الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

الثقافة مناعة وحصانة..

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

حين يمرّ المرء في أوقات سعيدة- وطبيعيّ أن تختلف مستويات السعادة ومفاهيمها بين شخص وآخر- يكون الوقت للتسرّي والتمتّع باللحظات والتفاصيل، مع آخرين يشاركونه أسباب الغبطة والسرور وحيويّة المناسبة، وإن ورد ذكر الثقافة على لسان أحد أو مسمع أحد، قال الفرحون: لا تنغّصوا علينا الفرصة، التي قد لا تتكرّر كثيراً، ودعونا في أيّامنا وموسمنا وجَنانا؛ فليست لدينا رغبة ولا إمكانيّة ولا ترف ولا “حماقة”، كي ننشغل بالثقافة، التي لها مناسباتها وأحيازها وأوقاتها الأخرى؛ هل وصلت الدنيا إلى خواتيمها؟! فلكلّ مسألة وقتها وظرفها!

وحين تضيق الدنيا على الإنسان، ويحسّ بحصار خانق؛ سواء أكان في فقدٍ عزيز، أو خسارة مفاجئة أو متوقّعة، أو مرض فتّاك، أو كارثة خاصّة أو عامّة، ويزداد حجم المطالب وإلحاحها؛ ليس على الشخص نفسه؛ بل على الأعزّة لديه، ينشغل عن الثقافة ونوافذها ومفاتيحها؛ بالامتثال لفصول الحرمان والفاقة والضعف، ولسان حاله يقول، إن تجاسر أحدهم وعبرت الثقافة في تلميحاته: يا لصاحب البال الفاضي، والسعة الفائضة، والفكر المرتاح! كأنك تعيش في عالم آخر أو كوكب بعيد مختلف؛ فهل لدينا الوقت والإمكانيّة والطاقة التي يمكن أن نصرفها في الثقافةّ ألا ترى إلى أحوال الناس كأنّهم سكارى وما هم بسكارى؟! ألا تحسّ بالمواجع والحسرات؟! ألا تشعر بالمرارة والانقباض والانغلاق من حالنا وحالكم؟! لماذا تحاول أن تحيدنا عن السعي الحثيث إلى ما يخرجنا من هذه الأزمة، أو ينعشنا، أو حتّى يبقينا على قيد الحياة؟!

لقد نسي هؤلاء، وغفل أولئك عن السعادة التي تستبطنها الثقافة، والغبطة التي يُحَسّ بها، حين يشعر الإنسان بأنّه اصطاد فكرة، أو تعرّف إلى حالة، أو اكتسب معلومة أو خبرة، حتّى في ممارسات العيش، التي قد تبدو عاديّة، وتناسوا، أو تغافلوا عن أنّ الاغتناء بالثقافة يهذّب السلوك في الأوقات الهنيّة، ويحوّل الفرح الصاخب، الذي قد يذهب بالعقول، ويخرج عمّا هو مألوف- وربّما صار مألوفاً للأسف فيما نشهده هذه الأيّام!- إلى غبطة داخليّة، وملامح مشرقة، وأداء مريح، لا يزعج الآخرين، الذين لا يعيشون الحال نفسها، وقد لا تعنيهم المناسبة بمجملها؛ بل قد يكون لديهم أتراحهم وأحزانهم نتيجة الواقع نفسه، أو لأمور أخرى منظورة أو مخفيّة؛ وحتّى الذين لا هناءة لديهم، ولا راحة بال ولا يعيشون أيّامهم في انشراح، تفيدهم الثقافة في تفهّم الأحوال والأسباب، والتخفيف من المبالغة في الحزن، والمغالاة في الاستسلام لليأس والقنوط، وقتامة الآفاق المسدودة، ويسرّي عنهم، ويجعلهم يعتبرون بما كان من تجارب عيش خائبة، ومن مواجهات خاسرة مرّ بها أناس من الكوكب ذاته، والحيّز نفسه، قريبون وبعيدون، وتدفع إليهم الأمل بالخلاص، والتفكير والقناعة بأنّ هذا وارد ومحتمل دائماً؛ فالحياة لا تسير على منوال واحد من الغمّ أو السرور، ولا بدّ أن يقاسي المرء؛ كي يكون له حضور مشهود، وإنجاز مقدّر؛ بل حتّى لمواصلة العيش بأيسر الظروف وأقلّ الخسائر؛ وصولاً إلى النهاية المحتومة القادمة بعد حين، يطول أو يقصر.

ليست الثقافة مضيعة للوقت، والفرص، والتحصيل، في أيّ عمر كانت، وأيّ حال نعيش، وأيّ آليّة أو فعاليّة أو وسيلة نستخدم.. وكثيرون ممّن يحتجّون بضيق الوقت والحال، لو حسبوا ما يضيعون في تكرار التذمّر والشكوى وشرح حيثيّات الواقع المعلوم، ولعن الظلام، وانتظار الحلول قاعدين عن طلبها، بدل التفكير الواعي الجادّ والمسؤول بها، هذا الذي تتيحه الثقافة، والعزمِ على المضيِّ في الخطو المحسوب المجدي في سبيلها؛ لوقفوا على حقيقة ما يخسرون بشكل مضاعف؛ لأنّ الثقافة بفضاءاتها ونعمها، التي نعرف ولا نعرف، والتي قد تأتي من نفسها، وبأيّ لبوس ومحتوى: فكرة، تصوّر، عبرة، قول، خبرة، تجربة، خاطرة، إبداع.. تشكّل الرصيد الذي لا ينفد، ولا ينتهي مفعوله، ولا تنخفض قيمته في “سوق” الحياة؛ مهما تفاوتت المعطيات، وبلغت التبدّلات؛ ناهيك عمّا يضيع ويُضاع في أشياء غير مهمّة ولا ضروريّة ولا ملحّة، وفي لهو مطّرد، وعبث مستطير؛ ولا سيّما في هذا العصر، الذي يشغل المرء عن نفسه وأقرب الناس إليه، وحاجاته، ومشاريعه وأهدافه وغاياته، بما استجدّ، ويتجدّد، وتتضاعف قدراته، ومرغّباته، ومورّطاته، من أحداث ووقائع وعواجل وأخبار وتحليلات، وأجهزة وأدوات، تحاصر صغيرنا وكبيرنا، وتعيش معنا كلّ آن، وتشاركنا حتّى وجبات طعامنا، وأوقات عملنا وراحتنا، وترافقنا في مختلف أحوالنا وقابليّاتنا، وتجعلنا نعيش متوتّرين قلقين مكابدين مأخوذين مستلبين.. دعونا نتصوّر كمّ المضامين من كلمات وصور ودعوات ودعايات، تبثّ وتعاد من الأجهزة المفعّلة على مدار الثواني، ومقدار ما تؤثّر فينا عن وعي ومن دون وعي! وقد نشارك فيها بتعليقاتنا وصورنا ومرورنا “المشكورين عليه”، ما يضاف إلى الغثّ، الذي تكاد تغصّ به لحظاتنا الأرضيّة والفضائيّة، وخطوط الشابكة وشاشاتها، ووسائل التواصل والاتّصال، الأسرع والأنقى والأكثر قدرة على الإغراء والجذب والتضليل والترهيب.. وقد نمرّر ما يأتينا إلى آخرين، ونستقبل مئات “الزائرين” و”العابرين” و”الهدايا” بلا موعد، ولا انتظار، ولا إرادة، ولا حاجة.

نعم.. قد يكون في بعضِ بعضِ هذا فائدة، لكنّ نسبتها إلى ما يضاع، تبدو زهيدة، ويحتاج الوصول إليها إلى بحث ومعاناة وصبر وإضاعة الكثير من الوقت والجهد، في خضمّ المعمعة، التي قد تدخلها برغبتك؛ تظنّ ذلك، او تتوهّم، لكنّ الخروج منها بأمان غير مضمون بنسبة كبيرة.

وقد يبدو نافلاً القول، لكن من المفيد تأكيده، إنّ الثقافة وعي لا بدّ منه للإنسان العاقل، واكتناز متّصل، ومناعة ذاتيّة، وحصانة أخلاقيّة، وصلابة وصمود وتضحية.. وليست حاجتنا للثقافة مرهونة بوقت، ولا محكومة بظرف أو سبيل أو حالة.. 

نعم.. تحتاج الثقافة إلى مقوّمات وقابليّات وبيئات وأساسيّات وكوادر ومواهب وهوايات وخبرات من مختلف المستويات؛ لممارسة الفعاليّة الثقافيّة، والقيام بها، والإشراف عليها، واستثمارها أفضل استثمار.. وهي موجودة بأشكال ومضامين شتّى، أو يجب البحث عنها، وتخليقها، ومكاملتها، وترميمها، وتفعيلها؛ كي تكون حاضرة في أيّ ظرف طارئ أو مستجدّ، عارض أو متّصل، محدود أو واسع الطيف…

نعم.. قد يكون تركيز الإنسان لا يسمح أحياناً، وحالته لا تسرّ، ومطالبه لا ترحم، وقابليّات التعاطي مع آليّات الثقافة ومفرزاتها، ليست في أفضل مستوى؛ لكنّ هذا لا يدوم؛ كما لا تدوم الحالات الأخرى الملائمة والمساعدة والحيويّة والمناسبة للانفعال المفيد، والمحفّزة على المنح والتلقّي، ولا بدّ من أن تكون هناك رغبة واستعداد ومطاردة لاقتناص ما يمكن، وما يُثمن، وما يُرضي؛ بل إنّها غنى لأيّ وقت، وإضافة خيّرة غير زائدة عن الحاجة، وعطاء بلا حدود، ومعنى ورؤيا ومنجى، وخلاص محتمل أو مأمول أو مضمون، وقابليّة للحياة الكريمة، وممارسة فصولها وطقوسها المختلفة، بأسمى قيمة، وأبهى شكل، وأجمل نتيجة وجدوى.  

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً