الكِتاب
بين
شغف التأليف ووهم الطباعة
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
ربّما كانت الكتابة شكلاً من التجسيد لحال الشغف، التي تكتنف المرء، حيناً، وقد تنضب، وتتلاشى؛ وهي حال تميّز صاحبها، ولا تأتي كلّ شخص؛ على الرغم من أنّ كائناً عاقلاً؛ وربّما غير عاقل، لا تفوته مثل هذه الحالات، وقد لا يميّزها، ولا يفهمها، ولا يقدّرها؛ كما تستحقّ، ومن ثمّ، لا يترجمها عملاً ملموساً، تعيد إشعاعاتها إليه، فيعتزّ، ويرتعشُ، وقد يرضى؛ وإن كان ذلك إل حين! ولا يُشبَع؛ لأنّ الإنسان كائن، لا نهائيّ الحلم والتوق والانفعال المرصود وغير المرصود، الواعي واللا واعي، المعلن والخفيّ؛ كما يستشعرها أيّ متلقّ، يمتلك حسّاسات لها التردّد ذاته، أو ما يقاربه، وحليمات استشعار؛ لديها طاقة التعرّف إلى مواطن الجمال، وملامح الإبداع، فيتأثّر، وينتشي، وقد يحوم في أحياز، أتاحها المؤلّف، من دون أن يقصد، وقد يحلّق دونها أو متجاوزاً لها؛ لأنّ الإبداع مولّد ومطّرد، ولا حدود لانتثارات أطيافه، وتشكّلاته ومدياته.
ويفرح الكاتب بارتسامات أفكاره وخيالاته وتخلّقاته على الورق، ووصولها؛ كياناً وقواماً ومنابع وموارد، إلى من ينتظرها، وقد يسأل عنها، وبراودها عن مكوّناتها وعلاماتها الفارقة، واعترافاتها وبوحها وتمرّدها وعصيانها ورغباتها ونزواتها ونوازعها وشطحاتها، وقد يُجزى عليها لدى من يقدّر قيمتها؛ كتابة أخرى، وحديثاً يروى، وأصداء تدور في أجواء المتلقّين مباشرة أو عبر الوسيط الناقد النابه النزيه الحريص، وتخلّد باعثها رصيداً إنسانيّاً دافئاً لا يبترد في زمن قريب. وتتعدّد احتمالات التنابع والتناذر والفوح، مع ازدياد عدد من تصلهم نسخ منه أو من انعكاساته.
وما تمكن ملاحظته لدى متابع مهتمّ، أنّ أعداد النسخ المطبوعة منذ سنوات وافرة؛ على الرغم من عسر الطباعة آنذاك، وضيق ذات يد الكتّاب؛ مع التفاوت الكبير بين كتاب وآخر، وكاتب وسواه، وموضوع وآخر، وجنس إبداعيّ وآخر، وناشر وآخر، وبيئة وأخرى…
ولم يكن الفرح يوزّع بين النسخ والقرّاء؛ بل يُمنح بكلّيّته، وأضعافها- ربّما- على كلّ نسخة ومتلقّ وحيّز.
وازداد يسر الطباعة، وتسارعت تقنيّاتها وإمكانيّاتها، وتقلّصت أوقاتها.. وبدلاً من أن تتزايد النسخ الصادرة والموزّعة؛ لازدياد المنافذ ووسائلها، والإعلام ونوافذه، والمستثمرين والمسوّقين والأسواق والمعارض وزوّارها، ومناسبات التوقيع على الكتب، ممّن نغتبط بتوقيعه على كتاب، نفخر باقتنائه، وننتعش بقراءته؛ على أقلّ تقدير؛ وهم قلّة؛ وآخرين يتّكئون على من يدعونهم، ويحضرون خجلاً ومجاملة وادّعاء؛ على أنّني لا أحبّ هذه المناسبة، ولا أستسيغها، ولم أمارسها، ولا تعدو كونها؛ في رأيي؛ وأعتذر ممّن لهم قيمة، ويستحقّون، تسوّلاً مموّهاً، ودعاية مبتذلة!
وبدلاً من تلك الفرضيّة التي لم تنعكس واقعاً معيشاً؛ ولا ننسى ارتفاع كلفة الطباعة، وانخفاض موارد معظم الكتّاب، نجد أعداد النسخ المطبوعة لغالبيّة الكتب، في تناقص، وتوزّعاتها في انحسار! ولا يقتصر الأمر على الناشرين الشخصيّين، أو الكتب المنشورة على حساب المؤلّف، التي تقزّمت من الآلاف، إلى المئات، فالعشرات؛ وأحيانا إلى عشريّة واحدة- للرغبة بإنجاز معنويّ أمام الأسرة والمجتمع، وحمل اللقب: “الأديب”، أو للانتساب إلى مؤسّسة أو مؤسّسات، وجماعة أو جماعات!- إذ إنّ دور النشر الخاصّة، التي تعنى بالنشر على حسابها، لِما ترى فيه من صفقة رابحة؛ من دون أن يعني هذا، بالضرورة، قيمة حقيقيّة مضافة في مجاله، وفي الثقافة عموماً؛ اقتصرت طباعتها على أعداد محدودة؛ ناصحة ومُنتَصحة؛ أمّا مؤسّسات النشر العامّة، التي لا يهمّها الربح المادّيّ؛ كما هو مفترض ومعروف، بقدر ما تهتمّ بالقيمة في المحتوى، والجودة في الشكل، والوفرة في التوزيع؛ دعماً للثقافة وتحفيزاً للإبداع، وقد كان لها- وما يزال- دور مهمّ، في النشر لكثيرين ممّن لا يقدرون على النشر الخاصّ، والتسويق الشخصيّ؛ ولا سيّما من كان منهم في مستهلّ خطواته، وزفّت إليه بشرى قبول مخطوطه، وحقيقة تحويله إلى منجز على أرض الواقع؛ ولم تكن تفاوت كثيراً؛ ولا قليلاً ربّما، بين مؤلّف مشهور، ومبدع مغمور؛ فقد وصلت أعداد نسخ كتبها المنشورة إلى بضع مئات، وحتّى مئة واحدة! وقد تقلّ عن هذا الرقم الزهيد مستقبلاً؛ من دون أن ننسى أنّ حصّة المؤلّف تصل إلى ربعها! فماذا يبقى للمتلقّين؟! مع السعي الحثيث للإكثار من المعارض المتنقّلة، الموسميّة والعارضة، وتخفيض الأسعار إلى درجة مخجلة! ومن دون أن نتغافل عن أنّ كتباً عديدة متراكمة وتالفة ربّما، لدى بعضها، في المستودعات، ومخطوطات وافرة تنتظر النشر، منذ سنوات! ولن ندخل هنا في الأسباب، والأداء، والممارسات، والاستثناءات، ولكن، نسأل عن الفائدة من كتب حصلت على الموافقات المطلوبة، ودفعت مكافآتها، وبقيت في انتظار حظّها العاثر زماناً ومكاناً! بعد أن ضحكتْ وصاحبها لدى البشرى بقبولها المقدّر.
وكلامنا هنا، يُعنى بموضوع قلّة أعداد الكيانات الورقيّة، ومن ثمّ الافتراق المرّ بين المؤلّف والعرض والراغبين بالقراءة والمتابعة والاهتمام.
ولا يفوتنا، ما يظنّ بعض أنّه تعويض عن هذا، حتّى من قبل المؤسّسات الرسميّة، أعني النشر الإلكتروني؛ فإنّه ببساطة، لا يعوِّض؛ لأنّ العلاقة بين حواس المتلقّي، وأحاسيسه المتولّدة عن رفقته الماتعة للكتاب الورقيّ، وملمسه، وقربه، وألفته، وحميميّته، وتاريخيّته، وعراقته، أهمّ بما لا يقاس، من العلاقة على البعد، والحفظ بعيداً في أحشاء جهاز قد يحرد، أو تنفد طاقته، أو في قرص رقيق دقيق، يحتاج إلى استرضاء الجهاز، المتطلّب الحانق، ذي الطبيعة المادّيّة المفارقة؛ ولعلّ ما قيل قديماً، ينطبق على هذي الحال؛ “البعيد عن العين، بعيد عن القلب”! وأضيف: والروح أيضاً!
ومرّة أخرى، لست في صدد المقارنة هنا بين الكتاب المطبوع، والكتاب الإلكتروني، الذي له فوائده؛ من سرعة الوصول، وتجاوز الحدود والموانع والتمييز، وسوى ذلك؛ فالأمر يستدعي تناولاً أوفى، وأوسع؛ كيلا نظلم أيّاً منهما؛ كما أنّ ما يملأ الفراغ الحاصل من نقص الحضور المادّيّ والمعنويّ للكتاب، لا يبشّر بالربح؛ بل بخسارة كثير من الطاقات والأعصاب والأوقات والأعمار لدى أجيال شابّة مؤمّلة؛ لأنّ البدائل موغلة في الضياع والتضييع؛ مع تزايد الاجتياح الإلكتروني؛ إسفافاً وألعاباً وتقانة وإمكانيّات! من دون نفي أهمّيّة هذه القدرات الإلكترونيّة، في الاستثمار المفيد والمنتج والخلّاق في مختلف المجالات، إذا ما أحسن استثمارها، والتعامل معها وبها؛ بحضور الوعي المطلوب والمنشود.
وأعود إلى قلّة الأعداد المنشورة، التي تؤدّي إلى خفوت الفرح بالولادة الثانية، بعد شغف الولادة الأولى! وتعني خيبة أخرى من مردود مجازيّ، وقراءة منتظرة، وتعليق مرغوب من متلقّ مهتمّ، وسيرة وسمعة وأصداء…
فهل يدفعنا هذا إلى أن نحجم عن الكتابة؟! أو نقلّل من طاقاتنا وحيويّة ملكاتنا وحواسّنا وانفعالاتنا، وانتثارات تأثّراتنا، ومواجعنا؟!
ألا يعني هذا نكوصاً في ميدان الثقافة الأروع والأسمى، وانحداراً تفاعليّاً، وانحساراً إنسانيّاً؟!
أليس فيه تبكيت، أو تحجّر، أو اقتراب عناصرنا الإنسانيّة من حالات المادّة الطاغية؟!
وحين تفتقد الحياة تلك الحيويّة، وذلك الشعور بالتخلّق، وتلك الرغبة، والنشوة، وذلك الاحتلام؛ ما الذي يبقى من إنسانيّة الإنسان، ومشروعيّة استمراره بالحياة؟!
***