الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

المكان وأنا والأدب

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

المكان كان

وأكون

والأدب يكون!

لم ينتظرني؛ هل استبقني، ليتهيّأ لي؟

هل احترمته، وشكرت له احتضانه، وأكرمت مقامه؟!

هل تمثّلتُه، واصطفيته، وانتبذت به نصّاً عصيّاً؛ لأخلّده، أو لأتملّكه، وأنجب فيه ما يمكن أن يتخلّق؟!

أم كيّفته حسب ما أريد؛ وهل أعرف ما أريد؟! اختصرته، وأعدت تكوينه، وضاق بأحلامي، وأمانيّ، وأوهامي، وتهويماتي، ومخلوقاتي؟! هل يمكنها أن تتكيّفه، أن تعيش حسب معطياته، أم ستكيّفه، لزمان غير زماننا، حسب ما تريد؟! وإلامَ؟! وكيف؟! ولماذا؟! وهل تعرف تلك الكائنات النصّيّة ما تريد؟!

*

المكان وأنا صنوان؛ كان قبل أن أكون؛ فهو موئلي/موائلي، وأنا مواطِنُهُ؛ وليداً ويافعاً و…، باكياً وضاحكاً، قلقاً وشاكاً، محتاجاً إلى الأمان، باحثاً عنه، مفتقده! توّاقاً إلى الرضا، متوسّله، نتبادل المشاعر الكامنة؛ ألفة وحنيناً، تأسّياً ومواساة وعزاء؛ قبل الأدب ومعه وبعده!

كلانا أصيل؛ هو لا يغادر مرتسمه، ولا يفارق أحاسيسي؛ أتقرّى عناصره القارّة والمتبدّلة، المعهودة والمستجدّة، كلّ آن، وأسترجع مشهديّاتها بعد آن وآن؛ يعرف حركاتي وأبعادي، ويقدّرها، ويمتلئ بها، وينفتح إلى مَدَياتِها، ويستشفّ مشاعري فيسايرها، ويتحسّس انفعالاتي، ويهدّئها، وتضحك أفنانه مع فرحتي، وأبكي بين أحضانه؛ يحسن الإصغاء الودود، أمين على الأسرار والعواطف؛ أبوح له بصمت يجيده، ويفهمه، وبأصوات يتصادى معها؛ يناغي، ويسائل، ويداري.. أشذّب برّيّته، وأؤنسن معالمه، وأراوده عن وحدته، ونتبادل التأمّل والاستغفال؛ أستحميه، وأستعطفه، وأستدفئه، وأستظّلّهً، وأستهديه، ولا يبخل، أو يتردّد، أو يتبلّد؛ أستسمحه، إن أغلظت القول والفعل في محرابه، وإن بالغت في الغياب، فيعذرني؛ أسلّيه، ويشاغلني، ويعزّيني؛ أقرأ له، ويوافيني بما كدت أنساه؛ ممّا طاف على نتوءاته، واستغرق في مساماته؛ سهواً أو مشاكسة، أو انشباعاً، وأغافله بعبث واغتراب وتبدّل، فيعلّلني بالفصول والأصول والكائنات؛ يفتح منافذه- أيضاً-  لسواي، وأنشغل عنه بسواه؛ أكبر، ويكبر بعضه معي، وبعضه يحتفظ بسماته، ويبقى لديّ ما هو طفل وغرّ وساذج، وحميم، وللطبيعة والزمن آثار عليه وعليّ وتبعات؛ وأكتب عنه ومعه وفيه، ما يحفظه، ويحفظني؛ أستذكره، ويعالقني، قبل أن أنضج، وقد آتيه، ويفاجأ، وأفاجأ، بمن هو، وما هو، غريب عنه وعنّي، ومنه ومنّي، ولات ساعة مندم، ولا تفيد الندامة، ولا يعوّض تبادلُ الاتّهام عمّا كان؛ ولا يغْني ما قد يكون في البعد، ولا بدّ من القرب، الذي قد يأتي متأخّراً بعد فوات الروح، وقد لا يأتي!

*

أنا والمكان ندّان؛ نتعايش، ونتعابث، ونتشاكس، ونفترق، وقد بدّلتُ، وتبدّلت، وبدّل، وتبدّل؛

نختصم، ونحتكم، وفينا الخصم والحكم؛ نتلاوم، ونتعاتب، ولي عليه حقّ، وله عليّ واجب، وليس العيب كلّه فينا؛ فقد جئته بما لديّ من حَرْث وإرث، وتلقّاني بما هو عليه، ولم يكن بكراً؛ ربّما؛ فهناك من مرّ قبلي، يشبهني، ولا يشبهني، وتخلّفت عنه أحياء وأشياء، وستتخلّف عنّي وعن سواي في المشهد والمنظور، والمعيش والمتخيّل، والمكتوب والمقروء، والمخبوء والمنفوث والمعلن! و سيكون- لا شكّ- في ما كان منه ومنّي، وفي أوقاتنا ورفقتنا، وفيما يَحفظ، وأحفظ، من عهود ووعود، ومن تماسّ وهجس، ونبرات وإيقاع وتدوين، بعضُ ما يساعد على استحضار واستذكار واستحفاظ من عمْر وسيرة وبعض حياة كانت، إلى بعض حياة لنا، لكائنات أخرى، تكون، ويمكن أن تكون.

أنا والمكان ندّان، يتواشجان، ويختلفان، من حجر وتراب ومأوى، إلى شجر طيّب الثمر والظلّ، فتيّ أو معمّر؛ من دروب ضيّقة وعرة، وانعطافات مرّة، وصعود أمرّ، واستقامة خجولة، وانحدار متهوّر، ومسيل مشفق، وانهمار متواصل، وسيل لا يرحم، إلى طريق معبّدة وجسور معلّقة، وساحات مزيّنة، ودوّارات منتظمة؛ من سراجات محشرجة، وعتمة مقيمة، وبرد وحرّ، وأحياز مفتوحة على العزلة والهدوء والخلاء، ورغبة وأحلام، وخطو وتعثّر ووداع، إلى أضواء مبهرة، ودفء مستفزّ، ومنبّهات منفّرة، وضوضاء مقلقة، ووقائع كارثيّة، ومصير على كفّ أحمق، أو ارتعاشٍ أرضيّ، أو انفلات مدار… من صحبة كائنات عاقلة، وغير عاقلة، أليفة مسالمة، ووحشيّة مؤذية، تنفتح لها الجهات والحدود والأنفس، إلى كائنات مدجّنة مسلّعة مقيّدة مبرمجة!

*

لا تاريخ لمكان ثابت أو متحرّك، من دون زمان، وكائنات؛ ولسوانا أزمنة وأمكنة وتواريخ؛ ولا حياة لكائن من دون مكان وزمان، ولا معنى لزمان، يطوّف من دون مكان!

للواقع المجسّد والمسموع، أمكنة محسوسة ومعايَنة، تحتضن، وتلفظ، متأثّرة ومؤثّرة؛ بمرور الزمن، ونوعيّة الأحياء وحيويّتها، وللأدب أمكنة واقعيّة ومتخيّلة، بعلامات محسوسة أو مبثوثة، وكائنات تُفترض، ترث، وتتخلّق، تنمو، وتتنقّل، تفكّر، وتنشط، أو تتكاسل، تنجح، وتفشل، تعتلّ وتموت، وقبل هذا وبعده، أحياء عاقلون، لم يأتوا من فراغ، ولا يعيشون في لا مكان، وليسوا على سويّة واحدة، وإمكانيّات محدّدة، يكتبون، ويتلقّون؛ ويقيّمون…

وللمكان انعكاسه في النصّ؛ بموجوداته وكينونتها وتعايشها ومعايشتها للأحياء، المؤثّرين فيها ومعها، في الحركة والتبدّل والتغيير، التي لا يمكن حدوثها من دون زمن. وتختلف المواصفات والتأثيرات، ويتفاوت التناول بين جنس إبداعيّ وآخر؛ فتكثر- ربّما- العلامات الفارقة للمكان والعناصر، في الرواية والقصّة والمسرح والمقالة، وتقلّ في الشعر، ولا سيّما الحداثيّ منه، وفي الخاطرة؛ كما تتباين حدّة تلك العلامات، وحركتها، بين نصّ وآخر في الجنس الأدبيّ نفسه؛ حسب أسلوب الأديب وموهبته وخصوصيّته واهتماماته. وليس الحكم هنا قاطعاً باتّاً؛ بل يعود- أيضاً- إلى مستوى المتلقّي، واختصاصه، وحساسيّته، ومهارته، وموهبته، وخبرته، وبيئته، وزمنه.

*

المكان وأنا والأدب… كنّا

ويكون المكان، ولن أكون؛ وليت، ولعلّ ما كتبتُ، وأكتبُ، يكون.

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً