2-2- الترميز الأشمل لما وراء المعنى في قصص غسان كامل ونوس:
سعى غسان كامل ونوس منذ مجموعته الأولى «هامش الحياة.. هامش الموت» (1991)(1) إلى مبنى استعاري لسرده، فثمة مبنى واقعي واضح في قصصه كلّها سرعان ما تترى في تآلف المعاني والدلالات الأعمق عندما ينوّع تقاناته لئلا تغدو القصة حكاية أو خطاباً إيديولوجيا فحسب، وقد واجه صعوبة الإيصال في قصة «الكنز» على سبيل المثال، وهي عن وهم ما يلبث أن يزول، غير أنه سرعان ما وازى بين المنبين من خلال الاستغراق الوصفي لمعنى الأشعة التي لبست «قوة دافعة أسطورية وإلا كيف أصبحنا جميعاً وراء السور الذي التحم كأن لم يفتح أبداً» (ص119).
وحملت قصة «تقويم» مراجعة شاملة لحياة من كتب عنه بمراحلها وبؤسها من خلال رمز واحد أو تورية واحدة هي اللباس والبنطال ليختتم السرد بأن المرحلة الرمادية الخامسة بدأت في إظهار بؤس الحياة وضنكها. ولا يغفل المتلقي استناد الرمز أو التورية على اللغة تثميراً للمفارقة اللفظية أو المعنوية في تدعيم المبنى الاستعاري، كقول الخاتمة:
«ضحكت في سّري وأنا أحمل كيساً بلاستيكياً، وأخرج من الباب، لكنها ضحكة رمادية، لأن المرحلة الرمادية الخامسة قد بدأت!» (ص14).
ومات حاتم بالورم السرطاني في قصة «هامش للحياة.. هامش للموت»، غير أن مشهد الموت وطقوسه ميزا السرد بالتهكم والدعابية (السخرية المريرة) انتقاداً لأمراض ما حوله ومن حوله: الأب والآخرين وإدانة للتعلق بحياة سرعان ما يخترمها الموت. وجاءت نجوى حاتم الختامية عن وصف الاختصار والدفن ممزوجة بمثل ذلك النقد القائم على مفارقة المعنى بالدرجة الأولى:
«وفي غرفة داخلية، أمي ما تزال ترقد واهنة باكية منهكة.. وإخوتي لم ينتهوا بعد من حساب ربحهم الجديد بعد زوال واحد من الوارثين!
آه يا أمي.. يحق لك أن تبكي! أما أنا.. فإني أشعر الآن فقط بالنهاية والاحتضار! وإنني أدفن فعلاً وينهال عليّ تراب كثير.. أما النجوم البعيدة فما زالت بعيدة تنتظر!» (ص74-75).
ولجأ ونوس إلى التجريب اللفظي والمعنوي والإنشائي اللغوي أي الحديث عن الأفعال في مجموعته الثانية «الاحتراق» (1992)، فكثرت المفارقات اللفظية عن الاحتراق الذي يصيب وجوداً هالكاً ومآله الخسران المبين، ويتبدى التجريب في وفرة التناصات اللفظية مع أسماء أعلام ورموز وأمثال شعبية ونصوص مقدسة.. الخ، كالقول:
«كيف تتخاذل أم سلطان.. التدخين…؟! أنت تستمتع به، أليس كذلك..؟ له لذة خاصة؟! ما هي هذه اللذة..؟! من أين تأتي..؟ هل هي متعة احتراق الأشياء..؟ هل هي نشوة القضاء على شيء ما..؟ هل هي تنفيس عن رغبات دفينة..؟ «ها.. ها.. لقد أصبحت فيلسوفاً.. سيجارة أخرى وأغدو (أفلاطون).. أو (أرسطو) لا.. لا.. بل بطل التحليل النفسي (فرويد)..» هل هو انتقام النفس من الأشياء عندما لا نقدر أن نفعل شيئاً أمام مشكلاتنا..؟ هل هي السادية الموجودة في كل منا، ونخشى أو نرفض الاعتراف بها..؟ غيرك يتلذذ بإحراقك.. وأنت لعجزك تتلذذ بتدمير الأشياء.. بإحراقها اعترف! لماذا لا تعترف؟! ألا تود أحياناً أن تكون سيد هذا العام..؟ [هل هو توق الإنسان إلى الألوهية..؟] وحين تعرف أن (سيزيف) لا يزال يدفع الصخرة إلى قمة الجبل كل يوم، ومنذ زمن بعيد، ألا ترغب بتدمير الجبل والصخرة، وإحراق الأرض بمن فيها وما عليها؟ ألا تتمنى خراب البشرية؟ ولكل منا (نيرونه)! وحين لا نستطيع إحراق (روما) نحرق سيكارة. ونحرق أعصابنا. وثواني عمرنا المسرعة!!» يتغضن وجهه أكثر.. يمضي في تأملاته وحرق سجائره وأعصابه.
«نيرون أحرق روما.. و(مردوخ) شطر (تعامة) وأدخل في جوفها نيرانه.. ومَثَّل (بأبسو) بعد أن قتله. وأنت تحرق سيكارة!!» (ص11-12).
ونتلمس الأسلوب الإشاري الاستعاري في محاولاته الأولى في قصة «الجلجلة»، وهي من بواكير سرده عن الإحساس الثقيل بكابوس الحياة:
«نعم إني أتذكر آخر مشهد رأيته.. الأسلاك التي صارت حبالاً وافرة الشوك، تلتف حول أرضي وداري. أصابني عندها دوار شديد، حجب الرؤية والوعي عني. وتيار عنيف جرني إلى داخل الهوة حيث أنا الآن..!!» (ص32-33).
وعمد ونوس في قصة «صلاة الغائب» إلى تقانة أخرى هي الآنسنة، فمضى السرد على لسان طائر السمان والحيوانات الأخرى حيث عدوان الإنسان على الطبيعة وحيث طبيعة الشرّ المتأصلة إزاء تناغم الكائنات:
«وبدا القطيع من بعيد.. ورأى الجموع وسمعها تندب.. عادت إلى ذاكرة أفراده المأساة فقد كانوا يستريحون في ظلها.. عند عودتهم كل ضحى.. من المراعي.. كانت محطة عزيزة.. إلى قلوبهم. أسرع القطيع إلى المكان.. وحين وصل.. التفت الحيوانات حول الجذع المقطوع ودارت كأنها في معبد.. دارت بصمت.. والعصافير رفرفت وانتحبت وأقعى السنجاب فوق الجرح اليابس.. واستمرت صلاة الغائب.. بخشية.. وتقى.. ولوعة.. وسالت الدموع فروت الجذور التي لا زالت تسبح عميقاً في حضن التراب الدافئ» (ص98).
وثمة تطور واضح في مجموعته الثالثة «ظلال النشوة الهاربة» (1994) في مقاربة المبنى الاستعاري والدخول في المناخ الكابوسي لرؤية العالم، فينسرب السرد في مسارب ومسالك شديدة الإثارة والغنى لمعان تخرج من سطح الكلام إلى عمق النص السردي. وقد عنيت قصة «ظلال النشوة الهاربة» بعلاقة الرجل بالمرأة من خلال علاقة مستأجر بعائلة البيت:
«يلتفت شامل صوبها.. تلتفت إليه.. يضج السرير بالحركة. وتنفتح عينا برهان ويعج تفكيره بالتخيل، وتشرق أساريره، وتشع الحيوية في الغرفة الشرقية أيضاً.
وفيما كانت الخيوط البيضاء تنفلت من الخيوط السوداء وتتكاثر في الخارج، كان البيت، بما فيه الغرفة الشرقية، يهجع في ظلال نشوة هاربة..!!» (ص150).
وأمعنت قصة «طقوس الخوف والمتعة» في رؤية الريبة الدائمة التي تفسد كلّ شيء، فانتظم السرد في فضاء الكابوس وما يفضي إليه من إحساس مأساوي باللحظة الراهنة على أنها تعبير عن سيرورة لا تنقطع، وقد حاول المرء التقليل من إظهار قلقه ووسواسه قدر استطاعته، «وبدونا ـ نحن الاثنين ـ مهيأين لإقامة طقوسٍ طال أمد افتقادها لم يكن السبب المولودة الجديدة فقد صار عمرها شهوراً..
اليوم حاولنا أن نعيش لحظات نشوة..
ولا أنكر أني حاولت في هذه اللحظات إخفاء ما سمعت. أو تجاهله.. لكنها أصوات قريبة.. خطوات وأنفاس تتوقف ثم تتابع..
فقمت مصعوقاً.. وتظن ليلى ـ كالعادة ـ أني متوهم، وأن لا شيء في الخارج. ولكني رأيته.. أقسم أني رأيته يهرب.. تقاطيع هيكله لا تشبه أحداً من القرية.. أعرفهم جميعاً وأحفظهم إنها تشبه.. بل إنه هو بالذات.. أقسم أنه هو.. محمود.. الساكن الجديد في الحارة..!!!» (ص64-65).
وتمكن ونوس في مجموعته الرابعة «دُوار الصدى» من ضبط المبنى الاستعاري لتؤشر قصصه إلى تحديث تجربته السردية، فصارت القصة إلى رؤية قاتمة هي تعبير ثر عن الشروط المأساوية للوجود الإنساني، وكانت قصة «الشرارة» تعبيراً استعارياً عن مطاردة ضوء يختلط بالغبار والنعاس على أنها تورية أو رمز لضوء يعبر فيه المرء إلى ضفة أخرى:
«لكن الارتقاء ممكن، هكذا صار بوسعه أن يفكر من حيث المبدأ، بعد أن استطاع الارتفاع عن الأرض مسافة تنمو. هذا النمو الذي على الرغم من كونه بطيئاً يترك انطباعاً بالجدوى، ويبعث رسائل أمل وتفاؤل، ويشحذ طاقته للتفكير والسعي والمثابرة.
«لم يبق إلاّ القليل، وأصل إلى الاكتشاف المهم، أصل إلى مبتغاي».» (ص12).
وأومأ ونوس في قصة «اللوحة» إلى أن المنجز يتعثر ما دام الكابوس مستمراً:
«أفقت بعد حين: ذهلت. جحظت عيناي:
اللوحة أمامي لا زالت بكراً ـ هكذا بدت لي ـ وكابوس يضغط على أعضائي، وأوامر تهطل علي من كل صوب لتنفيذ المهمة!!» (ص17).
وامتد الكابوس إلى الصورة خلل رعب القمع الذي يلاحق الصورة أيضاً في قصة «الصورة»:
«ماذا ستقول لي الآن؟! لا تعرف؟ لا تدري؟ لقد أعطيناك فرصة ذهبية لم تستفد منها لأنك منهم حقاً! وربما أخطرهم. راحت عليك الآن.
أمسكوه!!» (ص25).
وجعل الكابوس المرء كتلة لحمية مبهمة التفاصيل في قصة «اللعبة»: «أنظر بلا اتجاه، وأفتش عن مخبأ من نفسي ومنهم، وأنا أكتشف فيّ لاعباً بارعاً حين أجد بين يديّ كتلة لحمية مبهمة التفاصيل، لكنها تشبهني!» (ص28).
ورأى ونوس أن «الحفرة» ترافق المرء دائماً، وتغوص به في عمق التربة في قصة «الحفرة»:
«سرعان ما داهمني حلم الظلمة، فاندفعت أبحث عن غابة أو كهف. هل هذه لعبة الظلام أم حكمته تلك التي جعلتني أتخيل كهفاً وأبنية؟! وأحفر حفرة لتنهار فوق رأسي؟!» (ص32).
«حفرٌ كثيرة تتبعثر على نطاق واسع.. أصوات رتيبة ومتواترة تتردد أصداؤها حركة مكوكية لشيء ما يطلع وينزل، ورأس ينتصب وينكس، وحفرة ليس لها شكل معين تنغرز أكثر فأكثر في عمق التربة» (ص33).
وعاينت قصة «القمة» جهد المرء المستمر لبلوغها، بينما هي تغيب بين الغيوم، وغدت قصة «دُوار الصدى» نموذجاً لهذا المبنى الاستعاري الموحي، ويصعب تفريد حوافزها بينما يفصح نسق التنضيد بجلاء عن القصد: التقدم دون جدوى:
«الكابوس الضاغط فوق الرأس لا يرحم، واللكز والوخز مستمران. مما لا يدع مجالاً لأي تباطؤ أو هدوء. الأهم في الأمر هو استمرار الانطلاق بعيداً عن منطقة ـ أية منطقة ـ تبدو فيها هياكل تتحرك من أي نوع كانت، أو أية طريق أو معالم لطريق يمكن أن تكون سالكة الآن، أو سلكت منذ زمن بعيد.
وحين يفاجئه طريق متوار بين الأشجار أو الأشواك، أو ينسل بين الصخور الناتئة، يبتعد عنه مسرعاً. وإن حاصره من جهات عديدة، تجاوزه قافزاً إن كان ضيقاً. أما إن كان واسعاً وعجز عن ذلك، يقطعه بأقل عدد من الخطوات وأقل زمن. وأثناء ذلك كان يغمض عينيه كي لا يتعرف على أي شيء فيه، أو يبقى في ذاكرته أي ملمح منه» (ص41).
وأفضى كابوس الفقدان في قصة «مفقود» إلى برزخ مروع يجعله مفقوداً بين مفقودين حتى لم يعد يميز صوته. لقد استوى تجريب ونوس في مجموعاته القصصية اللاحقة إثر إنجازه الملحوظ في المجموعة الرابعة، فصار المبنى الاستعاري في مجموعات «أحمر أبيض» (1998) و«العائذ» (2000) و«خطايا» (2002) و«مفازات» (2003) إلى بنية القصص برمتها، فالقصص كلها سرد متناوب متعدد الوجه لعلاقة الرجل بالمرأة في «أحمر أبيض» على سبيل المثال، ويكتمل السرد من قصة لأخرى، وينتظم المنظور السردي ضمن مهارة لا تخفى في اقتصاد الحوافز. واختار المجموعة الثامنة «مفازات» لتحليل المبنى الاستعاري لقصصه، إذ بلغ غسان كامل ونوس ذروة مقدرته الفنية على المبنى الاستعاري لقصصه في مجموعته الثامنة «مفازات» (2003)، فثمة تعبير سردي لماح عن أسئلة الوجود الضاغطة على الوجدان والفعالية الإنسانية وعلائقها المتشابكة والمعقدة، وقد وسّع المجاز إلى استيعاب الترميز والاستعارة في رؤية مكابدة المرء لوطأة المشكلات الاجتماعية والأخلاقية وإلى الاستفادة من قابليات النص المفتوح على التجربة البشرية بالتأويل الدلالي المندغم بأفق استجابة المتلقي لمضاعفات المعنى وتبدلاته تطويراً لتوظيف فضاء التحولات بين الرذيلة والفضيلة، بين العدل والظلم، بين الاستقامة والفساد، بين الاحتباس والانفراج.. الخ، مقاربة لآفاق الخلاص.
ظهر الترميز في قصص عديدة مثل «الصوت» على أنه ساعف لحياة المرء على مجاوزة أن يكون صاحبه مطية، فالصوت إهابه المعبّر عن وجوده والناظم لأشكال ممارسته في قوتها وضعفها، والإنسان في تحققه الذاتي لا يخرج عن ظاهرة صوته في تباينات المواقف الإيجابية أو السلبية، وما يصدر عنه محمول في صوته، وقد أورد الراوي المتكلم تماهياً مع سيرورة الذات علامات وإشارات منضبطة مع الخطاب القصصي عدداً من الاستعارات التي سرعان ما تندغم في عملية الترميز الأشمل لما وراء المعنى مثل:
«- لو كان لي صوت، لصرخت في وجهه!» (ص21).
«- لماذا لم يصرخ في وجهه أحد؟!» (ص21).
«وحدي بقيت صامتاً» (ص22).
«لم يسألني أحد عن رأيي، لم أطالب بحقي في الكلام» (ص22).
«- هناك من يكون صوته في بطنه!» (ص22).
«- لا تزعل! لست وحدك.. أنا أيضاً ليس لدي صوت؛ لا أحد يسألني عنه!» (ص23).
«صوت أبي واسع حاد» (ص23).
«تباهى أمامنا مرات، بأن لصوته الفضل في استمالة قلب أمي» (ص23).
«- هل يبيع صوته؟!» (ص23).
«نحن من نستحق أصوات الكادحين! لن تضيعوا أصواتكم هنا وهناك» (ص24).
«كان أنين أمي المكتوم وضحكها المشتت يتناوبان من الركن المظلم في بيتنا الوسيع» (ص26).
– «وفتشت عن صوتي طويلاً!» (ص28).
– «بدأت الكلمات متآكلة متداخلة؛ الصوت متواتر متلجلج» (ص29).
– «حتى إن صوتي لم يعد بإمكاني تمييزه!» (ص30).
– «كنا نشرّع أصواتنا، نتبارى بالصدى» (ص30).
– «تواصل الصدى مديداً» (ص30).. الخ.
ومن الواضح أن الصوت ومشتقاته ومردداته متضمنة المعاني التي لا يظهرها سطح الكلام، بل تضمر دلالات خافية تشير إلى نص غائب يستحضر بالتأويل من جهة، وباستجابة المتلقي بما يندغم في أفق التوقعات من جهة أخرى.
لقد بنى ونوس خطابه القصصي وفق التحفيز التأليفي أو التركيبي الذي يوحدّه مسار الوحدات القصصية على سبيل التوالي جامعاً بين مدلولاتها وهي تتراكم في المتن الحكائي علامات على تزاوج مكونات الفضاء القصصي من تعدد الأمكنة إلى تشظية الزمان واستدعاء شظايا السرد في علاقات الراوي مع الشخصيات الأخرى وتنامي الفعلية، ولعلنا نفرّد بعض مكونات الخطاب القصصي للتعريف بالمبنى الاستعاري.
1- علامة أن صوت المرء هو شخصيته وطلبه أن يكون له صوت أو حضور إنساني أو حق في الحضور الإنساني إزاء مرارة التجربة ومعضلاتها.
2- استعراض مكانة الصوت أو الشخصية علامةً على المجاهرة ونبذ الضعف والاستكانة. واستحضار قيمة الصوت من خلال قوة شخصية والده التي آلت إلى الخمول والاستلاب وأهمية سلامة الصوت في ضبط المواقف الوجودية، وهو علامة ارتهان الصوت لاستطاعة صاحبه.
3- تعبير الصوت عن مرارة الوجود منذ الطفولة واليفاعة في صورة رفيقة الرعي وصورة رفيق الصبا وصورة الحاجة لمضاء الصوت علامة على تماهيه مع الشخصية وممارستها من خلال هيمنة الكابوس على نفسه المتوجعة.
4- تعبير الصوت المطلق عن التعبير الذاتي المطلق علامة على ملازمته لأحوال الشخصية في ثوابتها ومتغيراتها، فقد غدا المرء مسكوناً بالصوت وصداه على تباعد الأمكنة والأزمنة.
وأشير إلى استعارية المبنى وما ينجم عنه من دلالات ومعان في عرضه لتنويعات الصوت وهو يستحضر قيمته:
«قعدت، يومئذ، أندب حظي، وقلة حيلتي، وضعف صوتي. حين سمعت أصواتاً متلجلجة غير مفهومة قادمة من طريق الوادي القريب؛ جزعت، وكدت أهرب لولا أن شغلتني اللهجة غير العادية، واللحن الغريب، والمقاطع المتداخلة، دون أن أتبين كلمة واحدة، أو نغمة منسجمة؛ قبل أن يظهر، بعد حين، أخرس القرية المجاورة، عابراً من جوار الحافة التي أختبئ خلفها، منتشياً، منشغلاً، هازاً رأسه، منطرباً..» (ص27).
ثم بدت الحاجة إلى الصوت بمدى ارتهانه لاستطاعة صاحبه بقوله:
«لم يكن لصوتي حاجة، حين حاربنا كل الأعداء، وانتصرنا في فترات التدريب الصباحية والمسائية. وكنت أحرك شفتي مع الصوت الهادر الذي يرعب العدو في عمق تحصيناته، ويعيد كل الحقوق بخبطة قدم. لكن المشكلة برزت، حين كان علي أن أقسم. وطلب مني أثناء التحضير لحفل التخرج مرات، أن أعيد الكرة، بعد عقوبات وتهديدات. فقد خلص المشرفون بعدئذ إلى أن نقسم جماعة؛ لست متأكداً إن كنت وحدي السبب في ذلك!» (ص28).
وختم القصة بتغطية الصوت للفضاء القصصي برمته من خلال استذكار الماضي وتجاذباته مع الراهن واقعياً أو صياغة مثالية لدى الخروج من الكابوس أو الدخول في الحلم:
«كان غروب الشمس قد بدأ بإلقاء نثار العتم على اللوحة الغارقة في الإبهام؛ أطلقت حجراً صوب النهر الذي كان لصهيله نغم الحياة، ذات طفولة. تردد إيقاع ارتطامها بقاعه الصخري. تلاه نداء خرج من بين شفتي المتيبستين، باسم من كانت تشاركني الرعي والصراخ، وأشياء أخرى.. لا أدري كيف حدث ذلك، لكنه كان صوتاً مني، صوتي! أتبعته بآخر، وآخر… تواصل الصدى مديداً، قبل أن تظهر على الضفة المقابلة من الوادي، على الصخرة المواجهة؛ تضرب خديها بكفيها، وتشد شعرها، وتنتحب..!» (ص30).
وجاءت قصة «ملاحقة» مماثلة استعارياً أيضاً في معاينة معنى الملاحقة في تنويعات متعددة ينهض بها الحرص والعناية في مواجهة الممارسات الأخرى، ولا يخفى أن المرء معرض للملاحقة على الدوام ضمن تشكلات المعنى المجازي بأشكال مختلفة:
«بعد لحظات، وقبل لحظات.. وفي برهة انشرخ عنها الوجود، برز أمامي؛ أحسست به، وتخيلت أني رأيته، وعجزت عن تفسير ما رأيت: شكل، هيئة، هيكل، موجة، شبح، خيال، رغبة، خوف، أمنية، احتمال، إحساس، شعور، فكرة، خاطر، إشراق… أو كل هذا معاً، أو لا شيء منه على الإطلاق.. سوى إشارة تلقيتها بوضوح وقوة وعناد:
– إنه يسأل عنك..!» (ص44-45).
وبنيت القصة وفق الترميز إياه في أن الملاحقة تبدأ من السؤال والتساؤل إلى نفي الضياع والحيرة والتمزق، ويرتبط ذلك بعناصر الفضاء القصصي من الأمكنة والأزمنة إلى دواعيها في لغز العذابات الكثيرة التي يواجهها المرء، حتى يصبح الحال كله أسير التفكير بالملاحقة:
«يبرز في شتات الحالة التي أعيش، وشريط الأفكار الذي يعبر طوعاً أو كرهاً في لحظاتي المسمومة هذه، أسئلة وتساؤلات وعلامات دهشة واستغراب تكاد تجعل كل ما مضى من عذاب لا معنى له؛ فما الذي يخيفني منه كائناً من يكون؟! وماذا ارتكبت من جرائم، واقترفت من آثام تجعلني غاية سهلة وصيداً قريباً؟! ومن الذي سلطه علي وسلمه المسؤولية عن ذلك؟!
وأعقد العزم على مواجهته، والوقوف في وجهه، وإبراز براءتي وحسن سلوكي وسمعتي..» (ص42).
ونهضت قصة «استقامة» على امتداد النجوى المؤرقة عن التزام الاستقامة إلى الخوض في زمن الفساد، وهي معاناة شديدة القسوة على الإنسان لدى تعرّضه لدفق العذابات:
«هنا في وحدتي وغربتي وبطالتي، تحاصرني أمداء مقطعة باستقامات مرئية وأخرى غامضة، وتخترقني إشعاعات من نوع مختلف، لكنها قادرة على الوصول إلي من كل الاتجاهات، وتتركني خرقة متكومة مثقوبة ومشروخة بعدد لا يحصى من الاستقامات..!!» (ص36).
وتناولت قصة «قناعة» تفريد الخطاب القصصي عن محاصرة الفكرة لصاحبها، وعاينت قصة «الجدار» مراودة القيود التي تزداد ضغطاً على الإنسان، وأفاضت قصة «الكوة» القول في مدى الانفراج عن كوة ما تلبث أن تتلاشى في اشتداد الحال، وأبانت قصة «المفتاح» الغبش الذي يتضاعف أمام منافذ الرؤية لتظل الآفاق موصدة، وتأملت قصة «الوليمة» شجن التباين بين الداخل والخارج في الذات، ووسع ونوس مبناه الاستعاري الشامل في قصتيه «تلك الرحلة» و«مفازات»، وعالجت الأولى ملامسة أشكال الخوض في تجربة الحياة ومدى عنائها، وقد عمّق هذه الرؤية في القصة الثانية عندما كشف عناء التجربة في مضاء النفس وهي تمضي إلى الفرح المنتظر:
«على أية حال، أنا لا أرضيك في كل ما تبتغي؛ أنا رهن حالك، رغبتك، مشاعرك.. إن تطلقني أنطلق، رغم أني أحبك وأغفر لك أحكامك، لأنني أبررها، كما أرجو أن تبرر لي سيرتي معك..!! الوقت ليس في صالحك، ها هي الأغصان عارية، والأرض تمور بالورق المصفر. وهي فرصتك، قبل أن يأتيك الأمر وأنت في طرف الحكاية الآخر، بعد أن تكون اللحظات غير قابلة للحياة. وعليك إن أصررت على موقفك الانفعالي، أن تلوم أحداً آخر، ظرفاً آخر، إرادة أخرى لا أملك حيالها حيلة!» (ص95-96).
بنى ونوس قصصه بإحكام مستفيداً من غنى المبنى الاستعاري، وأفلح إلى حدّ كبير في ضبط أنساق السرد تدعيماً لإثراء وجهة النظر.