الفئة: رأي
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

المبدع الرائي..
غسان كامل ونوس

المبدع كائن مختلف، لا شكّ في ذلك؛ رغم أنه ما من اختلاف جوهري في الهيكل والأعضاء وسبل العيش المتاحة مع من هم على مثال صورته؛ لكنها الموهبة والقدرة على قراءة المشهد بشكل مغاير، وتمثّله، وإعادة تكوينه.. ربما، وإمكانية التقاط الملامح والرموز، ورصد الكائنات والعناصر والعلاقات.. لا كما هي في الواقع فحسب؛ بل بما يمكن أن تكون أيضاً، معبّرة عن حال ما خطرت، أو رؤيا أشرقت!
وقد يتحوّل احتراق ما في الحياة، أو شرارة أو دخان.. إلى تخلّق وحياة أخرى وكائنات على الورق؛ كما أن لدى المبدع قابلية استلهام ما وراء الأشياء والأحداث الصغيرة والكبيرة من أسباب ومعانٍ وتبعات.. وتحويلها إلى وقائع أخرى وأصداء قد لا تتوقّف عند حدود الحيّز الذي يعيش فيه، وقد تعمّر طويلاً.
وما يميّز المبدع عمّن يشاركه الكار ذاته، أنه لا يكتفي بما يرى ويسمع ويعاين؛ بل يضيف من لدنه، أو يبدّل، أو يضاعف هذا القدر من المؤثّرات، أو يقلّل من العناصر غير الفاعلة، مستفيداً مما لديه من حسّ وانفعال، وإمكانيات التحلّل من الآني والمباشر والمهيمن، والتحوّل إلى ما لا يحدّ بالمقاييس العادية، ولا يجاب بالمعايير المألوفة، وما يمكن أن يتجاوز غايته وأمانيه؛ لأنّ ما تشكّل لدى المبدع قد لا يتوقّف على ما يريد ويرغب ويخبر.. ؛ بل هناك ما يعمل خارج الحواس، وفيما بين أمواج الرغبات وإيقاع التوق وأبعد من المرصودات وأعمق.. ولكن لا بدّ من متّكآت أو محطّات أو ملامح أو معالم.. تعود إلى واقع ما، وحيّز ما، وكائن ما، وعناصر وسمات..
هذا العمق أو الما وراء أو الما حول يمكن أن ينتثر في الجهات كلّها أمكنة وأزمنة، بما فيها مواقع قد لا تكون موجودة، ويمكن أن توجد، وأوقات ستأتي بعد قليل أو كثير.. وقد تعود كائنات كانت في الأساطير كائناتٍ أخرى، أو قد تُتخيّل كائنات جديدة متولّدة أو متحوّلة بخصائص وخصال وأعضاء مغايرة لما نعرف..
وليس بالضرورة أن ينجح المبدع في سعيه أو حلمه أو وهمه، ولا أن يجد من يتابع أو يقدّر أو يهتم، وفي ذلك خسارة مضاعفة؛
وليس الأمر هيّناً ولا منظوراً في نطاق واسع؛ لأنّ هناك مبدعين يخيبون في وسط مثبّط، وآخرين يضيعون في شطط وأوهام؛ لكنّ ذلك ممكن أن يهلّ في بيئة فقيرة أو غنية، باردة أو حارة، حيوية أو راكدة؛ أما مسألة الإنجاز أو الإخفاق، الشهرة أو الإغفال، فتلعب فيها عوامل وظروف وشروط ومصادفات؛ ويبقى في توقّع ظهور المبدعين وانتظارهم أمل وثقة بالنفس والإنسان، رغم الفجور العولمي، والضجيج الإعلامي الذي يأخذ الناس في اتجاهات أخرى، والهيمنة المادية والنفسية والعقائدية، و”الفتوحات” الفجائعية في التفتيت الذاتي والتدمير الشامل.. ولن نعدم إبداعات مميزة، واحتراقات مضيئة، في قلب الظلمات، لنحتفي بها -وقد كان أجدادنا يولمون لظهور عبقري- ونرعاها؛ ونعطيها قدر ما نستطيع، إن لم يكن قدر ما تستحق!
***
غسان كامل ونوس

اترك رداً