الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الشارقة الثقافيّة ع 38
تاريخ النشر: 2019-12-01

يعيش المثقّف الرصين الجادّ في ممارسته ووجوده، ازدواجيّة، تجعله يحسّ مرارة وغربة وفصاماً، ويشعر أنّه مأزوم، ولا حلّ لأزمته في الأفق المنظور والحيّز المعلوم؛ فهو يؤمن بضرورة الثقافة وأهمّيتها وجدواها في مختلف الميادين والمجالات، ويطالب بثقة وقناعة، بحضور أوسع وأعمّ وأعمق للمثقّفين، في مختلف الظروف والأوقات؛ ويستطيع إبراز المسوّغات، التي تجعل موقفه قويّاً، ورأيه مسموعاً، ومبادرته مقدّرة؛ نظراً لما يمكن الحديث فيه من حصانة الثقافة للفرد، ومنعتها للمجتمع، وإرهاصاتها بما يؤمّل، ويبشّر، واستشرافها لما وراء الأكمة، أو بين الملامح، أو في الآفاق… لكنّه يمتعض، ويفجع، حين يواجَه بالسؤال المهمّ في حوار مشروع يدعو إليه، ويحفّز الآخرين من أجله، وقد يراوده هذا السؤال بينه وبين نفسه، فينكفئ إلى ذاته ملوماً محسوراً… إنّه السؤال الذي يخشاه، وينتظره، ولا يتمنّاه: أين المثقّفون القدوة في المجتمع؟! وما نسبتهم إلى من يُنسبون إلى الثقافة، أو يذكرون في معرض استحضارها؛ تبرّكاً أو تشفّياً؛ تبرّماً أو تشوّفاً؟!
إنّ طرح هذه المسألة هنا والآن، ليس لإبرازها معضلة بلا حلّ، أو لتسويغ الإهمال الذي نلقاه، رسميّاً وشعبيّاً؛ بهذا القدر أو ذاك، في الحيّز هناك أو هنا؛ ومن ثمّ نصل إلى نتيجة مخيّبة أو قناعة معمّمة، أن لا احتمال لأن يكون للمثقّفين الحقيقيّين أدوار في حياتنا القائمة والمستقبليّة، إلى أجل غير مسمّى؛ بل الدافع والغاية، والأمنية، من التخويض في هذا الموضوع، أن نقف؛ نحن معشر المثقّفين، مع أنفسنا وقفة صادقة مُسائلة كاشفة، فنسأل؛ حتّى إن كانت الحالة موجعة: هل نحن حقّاً نستحقّ الاحترام؟! وأين أخطأنا؟! وأين أصبنا؟! وماذا علينا أن نفعل لإصلاح الخلل؛ وهو كبير؟! وكيف علينا أن نظهر الأعمال الإيجابيّة؛ وهي موجودة؛ لنحدّد قيمتنا الحقيقيّة، ونثبت جدوانا وأهمّيتنا وفاعليّتنا في الواقع؛ بالحيويّة المطلوبة، والنتائج المجدية والمقنعة والمحفّزة للحياة؛ كما يجب، وكما تستحقّ أن تعاش. وإذا كانت هناك استطالات غير طبيعيّة، أو تفرّعات غير مناسبة لهذه الحياة، فمن الضروريّ العمل على كبح جماح المغامرين، وتصويب المسارات، ووضع الإنجازات في سبيل الوطن والوطنيّة، وفي خدمة الإنسان والإنسانيّة؛ حاضراً ومستقبلاً؛ ومن أجدر من الثقافة والمثقّفين للقيام بهذه المسؤوليّة المتّصلة، والمهمّة المستمرّة، والمصيريّة؟!
إنّ من غير الممكن فصل الثقافة، بمنطلقاتها وتطلّعاتها الإيجابيّة السامية، عن الوعي، الذي تقتضيه؛ بما هي استقامة وحِذق وفطنة، بالمظهرين والجوهرين المادّي والمعنويّ، وبحكم تكوّنها ومعناها، وبضرورة أنّها تتمثّل الوعيَ بإسقاطاتها وانعكاساتها وإشعاعاتها الرؤيويّة؛ فأين تجلّيات هذا الوعي؛ سواء أكان خاصّاً أو عامّاً، في الملمّات والمفترقات؟! وأين نتاج تأثيراته في الواقع المعيش؟! وكيف هو أداؤه؟! وكيف هي ريادته وسيادته؟! وأين هي أحيازه التي يشار إليها قائمة ومرتجاة؟!
إذ إنّ كثيراً من المظاهر الناشزة، والمواقف المنكَرَة، والسلوكات الشوهاء، نقوم بها في العلن؛ كما في الخفاء، منفردين أو متكتّلين؛ حتّى إن كانت المشكلة اختلافاً على ترجمة كلمة، أو تعميم مصطلح، أو تفسير مفهوم؛ أو رأياً مختلفاً في نصّ، أو شخصٍ، أو واقعة، أو مناسبة ثقافيّة أو غير ثقافيّة. وتستعمل الإمكانيّات الثقافيّة المهمّة في غير مكانها، والمسؤوليّات والصلاحيّات والخبرات في غير السياقات المفيدة والمطوِّرة، والمعبّرة عن الرغبة في التحصيل المشروع والعيش الكريم.
إنّنا نبذل كثيراً من بلاغتنا القوليّة في تمييع القضايا ومواربة المواقف، وتحييد النفس، إن لم يكن زجّها في مسالك منفّرة، ومواجهات منغّصة، ومناورات مناكدة؛ لا دفاعاً عن الحقّ، وكشفاً للزيف، ونصرة للعدل؛ بل مناصرة لآخرين أصحاب نفوذ متعدّد الأشكال والمستويات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وانقياداً لشعارات وفتاوى ومصطلحات دخيلة أو مفتعلة، أو مجوّفة، وانسياقاً مع الحملات الترويجيّة أو الإعلاميّة، والسياسات المكشوفة لهذه الوسيلة أو تلك، وارتضاء، أو مبادرة لنكون عناصر مستهلَكة في جوقة ممجّدة، أو مكفّرة، معكّرة أو مبيّضة… ناهيك عن ممارسات، تستعمل فيها المقدرة البلاغيّة؛ اتّهاماً للآخرين من المثقّفين، وتشنيع مواقفهم، وتضييع إنجازاتهم؛ وإظهارهم خائبين مخيِّبين مسؤولين عن مختلف الانتكاسات التي تغصّ بها دروب حياتنا، واتّجاهاتها، وأوقاتها.
لا شكّ أنّ حالاً مشابهة تسود، أو يمكن أن تسود في مجالات أخرى، تقترب من الثقافة أو تتقاطع معها؛ ولا مجال يبتعد عن الثقافة؛ لكنّ الأمر يبدو في الثقافة فاقعاً وشاذّاً وغير مستساغ ولا مسوّغ، وهو يستدعي الإشارة إليه بقوّة وحدّة ومسؤوليّة، وفي كلّ وقت وظرف وواقع؛ للتخلّص منه ومعالجته والخروج من موبقاته، والتعافي من أدرانه، والحدّ من عوامل انتشاره الخبيث، وإدمانه المدمّر…
إنّ هذا الكلام، ليس هيّناً؛ هذا مفهوم، ولا يمكن استيعابه وهضمه بسهولة، ولا تقبّله بيسر، ولكن من المكابرة نكرانه، ومن الضحك على النفس التغافل عنه؛ كما لا يجوز بأيّ حال تعميمه، وتسويقه، واعتماده ذريعة للنيل من الثقافة والمثقّفين، وتشويه ما بقي من السمعة والصدى، وإشاعة مشاهد الفساد والفوضى (الثقافيّة) في المجتمع، وتعميق الشروخ في الوسط الثقافي… ففي المثقّفين؛ كما في سواهم، صادقون مع أنفسهم، ومع معنى الثقافة والحقّ والعدل، ماضون في سبل القضايا الوطنيّة والإنسانيّة بمنتهى الإخلاص والمسؤوليّة، مضحّون من أجلها، باذلون الجهد والوقت والطاقة بلا تردّد ولا تبلّد، وهم بذلك يؤكّدون معنى الثقافة، ويرفعون رايتها، ويجذّرونها في الواقع والحياة؛ مبادرة وممارسة وتمثّلاً، لا ادّعاء ومناداة ومباهاة..
إنّهم بحقّ كرام، يستحقّون مسمّى المثقّفين.
***
غسّان كامل ونّوس

اترك رداً