شهادة
حول تجربتي في الكتابة
المهماز السحريّ
غسان كامل ونوس
في البدء كان..
في البدء كان البكاء والبرد والشحّ.. الطين والغبار والسقف الخشبيّ.. كائنات (عاقلة) حانية وحانقة، وأحياء أخرى ودودةٌ وقارسة أيضاً!
وعورة وحراج وطرق تضيق وتتعرّج، أقدام تتشبّث، وتتلاحق صاعدة هابطة.. نهارات تقصر وتطول، ليالٍ تتطاول، وتتقلّص؛ عواصف، وأصوات تنهدّ من قبّة مدلهمّة تحترق، تقارب بين الذرى المحيطة.. الوادي معبر صقيعيّ.. قائظ، والكائن (أنت) حشرة أخرى تنهض، تدبّ، تحدّق في العناصر القريبة، تتأمّل في الملامح البعيدة، تتلملم؛ لتغوص في الداخل، الذي لا يأمن!
في البدء رحمٌ.. ظلمة وأمان، تكوّر وانكفاء واكتفاء..
أمانٌ.. برغم الخضّات، التي لا تهدأ إلّا باستراحة الوالدة المشغولة أبداً، والارتعاشات التي لا تتوقّف إلّا بهدوء عاطفيّ أموميّ، وهيهات أن يهدأ! أمانٌ محصّن بالحصار المقيم إلى حين.
في البدء كان الضوء، والخوف، والدهشة، والتساؤل، والبحث عن مسوّغات الأسئلة، والإجابات التي لا تشفي!
في البدء لوم وتخيّلات وتهيّؤات، واتّهامات لعدم التدخّل من أجل ما يمكن، ما هو أفضل.
إنصات إلزاميّ لقصائد تُنشد عند الفجر، يتعالى بها صوت أبيك الجبليّ، مع إمالات في الكلام الفصيح، تتندّرون بها، ثمّ ترقّب لسماعها، وخشوع لإيقاعاتها النادبة ومعانيها، التي توغل في العتمة، تستضيئها، وتخفّف من وقع (الدلف) الذي ساهركم، أو تستنهض الهمّة، التي تنوء تحت ثقل المهمّات الكبيرة على الأجساد، التي ما تزال تكبر.
استظهارات شاديةٌ لنصوص القراءة الأولى، ومحاولات تجويد في (جزو عمّ) آناء الأماسي الطويلة المحاصرة بالوحدة والريح، والقلق الذي ينعكس على الوجوه المصفرّة، وظلالها الشبحيّة المتراقصة مع حركات شعلة السراج، سميرِك البائس، الذي تراوده النسمات المتطفّلة من فتحات الباب الخشبيّ والنافذة اليتيمة، فيرتعش، حتّى ليكاد يعمى!
*
سيرٌ مطوّلة وقراءات متطاولة، وكلمات تستهويك في أغنيات فصيحة، تنشدّ إلى كتابتها، متشاغلاً عن مهمّات مدرسيّة ومنزليّة ملحّة، أو مسافات زمنيّة في الرعي وانشغالات أخرى؛ مستفيداً من الفرصة، التي أتيحت بالسماح لك باصطحاب المذياع، الذي يرافق ولع التحفّز لخبر يسرّ؛ فقد تبخّرت المسرّات الأخرى، ودفنت في بئر عميقة –كتلك التي كان أبوك يحفرها- مـع أجور حفرها المقطوعة، التي لا تراعي نوعيّة الحفر صخراً أو تراباً أو بين بين.. والأرض تفرق بالشبر! والوقت والحال والخوف.. لا تفرق بالسنين!
*
“محاولات ابتدائيّة بين القصّة والشعر”؛ تلك كانت أولى الردود على إسهاماتك في دوريّة أدبيّة بتّ تراسلها؛ هل كان ذلك إرهاصاً مبكّراً بتداخل الأجناس الأدبيّة؟!
هواجس تنتابك، تعجز عن تفسيرها، وتعجز عن الاستسلام.. آفاق تحار في امتدادها، وسماء تنشغل نهاراً وليلاً بغيوم وشمس وقمر ونجوم.. التبّانة لا يملّون من السير، ولا ينظّفون دربهم، والهدر مستمرّ، وإهراق الليالي والنهارات دونما تفسير، وخسارة في الأرواح، والناس في مزيد من الهدر، يموتون من دون استئذان، ويُنسَون، كأنْ لم يكونوا..!
فكيف يمكن أن يكون الذكْر والبقاء والصدى؟!
*
“المحيط الأطلسي، كان يسمّى بحر الظلمات قبل أن يُكتشف”!
كنت تقول ذلك؛ مجادلاً من يحاول إقناعك بالقبض على الأسرار كلّها، وهو الحقّ، والباقون في خسران عظيم!
لكن الولد (أنت) لا يقتنع! لا يقبّل يد أحد، حتّى رجال الدين، الذين لا يريدون شيئاً سواه! وليس لديهم ما يفيد؛ جواباً على سؤال ملحّ: لو لم يكن هذا الذي يجري في الحياة، ما الذي كان يمكن أن يكون؟! السؤال الذي أرّق الصبيّ منذ مقتبل المحاكمة العقلية.. السؤال الذي لم يتركك، على الرغم من أسئلة الحاجات، التي تجعل من ارتداء ما يستر أمراً عصيّاً؛ ناهيك عمّا يدفئ، أو يقي من المطر والريح، ويساعد على العبور فوق الحصى، التي تزرع الدروب والأراضي المنحدرة وعورة ومخاطر.
السؤال الذي لم يبرح، على الرغم من وخز الرغبات، التي لم تكن لترحم؛ سواء لدى معايشة اللدات الذين يكبرون، وتكبر أسئلتهم وخبراتهم، التي يسترقونها من أحاديث الكبار، وهمهمة الهزيع العميق من الليل جوارهم.. فلا حواجز ولا غرف مخصّصة في بيوت تلك الأيام..
الرغبات التي لا ترحم، حين تكون وحيداً في برّيّة بعيدة، تساير الدواب، التي تصرّح، أو تعاشر كتاباً يلمّح، أو تساهر النجوم مع آهات الطرب الأصيل، أو تنكمش مغالباً حرقة الفقد، وتردّد مدفأة الحطب، في المساءات التي تتقاذف كرة الهمّ المظلمة حتّى الصباح، الذي لا يفتقد الكثير من إيقاعها القاتم.
*
ما الذي يمكن أن يكون، لو لم يكن ما كان ويكون؟! سؤال ما يزال ينغّص الأوقات، بالرغم من الحجرات المخصّصة في البيت العصريّ، والرداء الذي يستر، والصدى الذي يتعالى لكائن صار له حيّزه، الذي بات يعرف به، والحاجات التي لا تنتهي، لأكبادنا الذين يمشون، ويرغبون، ويسألون.. والرغبات لم تشبع؛ لكنّها تأخذ مسارات سرّيّة أكثر؛ لأنّ لرغبات أخرى فتوّتَها وحيويّتها، التي تتجاوز ما يظهر أنّه ترهّل لديك، أو ترمّد. وإن كان ما يزال يحترق مكتوماً، بأقسى ممّا كان ذات يفاعة.
ما الذي يمكن أن يكون، لو لم يكن ما كان؟! سؤال يتجاوز الأمر الكونيّ، والقضاء والقدر، اللذين لا يعبأان بالسؤال، وما من مسار يتغيّر أو إيقاع، ويقترب أكثر؛ لمحاكمة الواقع بأقداره الأرضيّة وقضائه البشريّ، الذي لا يرحم هو الآخر، ولا يرضى بتقبيل يد، ذاك الذي لم يحدث، ولا يسمح حتّى بالسؤال!
أمام هذا الغبن، والقهر، والحصار.. هل بقي لك إلّا أن تنفث مشاعرك كلماتٍ، وأن تبثّ عواطفك سطوراً، وأن تنفض رماد احتراقك صفحات؟! هل بقي إلّا أن تلوك الغصّات، وأن تزفر الحشرجات على الورق؟! مسلّحاً بما قرأتَ، وسمعتَ، وتعلّمتَ من لغة تعشّقْتَها، واستلذذتَ ترديدها، وتعلّقتَها.. اللغة التي استعذبْتَها كلماتٍ مرتّلة ومنشدة ومغنّاةً؛ سُوَراً وقصائد وحكايات شعبيّة وروايات.. وقرأتها مستمتعاً بحركاتها وألفاظها وإيقاعاتها الداخليّة والخارجيّة، وكتبتَها تعابير وجملاً ومترادفات ومعاني، ودوّنتها نصوصاً نثريّة ومفعّلة، وتعمّقتَ بها، حلّقت، وطوّفت.. بعد ما تساءلت، وأنت تقرأ، وتلمّظت وتشوّفت، وقلقت وهجست.. فتتقاطع مع هواجسك، وتتواءم. فتتشجّع على البوحُ الذي لا مفرّ منه، بأيّة طريقة. جرّبتها، فانتشيت، وأعدت الكرّة مرّات، فما أشبعت؛ فالمصادر المقلقة لا تنتهي، والموارد المحرّضة لا تنضب، والطبيعة ذات غنى، والبيئة حياة. والحركة لا تترك المراقب ساكناً؛ كما لا تدع المشكلات والعثرات والمقلقات والمخوّفات الكائن حياديّاً أو مسالماً أو سعيداً.
فللآخرين حاجات أيضاً، ونزوات، ومشكلات.. والشكوى لغير الله مذلّة، لكنّها للورق مسرّة. وما شعرت يوماً أنّك منبتٌّ عن أنّة، تخرج من مسام بعيد لكائن لا تعرفه؛ أو بعيدٌ على آهة تتردّد من قاع مهجور، أو محايدٌ تجاه زفرة في ركن مظلم.
لم تذق طعم الراحة، ولم تكن لتذقه، حتّى إن عبرت النهر الغضبان، لأنّ آخرين لم يعبروا؛ سقطوا.. غابوا مع مياهه العكرة، أو ما يزالون على الضفّة الأخرى. ما زلت على الضفّة الأخرى، تحاول العبور مع كلّ محاولة من آخرين، وتأسى مع كلّ خيبة لسواك، الذين يحاولون، أو لا يفعلون!
*
أممتَ الطريقَ، التي شاغلتْك في اتّجاهاتها تلويحات ملوّنة، ونداءات غامضة، ومسارات ملألأة بالتوق، وصهوات..
سلكت الطريق، التي أمّن معالمها أخوك الكبير، الذي انشغل بطرق أخرى، ظالماً موهبة، ربّما هي الشيء الوحيد الذي ظلمه.. فكان يشتري كتباً لتقرأها، وتقرأ سواها مستعارة من المركز الثقافيّ في صافيتا خلال الثانويّة، حتّى كاد هذا المورد يعجز عن تلبية احتياجاتك، التي تتنامى.
لم يكن ذلك غريباً تماماً؛ فقد كانت روايات، ومئات الليالي من ألف ليلة وليلة، وكتب أخرى، تزور البيوت العديدة في قريتك النائية؛ متناقَلة بلا جِلدات أو عنوانات أحياناً، أو بلا أصحاب! لكنّ خطاك ستتعمّق أكثر، وتختلف إيقاعاتها، التي لم تعد عابرة.
*
الكتابة لا تأتي بقرار، أو رغبة؛ إنّها استجابة لدافع غامض ومهماز سحريّ، وليست لها طقوس خاصّة؛ لديّ على الأقل؛ الأهمّ الفكرة، التي يمكن أن تهلّ في أيّ وقت وأيّ مكان.. تكبر، وتغتني؛ لتتكوّن ملامحها التي تلحّ لتجسيدها على الورق؛ كائناً آخر، قد يعود بنسبه إلى غابتي، التي تضمّ كائنات عاقلة ووحشيّة، وقد تُحَسّ في تفاصيل عناصره أدواتي اللغويّة والفنّيّة. لكنّه كائن، يفترض أن يكون قادراً على الإقناع بجدواه وقيمته بعيداً عنّي!!
لن يكون قطع حبل السرّة سهلاً، ولا الفطام جديراً بإبقائه على قيد الإبداع دائماً.
قد يكون غير مكتمل آناء الولادة، والحاضنة لم تحسن رعايته، ويحتاج إلى معالجة، تطول أو تقصر، وقد يعيش عالة على الرصيد، أو يطوّف مشرعاً نسبي، معتزاً به. قد يعجب به بعض، ويقتنع بأهمّيّته، والآخرون يستصعبون أو ينكرون؛ لهؤلاء وأولئك الحقّ في ذلك. لكن هذا لا يعني أنّ كلّ من لا يقتنع بالنص مصيب؛ فقد تكون المشكلة لديه؛ حيث المتابعة والزاد والخبرة والموهبة والحساسيّة.. لا تكفي!
وقد تكون المشكلة في عدم وجود من يستطيع التقريب بين الكائن، الذي ارتسم على الورق، والمتلقّي الدي يحاول التواصل مع ما يكتب بحدّ أدنى من الاهتمام؛ التقريب الذي يتطلّب ناقداً أو قارئاً مهتمّاً، أو محاوراً جيّداً!
*
وليس اختيار الجنس الأدبي هيّناً، ولا يأتي، أيضاً، بقرار. صحيح أنّ كتابتي الأدبيّة، تنوّعت بين القصّة والرواية والشعر؛ إضافة إلى مسرحيّة واحدة طويلة؛ كما كان للمقال الصحفيّ، والنصّ الأدبيّ حضورهما أيضاً؛ لكن كان للكتابــــة القصصيّة حيّزها الأوفر.
وأتّهم أحياناً بالصعوبة، وبأنّني أكتب للنخبة.. أقول: أكتب لنفسي أوّلاً، ولا أنافس أحداً؛ بل أحسّ أنّ تجربتي في حال منافسة مع ذاتها، وأدواتي في حال شحذ واختبار؛ ولن أكون فرحاً إذا لم تكن لكتابتي ملامحها الخاصّة، ولن أغبط للتكرار، الذي يعبّر عن إفلاس، وأحاول أن يكون في كلّ نصّ جرعة معرفيّة؛ أحبّ علوم الحياة والعلوم الهندسيّة والنفسيّة والفلسفة.. وأميل إلى أن أترك أسئلة أكثر ممّا أقدّم إجابات؛ وهل لديّ إجابات؟! إنّها تكهّنات، وتخيّلات وآمال، لا تلبث أن تنوس..
وليس ما أقول فقط هو المهمّ؛ بل الطريقة التي أقدّمه بها، تلك التي لا أقصدها، ولا أفكّر فيها؛ ما يهمّني أن لا أكون مخبراً أو ناصحاً أو معلّماً؛ بل مسهماً في تحريك التيّار، الذي لا يتوقّف على إسهامي؛ على ألّا يكون إسهامي هذا بلا أثر.
لم أقصّر، بالرغم من إحساسي الضاغط بذلك، وبأنّني في سباق مع العمر، الذي أحتاج إلى أضعاف أضعافه لأدوّن ما أرغب في كتابته.
لم أرتوِ، ولم أحصل على ما أودّ سماعه من نقد، لا مديحاً؛ بل كلام مقوّم دارس. وما زلت أنتظر.
*
“إذا لم يكن ما تريد، أرد ما يكون!”؛ كلام لا أستسيغه. لم أرد ما كان في الكثير من المحطّات؛ لم أطلق النار، ولم أقتحم، لم أشتم، ولم أشتكِ.. ولم أستسلم، وإنّ ما قمتُ به يتجاوز أضعف الإيمان، حسب ما أظن؛ ولست راضياً تماماً؛ إنّه تشارك وتفاعل، وتعاون على مواجهة المنغّصات الداخليّة والخارجيّة؛ في محاولة للحصول على توازن مفقود منذ البكاء الأوّل؛ بل الخطيئة الأولى؛ أو هو سعي جدّي إلى ذلك؛ على الأقل؛ فهل من مناص أو خلاص؟!
*
في البدء كان الألم، فالضحك الذي ضجّ، فناس حتّى كاد أن يتلاشى..
في البدء كان الإبداع..
فكيف يمكن أن يكون الختام؟!!
***
غسان كامل ونوس