل أثر قصصي كل سنتين وعبر زمن يقارب عشرين عاماً، ويجد مع هذه المثابرة فرصة لكتابة ثلاث روايات (المدار 1994) وتقاسيم الحضور والغياب (2002) وأوقات برية (2006) وديوانين شعريين هما: تضاريس على أفق شاحب 1996، وموال الأرق 2007، على أن الإبداع لا يقاس بغزارة الإنتاج بل في نوعيته ومستواه الفني، ومدى إسهامه في الارتقاء بالإنسان ذوقاً ومعرفة وسلوكاً. ‏

ثروة القصة ‏

في قصصه عبر (الزمان الراجع) يتجاوز غسان الثروة الفنية للقصة التقليدية من حيث السرد التتابعي أو التعاقبي للوقائع، ولا يولي الأحداث الخارجية التي تجري على سطح الحياة أهمية تذكر، فهي ليست إلا مظهراً خارجياً يحيط بأبطال قصصه ويعبر عن الوجه الظاهري لحيواتهم، فواقعيته ليست واقعية خارجية حسية أو تصويرية أو تسجيلية للأحداث إنها واقعية نفسية جوانية تنفذ إلى أعماق الشخصية وتسعى إلى تحليلها، وتعري الصورة الخارجية للبطل أو الشخصية وتحدد دوافعه الخفية، وتناقض سلوكه وتصرفاته الملحوظة مع ما يخفيه من أهوال وميول، فالإنسان ليس ما نراه من الخارج بل ما نقرؤه من الداخل، وبالتالي فإن الفن ليس محاكاة للطبيعة بمظهرها الخارجي وإنما هو حفر في الأعماق يقوم على التذكر والاستبطان والتجريد، وإن تأمل ما يصدر عن الإنسان من سلوك وتصرفات ظاهرة ملموسة لا يعدو أن يكون شعاراً خادعاً لنفسه التي تعج بالمتناقضات والمفارقات، وهدف الكاتب حين يكتب يتجلى في قدرته على تجلية هذه الأعماق النفسية لأنه بذلك يعزز فهمنا للطبيعة الإنسانية، بهذا يصبح القبض على (الزمن الراجع) تثبيتاً للزمن الحاضر وتطلعاً للمستقبل، ويغدو فعل الكتابة انخطافاً للكاتب واندماجاً في جوهر التجربة الفنية، وطريقة للتعامل مع الواقع. ‏

من هذا المنطلق يواجه المتلقي في قراءة قصص غسان صعوبة في تمثلها وإدراك حقيقة مقاصده، لكن ذلك لا ينفي التمتع بها على قدر ما توحي به لغتها الجمالية المجردة، والعاجزة عن الوفاء بحق اللحظة الجمالية التي يجسدها المبدع مهما بلغت من التجريد، على أن الكاتب لحسن الحظ لم يذهب بعيداً في الغموض والتكثيف اللغوي شأن الحداثيين، فلغته الجمالية تقع في مرتبة متوسطة بين اللغة الوظيفية الواقعية والدالة، واللغة المعماة والمنزاحة عن وظائفها الدلالية المتداولة، إلا في حالات محدودة تبدو رسالته اللغوية فيها ضائعة في حدود اللامعنى والانغلاق… يوحي عنوان القصص بأنها محاولة لاستحضار الزمن الماضي واسترجاعه كما فعل بروست في البحث عن الزمن المفقود غير أن الفسحة الزمنية في قصص المجموعة أكثر امتداداً واستغراقاً في زمن مضى قد يمتد إلى طفولة الكاتب، كذلك فإن زمن تسجيلها يبعد عن زمن حدوثها كما يبدو فهي ليست تسجيلاً لزمن آني قريب لا تعتمل فيه الذاكرة أو تعرض الذاكرة للنقص والتحريف، يقول غسان في قصته التي أصبح عنوانها عنواناً للكتاب: (في الزمن الراجع تختلف الأشياء، تتحور الألوان، وتجهد الأطياف كي يبقى لها حضور مجد، تتسارع المشاهد رغم أن الخطو وئيد، والإيقاعات تضطرب وتتوالد المنعطفات والمنعرجات… للزمن الراجع تقويمه حاضره المنحدر باندفاع إلى الماضي مع غموض في الأفق الحاضر). ‏

الحياة الذاكرة ‏

الحياة في نظره إذاً ذاكرة وتذكر، وما بقي من ثمالتها هو هذا الذي تحتفظ به الذاكرة ليغدو قضية أو معياراً لإنسانية الإنسان ومعنى وجوده. ‏

ويقول في قضية أخرى بعنوان (قبل الوصول) الرحلة أية رحلة تكفي كي يصبح في الحياة ما يحفز على استمرارها… ويضيف (كلها أمور تجعل للوقت قيمة أتحسر على فقدها). ‏

من هذا الدور الذي يحتله الزمن المراجع في حياة الإنسان ينهل الكاتب قصصه فيجعلها محطات للتذكر والبوح والاعتراف بلسان السارد أو الشخصية نفسها، ولا يقيم وزناً لرسم البيئة الخارجية كما في القصص التقليدي إلا بمقدار ما تنعكس آثار تلك البيئة على نفسية الشخصيات، ولا يراعي في السرد نسقاً تتابعياً تجري فيه الأحداث وفق ترتيب سببي بل يسرد الماضي على صورة أجزاء متقطعة لا ينتظمها ناظم فهي أشبه بحلم أو فيلم سينمائي اقتطعت منه أجزاء ولم يبق من بنيته إلا وقائع متقطعة تشير إلى موضوعه تتخللها فراغات يترك للقارئ رتقها ليتمثل موضوعها. ‏

في قصة (الحبة) يرسم العالم النفسي لبطلها سعيد عبر حوارات متقطعة، بين أخته وأخيه، واعترافات وذكريات تسردها الأخت نفهم منها ممارسة سعيد للعنف والإدمان على الشراب في طفولته بسبب تصدع أسرته، فوالده زير نساء، وأمه خاضعة مستسلمة، وقد تولى بعد موت أبيه رعاية الأسرة فكان دأبه ضرب اخوته وشقيقته، وكان زوجاً فاشلاً بعد ذلك لم يحقق لأسرته ما يصبو إليه وقد دفع بأخته إلى سبل الرذيلة مضطراً، ثم بدا في آخر حياته مهزوماً فاقد الحول. والقارئ لا يستحضر هذه الوقائع من سرد قصصي تقليدي بل يلتقطها متقطعة من اعترافات أخته وحوارها مع أخيها الآخر، ومن خلال خواطرها المتباعدة فينا، والمتقطعة وكأنها لقطات سينمائية معزولة. فالكاتب يسلط على التحليل النفسي للشخصيات جلّ اهتمامه، ولا يعنيه كثيراً الأحداث الخارجية لحياة الشخصية: (جرجرك خلفه إلى بيوت الغرباء ليقبض الثمن)، (أنت تعلمين أن حيله شحيحة)، (هل فكرت أن يفعل أخوك شيئاً بهذه الجثة التي لا تموت…).. ‏

وفي قصة (العصا) تدور وقائعها الذهنية في عقل بطلها فهو يستعيد تقليد أبيه الذي كان يحمل (العصا) لكنه لا يعرف سرّ احتذائه المصطنع لأب كان يدرك جيداً هدفه من حملها في ضبط أسرته، أما هو فقد تنازل عن قيادة بيته، وقهرته زوجه فبدا ضعيفاً أمام رغباتها، وهي تمارس حريتها وتسيّدها كما تشاء وبذلك فقد رمز سيادته، وهو يستردها لاشعورياً بحمل العصا التي فقدت مدلولها في حياته، فقد كانت العصا بيد أبيه لمن يعصي، أما في يده فهي رمز ضائع لرغبة مكبوتة. ‏

طاقات اللغة ‏

لا يسع القارئ إلا أن يعجب بطاقات اللغة التي يعبّر بها غسان ونوس عن عوالمه القصصية، واستصفائه أدق قدراته للتعبير عن عالم الشخصية الداخلي، وبخاصة حين يشفّ في تصويره لأرهف المعاني العميقة ببيان مجرّد، فجوهر إبداعه يكمن في تشكيله اللغوي، وابتداعه لغة خاصة للكتابة في تراكيبها ومفرداتها، وإن كانت تدفعه أحياناً إلى الخروج عن السلامة اللغوية في بعض تراكيبه وهي نادرة بالقياس إلى نصاعة لغته وجزالة تراكيبه وتتجلى المشهدية في قصصه بأجلى صورها في قصة (تهامة) فهو ينقل القارئ من دون تمهيد أو ربط من مشهد عناق بين رجل وامرأة في الشارع إلى مشهد الحارة التي تنام على همومها، وتتراكم بيوتها، ثم مشهد خروج البطل في ليل المدينة المكفهر وحركة المارة وفضلات الشوارع إلى الحديث عن نزاهة بطل القصة في عمله وشهامته، ورتابة حياته التي تحوّلت إلى ممارسات آلية إذ لم تنفعه شهامته وإيثاره وخدمته للناس إلا في إحساسه بالرضا عن ذاته في مفاصل حياته الرتيبة بعد الكبر. ‏

النقد الاجتماعي ‏

يبرع الكاتب ونوس حين يمارس عملية النقد والتوجيه الاجتماعي بصورة غير مباشرة، فلا يلمس القارئ أثراً من وصاية عليه أو نزعة التعلمية، وإنما ينفذ إلى هدفه من خلال رسم عالم شخصيات قصصه النفسي لتكون نماذج إيجابية يسترشد بتصرفاتها ففي قصة (العزاء) يلفت نظر قرائه إلى مشكلة المعوقين، ويستثير مشاعرهم لرعايتهم، فبطل القصة طفل معوق لا يقل ذكاء عن أقرانه الأصحاء وقد استطاع أهله أن يتغلبوا على إعاقته بالرعاية لكن الموت يضع حدّاً لحياته ويضاعف آلام أبويه. ‏

وفي قصة (ولدي) ينفذ إلى معالجة مشكلة تربوية سائدة وهي مصارحة الأطفال بحقائق الجنس وتردد الأهل في توعيتهم قبل أن يتلقوا هذه الثقافة من مجلات الجنس والتلفاز والأقران الفاسدين. ‏

وفي قصة (في الزمن الراجع) التي تقترب في موضوعها من قصة (الباب الضيق) لأندريه جيد، يحلل غسان بعمق بطل القصة الذي لم تكن لديه الشجاعة لمصارحة فتاة أحبها وكان يراها كل يوم في رواحه من عمله، ويمرّ الزمن ويجهد البطل أن يدخل من الباب الضيق فيتردد ويظلّ حبه يتيماً من طرف واحد، وتضيع ذكراها مع مرور الزمن الهارب فليس له الآن سوى التذكر ربما تكون الآن مستقرة في حضن دافئ لا أسلاك أمامه ولا أسوار، كنت تقول: لن تحزن لذلك، لا تستطيع أن تتصورها بأقل من الراحة والسعادة لها، ويليق بها الكثير من المعاني التي كان عصياً عليك تأمينها. ‏

ربما يحاول غسان كامل ونوس في تطوير تجربته القصصية نحو حداثة تمثل المتحوّل وليس الثابت في بنية القصة العربية التقليدية كما عبّر عنهما أدونيس وقد برز هذا التحوّل في لغة القصة، وطريقة السرد وتقنياته التي تقوم على التشظي والتحليل الداخلي للشخصيات، تظل تجربة غسان محاولة جادة على دروب تحديث القصة جديرة بالتقدير تمهد لاتجاهه النفسي في مجموعاته القصصية اللاحقة. ‏

اترك رداً