في الوقت الذي ننشغل فيه بالسلبيّات، ونتسلّى بالنمّ، ونتشفّى بالشكوى، وتحميل الآخرين، قريبين وبعيدين، المسؤوليّة عمّا نعاني من مشكلات مزمنة ومتجدّدة وطارئة، ننسى، أو نتناسى جهوداً حقيقيّة، وأفعالاً إيجابيّة، لا يكاد يخلو منها وقت وميدان، وتختلف في عددها وعدّتها وآثارها وأصدائها، التي قد لا تصل إلى الكثيرين؛ لأنّها تفتقر إلى الفضول، والإثارة، والحدثيّة؛ والأهمّ أنّها لا تمنح الراويّ التسويغَ الذاتيّ للعجز والقصور والجهالة والقتامة… التي تتمتّع بها الممارسات الأخرى غير المضيئة؛ بل على العكس من ذلك، تدفع هذه النشاطاتُ النبيلة والرؤى المشرقة إلى مقارنة مشروعة متَّهِمة، تصيب المتقاعسين المسوِّفين المتهرِّبين، القاعدين عن فعل الخير والمبادرة إليه؛ ومنهم المتحدّثون الرواة وإمكانيّاتهم، وفعاليّاتهم، وكوادرهم، التي يسخّرونها في ما لا فائدة منه ولا قيمة له، وتجعلهم عرضة للمساءلة المبدئيّة والإدانة المعنويّة المباشرة، التي لا تقلّ أذيّة، عن الأحكام المبرمة؛ تلك التي قد لا ينفدون منها، إذا ما كان هناك من يستكمل الإجراءات، ولو بعد حين؛ أي بعد انتهاء أحداث طارئة، وظروف غير طبيعيّة.
وإذا ما تجاوزنا تثمين المردود المهمّ النظريّ والنفسيّ، الشخصيّ والمجتمعيّ، لأيّة أعمال وإنجازات تندرج في خدمة الناس والوطن؛ ذاك المفعول الضروريّ، الذي تظهر أهمّيته في التحفيز لأعمال أخرى- إلى الحديث في الفوائد والمكتسبات والجدوى؛ فإنّ الأمر يختلف بين أعمال عاديّة مألوفة تتجدّد، ويجري تحديثها أو تطويرها، أو تفعيل آليّات عملها وأدواتها وكوادرها، وبين إنجازات نوعيّة ومشروعات استراتيجيّة، تفتح مساحات واسعة وآفاقاً جديدة، تسهم في تأمين فرص مهمّة، وتجعل ميدان الاحتمالات الممكنة التحقيق حيويّاً.
كما أنّ الأمر يختلف من حيث القدرات والأحياز والأهداف والغايات، ما بين جهات رسميّة وأرصدة وموازنات وخطط زمنيّة ومرجعيّات وإعلام، وأخرى غير رسميّة، تتفاوت فيها أيضاً بشكل فاقع الطاقات والرغبات والدوافع والإنجازات؛ ولا سيّما من حيث الترويج والتسويق والربحيّة… ولا يخفى ما بات يشاع أو يعمّم من مظاهر السعي المحموم وراء التحصيل المادّي، والشراهة في ذلك؛ بصرف النظر عن الشطارة والمشروعيّة، والمنافسة المسوَّغة أو القاتمة؛ مع ذلك، فإنّ المرء يستطيع أن يرى أنّ هناك علامات مضيئة في الحياة، جوارَنا، وأمام أعيننا، وأبطالها أناس منّا وفينا؛ وليست إمكانيّاتهم أكبر بكثير، أو ظروفهم أفضل كثيراً؛ وقد تكون مسؤوليّاتهم أدنى، وقدراتهم أقلّ؛ لكنّ لهم رؤاهم الأسمى والأبعد والأعمق، ومشروعاتهم الأوسع، ومقاصدهم الأنصع، وإراداتهم الأقوى…
ولا شكّ في أنّ التضحية بالنفس تمثّل الحال القصوى من المَنْحِ والشهامة والغيريّة والسموّ، وهي ليست محدودة؛ بل ظاهرة شاسعة الهطل والخصوبة.
ولا شكّ أيضاً في أنّ مجالات الحياة متعدّدة، وإمكانيّة التخويض الجادّ فيها واسعة ومستمرّة؛ لكنّ الملاحظ أنّ كثيراً من تلك المبادرات يبقى منفرداً، أو متفرّداً، ولا ينجم عن مشروع تكامليّ مؤسّساتيّ أو مجتمعيّ، ولا يحظى بالرعاية أو بالإشادة، أو بالإشارة إليها، حتّى ممّن قد يجد فيه ضالّته، أو جزءاً من مشروعه، أو بعضاً من توجّهاته، وإنجازاً في مساراته؛ ممّا قد يحجّم جموح تلك المبادرات، ويخفّف طموحها، ويعطّل محرّكاتها، ويضعف مقاومتها لكثير من المحبطات والمثبّطات والمُعثِرات، ويحدّ من انتشارها، ويستنزف طاقاتها؛ ولا سيّما في أحوال ضاغطة، وأجواء قارسة؛ فتدخل في دائرة اليأس والقنوط، أو على الأقلّ تتناقص أعمالها وتتقلّص جهاتها، بعد أن كانت متوفّزة متواترة…
إنّ من الأهمّيّة بمكان أن تدعم تلك المشروعات، صغيرها وكبيرها، وأن لا تبقى جزراً تتقطّع فيها السبل، وتزداد الصعوبات حولها، وإذا لم يكن هذا الدعم ممكناً مادّيّاً، فلتكن المؤازرات معنويّات وتشجيعاً وإسهاماً في الحضور الوجدانيّ على الأقلّ، إذا ما كان يدخل في نطاق عملها.
وإذا كان هذا الكلام مهمّاً في كلّ آن، فإنّه مهمّ أكثر في هذه الأيّام، ونحن نخوض آخر المعارك وأشرسها، ونضحّي بالكثير الكثير؛ كي نستمرّ صامدين محافظين على ما نستطيع من قوى، مستعدّين للترميم وإعادة الإعمار، من دون أن ننسى أنّ بقاءنا قادرين على التفكير والعمل والمبادرة والإنجاز، يعود إلى تضحيات أعزّتنا؛ تلك التضحيات التي تبقى أهمّ المبادرات وأروع الشواهد والأنبل والأسمى…
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: البعث ع 15457
تاريخ النشر: 2015-12-07
رابط النص الأصلي: http://albaath.news.sy/wp-content/uploads/2015/12/15457.pdf