الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد- ع 7- السنة الثانية- أيلول- 2015م
تاريخ النشر: 2015-09-15
رابط النص الأصلي: almawared.sy

في التنظيمات المحكمةِ السرّية، يُعتمد على مجموعات متفرّقة محدّدة تدعى الخلايا النائمة؛ تلك التي لا يعرفها أحد. وهي ليست نائمة؛ بل شديدة التنبّه، وقويّة الملاحظة لما يجري، لكلّ ما يجري، وهي متحفّزة للتحرّك، والقيام بفعل مؤثّر، قد يتوازى مع أفعال أخرى في أماكن أخرى، أو يتلوها، أو يستكملها.. فتكون النتيجة أفظع!
يقترب من هذا كثيراً، أو يبتعد قليلاً، بعض الأشخاص في مؤسّسات ونقابات واتّحادات ودوائر وأحزاب، وأيّة تجمّعات أخرى أهليّة أو رسميّة.. قد يكون ذلك من دون تخطيط، وبحكم التربية وآليّة التعيين والترقية والقيادة، مع كلّ ما يعتوِرُها من مثالب، وما يتغلغل فيها من وساطات وتدخّلات ومآرب وأهداف غير نبيلة، ما يؤدّي إلى تفاقم النخر والتآكل والتسوس..
وقد يكون هناك مخطِّطون بعيدون عن الواجهة، وليسوا نياماً، ولهم غايات بعيدة، ويعملون وفق خطط واسترتيجيّات، تستخدم الذكاء والعلم والسياسة والإعلام والاقتصاد والاجتماع.. لتصبح خططها قابلة للتنفيذ، ومؤهّلة للإنتاج والاستغلال في زمن مفتوح، وعلى نطاق أوسع.
من خصائص الأشخاص هؤلاء، أنّهم بسيطون ساذجون –يبدون كذلك- لا مشاكل لديهم، ولا طموحات، ولا أطماع محسوسة؛ يقومون بأعمالهم بلا ضجيج، وينفذون الأوامر بلا اعتراض ولا تأفّف، جاهزون للقيام بأيّ مهمّة، إذا ما اعتذر عن عدم القيام بها أحد، وحاضرون لأيّ لجنة، إذا ما احتاج الأمر إلى ذلك، يكتبون في تقاريرهم المطلوب، ويصِلون إلى النتائج المنتظرة، ويوقّعون “أصولاً” بلا تردّد!
ليست لهم مبادرة؛ إلّا إذا أوحي إليهم؛ فيقترحون! وليست لديهم حماسة؛ إلّا إذا حُرّضوا، أو زُيّن لهم، فيندفعون!
واحِدهم بلا شخصيّة ولا قوام ولا كيان، يمكن ترسيمهم بوجوه وأشكال حسب الطلب والطالب، وحسب الحال والمآل!
مريحون إلى درجة الكسل، ومردِّدون إلى درجة الملل، وهُلاميّون حلزونيّون زئبقيّون..
ولكن.. حذارِ أنت المناقِش المجادِل المتسائل المعترض الرافض.. حتّى لو كان كثيرون يريدون منك ذلك، فوق أو تحت، أو في مستواك؛ فهم يُسهمون في الحَفر بهمّة، ويشاركون في الرجم بمتعة، يتلمّظون بخفر فاقع، وحياء نافر، وهم يسترقون النظر إلى موقعك، ومكتبك، وسيّارتك، وامتيازاتك.. تلك التي ستؤول إليهم، بعد أن تتنحّى، أو تُنحّى، بفضل البيئة المجرثِمة، والسوائل الآسنة، والهواء الراكد!
لكنّ ما يكون عصيّاً عليهم، ولست تدري إن كانوا يرغبون بذلك، أن تكون لهم خصالك، أو مواقفك، أو فراغك، أو احترامك.. حتّى من قبل الخصوم!
فإذا كان الحديث عن الفساد يتركّز على المرتكبين، المسؤولين، المهمّين، المتبجّحين، البطِرين.. الذين يأمرون، ويقرّرون، ويعيّنون، ويَنقلون، ويسرِّحون، ويشكِّلون اللجان.. وقد ظهرت، وتظهر عليهم علائم الكسب غير المتلائم مع الزمن والوظيفة، والإمكانيّة؛ غباءّ، أو فجوراً، أو استفزازاً، أو استهتاراً.. فإنّ تلك الشريحة الهلاميّة الماصّة، التي تفتقر إلى المسؤوليّة والإرادة والثقة والموقف.. هي الأخطر؛ لأنّها تبدو بريئة، وهي ذات نوايا قاتمة؛ مسالِمة، وهي متربّصة؛ غافلة وهي قانصة؛ قانعة، مترفّعة، وهي شرهة، دنيئة؛ مُصلِحة وهي مخرِّبة، مطيعة، وهي خانعة؛ مُرضية، وهي ممرِضة؛ رحمانيّة، وهي شيطانيّة.. إنّها عثرات ومطبّات وصدوع، ونخرٌ وتسوّس وهشاشة! إنّها خلايا خبيثة لا تؤلِم، ولا تُعلِن، ولا تصدُق ولا تشير، ولا تنبّه، ولا تنصَح، ولا تقاوِم!
وممّا يزيد من خطورتها، أنّها ترضى أن تُمثّل دور الضحيّة، لكي يُحكم الجلاد سطوته؛ فقد تعاقَب، وتُشتَم، وتُهان، باتّفاق أو من دونه، بمعرفتها وبمواجهتها، أو من خلف ظهرها؛ لكنّها راضية، مَرْضيّة، ماضية في مسارها غير المحدّد، وحيّزها المحدود، إلى الأنفاق المرسومة، أو الواجهات المرصودة، بآليّة قد يُحسد عليها المسؤول عن ذلك، وإيقاعٍ رتيب قاتل؛ كما في تكّات ساعة في أذنِ قَلِقٍ، أو توالي سقوط قطرةٍ في أسماع نزيلِ منفردة!
ليس وباؤهم سهلاً، وليست جائحتهم يسيرة، وعمرهم ليس قصيراً، ولا عددهم محدوداً!
إنّ هناك حاجة إلى أساليب خاصّة للكشف والتعرية والتنقية، وأجهزة نوعيّة للتمييز بين أصحاب النوايا السليمة، والسمات الطبيعيّة، ومحبّي العمل والتضحية والتفاني من أجله، وبين متصيّدي الفرص في المياه العكرة والصافية، الجارية والساكنة، الكامنين حتّى في الضوء، الذين قد تجدهم في طريقك، أو وراءك، ساهمين كالزاهدين، حياديّين كالغافلين، منتظِرين كأصحاب الحاجات، فاغرين كالبلهاء، متلملِمين كالبؤساء!..
ويصحّ فيهم معنى المثل المعروف “الأرض الواطئة، تشرب ماءها وماء غيرها”، حتّى لو كان غير طهور!
***

اترك رداً