الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: عبد اللطيف الأرناؤوط
الناشر: صحيفة النور
تاريخ النشر: 2011-09-27

الأنــــــــا في مواجهـــــــة العــــــالم
عبد اللطيف الأرناؤوط
27/ 09/ 2011
خلال تسع مجموعات قصصية أصدرها الكاتب السوري غسان كامل ونوس ما بين عامي 1991 و 2007 تدرج عبرها من الواقعية النفسية إلى الاتجاه النفسي والتأملي المجرد، إذ يمكن أن تندرج مجموعته العاشرة ذات العنوان (في الضفة الأخرى) في مجال أدب الرفض والاحتجاج، إذ تتجرد شخصياته في قصص هذه المجموعة من أي أمل في المصالحة مع العالم. وبمقارنة هذه القصص بقصص مجموعته التي سبقتها (في الزمن الراجع) تترسخ رؤيته الإبداعية وأسلوبه التعبيري فيصبح أبطال هذه المجموعة في موقفهم الرافض نموذجاً واحداً يتمظهر بمواقف حياتية مختلفة، من غير أن يتنازل عن رفضه للواقع وإدانته، ومحاولة التماس عالم بديل له يستمده من رغبة ملحة لديه في التغيير، مع ما يساوره من عجز وقلق وقلة حيلة أمام هذا الجبل الراسخ الذي يجثم على صدر الإنسان المعاصر بسبب المواضعات الاجتماعية التي تقيده.
في المجموعات القصصية السابقة كان ونوس يستمد نقده الاجتماعي من اختيار مواقف حياتية يتفرد فيها البطل في موقفه منها، فيعارض سلوك الجماعة المهادن، والمتخلي عن دور الإنسان في الاحتجاج والرفض، في اتجاه يكمن أن يطلق عليه الواقعية النفسية التي تقوم على استعادة الزمن تراجع من خلال التذكر والخطور، فيبدو الماضي يوتوبيا يحنّ إليها ويسعى إلى استرجاعها بلون من الرومانسية التي تمجد الماضي، وتهرب من الحاضر بكل سلبياته. أبطال مجموعة (الزمن الراجع) يعانون سوء التكيف، هم مأزومون، لكن أزمتهم لم تصل إلى حد المرض النفسي، لكن بوادره تجلت واضحة في سلوكهم (أنا لست طبيعياً)، وفي عزلتهم (من أين لي أن أهنأ وأرتاح وحدودي مباحة وأبوابي متاحة)، وفي تضخم أناهم وكرههم العالم (كانت معركتك مع الجميع.. لم تكن تتصور أن يصروا على الوصول إلى أركانك السرية، أن يحملوا السلالم ويصعدوا الأشجار). غير أن أزمة البطل في قصص مجموعته (في الضفة الأخرى) تتخذ طابع المرض النفسي، يتمثل بالرفض المطلق للتصالح مع العالم (لا أنحني لمخلوق)، (كنت واقعياً مع ذاتي وتواضعت كثيراً لكن بشروطي. الآن لست متأكداً أن الأمر يمكن أن يسير على ما يرام، لا أعرف ما إذا كان الباب قد اتسع، لم أنظر إلى أعلى لأنني لن أتوقف، ولن تثنيني رائحة الدماء، ولا قطراته المنهمرة على القبة).
من الواضح أن الكاتب غسان يستعين بمعطيات علم النفس في رسم شخصية أبطاله المأزومة المتفردة، فيدفع بها إلى حافة الجنون، وهي حال تعترض المبدعين فيسلم علم النفس بشذوذهم. وقد تناول ذلك مصطفى سويف في كتابه بعنوان (الأسس النفسية للإبداع الفني). غير أن المبدع في معاناته النفسية يختلف عن المريض عقلياً، لأن نتاجه يظل يحتفظ بقدر كبير من الوعي العقلي والمنطق، بل يبدو أكثر وعياً من البشر العاديين حتى لو أسلمه اندفاعه إلى الرغبة في إسعاف العالم للتطرف والشذوذ.
يقترب الكاتب غسان كامل ونوس في قصص المجموعة من الوجوديين الذين يركزون على شروط الحرية الإنسانية والدفاع عنها (أنا الآن حر بامتياز، لا أدري إلى متى قد تستمر حريتي هذه، وعليّ أن أعيشها إلى آخر نفس)، ومن شروط تحقق هذه الحرية أن يحسن الإنسان الاختيار حين يقف على عتبة اتخاذ القرار بين النكوص والاستمرار في الدفاع عن إنسانيته (قدمي فوق العتبة، لن أغير وجهتي لن أفكر في جدواها، ولا في مشروعيتها، قدمي فوق العتبة وعيناي تطوفان في فضاءات لا تحد. الأفق صار أبعد، وغمام ينسرح قريباً، ونمنمات خضر في الأمداء الفسيحة). غير أن هذا البطل بسبب إحباطاته المتكررة وخيبات أمله حين يمد يده لينقذ العالم فتعود خائبة حسيرة يستسلم لليأس، ويدفعه سوء تكيفه إلى صدمة تقوده إلى الضياع، والانغماس في هلوسات اللاجدوى وعبثها. فيغدو أقرب إلى السريالية والفوضوية التي تريد تدمير العالم وتدمير ذاتها في مواجهة امتحان الاختيار (الآن عليَّ أن أقرر، رغم أن قراري ليس معناه الخلاص، فقد يتجاهلون رؤيتي محتمين بالظلام، ويتغافلون عن صراخي، لكن عليَّ ألا أهرب أكثر. علي ألا أقرر انتحاري المجاني، وسيكون تأكيداً لما يقولون أن مسّاً أثَّر بي. القمة تسود والملامح تتلاشى، والأصوات المتناوبة في الضفة الأخرى تنوس. هل فات الأوان؟ علي أن أجرب أن أصرخ، أشعل شيئاً، أن أبحث عن مكان للعبور، أن أقوم بشيء لأتأكد أنني ما زلت على قيد الحياة).
عنوان المجموعة الذي استمد من عنوان قصة فيها والعناوين الأخرى توحي بالمنحى النفسي والتأملي الذي يحكمها (طنين، مثلثات النوم سلطان، خروج، السر، العودة)، والوقائع التي يستعيرها بطل القصة من الحياة تغدو ذات طابع رمزي، وتحتمل قراءة ظاهرية وقراءات رمزية أخرى، فالعتبة رمز للحظة اتخاذ القرار، والنهر رمز لتيار الحياة الواقعية وما تحمل في تدفقها من أوراق، والسيارة التي دخلت عالم القرية رمز للعولمة وما حملته معها من مشكلات، وبهذا يترك الكاتب للقارئ فرصة لفهم ذاتي لرموز قصصه والمشاركة في التخييل.
من حيث اللغة نلاحظ أن الكاتب بدا أكثر نأياً عن الواقع الحسي، فحفلت نصوصه بمستوى من التجريد بحكم أن التحليل لأعماق النفس الإنسانية يفترض ابتداع لغة قادرة على الوفاء بمهمة سبر الذات، مع ما يتمتع به أسلوب القص من جمالية تقوم على المجاز، واقتناص ضرب من الجدلية يقوم على الجمع بين الثنائيات المتقابلة (تحدق في النجوم أكثر أم هي التي تبالغ في التحديق بعد احتجاب القمر)، (النهر يحيض، النهر ليس أنثى مدَّعاة، ولا حيضه مرتهناً لأنثى مخصبة أو مقفرة، فللرجال حيضهم أيضاً).
يبرع الكاتب في التلاعب بعملية السرد في القصة الواحدة، فينتقل من جعله بوحاً واعترافاً بلسان المتكلم، ويحوله إلى سرد بلسان الراوي المجهول. وقد يقطع السرد فجأة بلسان الشخصية ليقتحم من غير تمهيد خطاباً لشخصية أخرى أو حواراً مفاجئاً، ما يخفف من رتابة السرد وجموده إذا طال. وتغدو القصة بهذا التلاعب أشبه بلقطات سينمائية متعاقبة تكسر حدة التعاقبية والخطّية في النسق.
يشكل محور الحرية والكرامة جوهر الموضوعات التي تتناولها القصص الأخرى، ومن أبرزها (في الضفة الأخرى) لتشكل هذه المجموعة تعبيراً عن صراع راهن بين ضفتين متناقضتين، في الأولى أبطال هذه القصص في دفاعهم المستميت عن حريتهم وكرامتهم وما دفعوه من تضحيات. والأخرى المنهزمون والاستسلاميون والنفعيون الذين استمرؤوا العالم الجديد وتكيفوا مع ما حملهم من تناقضات.
قصص الكاتب غسان ونوس تبني عالماً جديداً يرفض الواقع ويدعو لحرية الإنسان، ويعرّي بمرارة عالمنا المثقل بالهزائم وقهر الإنسان تحت شعارات مخادعة، إذ تقف الأنا في أجمل صور كبريائها وشموخها في أن تكون مثالاً (لأنوات) لم تدرك كينونة وجودها ولم تتجاوز معنى حياتها التي لا تفترق عن حياة البهائم ومحرضات الغرائز الأولية وحاجاتها الدانية.

اترك رداً