لكل امرئ هيكل طبيعي فيزيولوجي، يتشابه فيه مع أبناء جنسه شكلاً وتكويناً: أجهزة وأعضاء وأطرافاً… ويكتنز كيانه ثقافيّاً مما يحصّله معرفيّاً وعلميّاً وأخلاقاً من خلال ما تقدّمه البيئة والأسرة والمدرسة والمؤسّسات.. بسعيه الشخصي، الذي يحفّزه ما يمتلك من إرادة وطموح وموهبة.. وبناء على هذا الكيان المتكامل ترتسم شخصية الكائن، وتمضي مسيرتها المحدودة فرديّاً، المتّصلة اجتماعياً وإنسانياً.. وقد يُعرف هذا الكائن بسمةٍ مميّزة وطاقة متفرّدة، ويكون مثاليّاً أن يقوم الشخص بالدّور الذي يطمح إليه، ويناسب قدراته، ويتحمّل المسؤوليات بناء على ذلك؛ فيبدع ويتميّز أكثر، ويعطي أكثر فأكثر.. وفي الغالب لا يحدث هذا، فتضيع الإمكانيات وتتعثّر الخطا، وتتبعثر الموارد، أو تتعفّن، وتتباطأ عجلة تطوّر المجتمع، إذا لم يتقهقر ويتشرذم ويتلاشى..
ولسنا الآن بصدد بيان الأسباب، وهي عديدة ومتشعّبة، عامّة وخاصّة، ولا الخوضِ في تحليلها؛ بل سأتناول أمراً محدّداً يتعلّق بالكائن نفسه، وبما يمكّنه أن يحلّق به، ويعتزّ ويفاخر، أو يسقط ميتاً!! فخبرة المرء تتراكم مع امتداد التجربة وعمقها وحدّتها أحياناً، وتزداد الكفاءة وتتشكّل السمعة وتتكرّس.. وقد يبتني رصيداً مهمّاً من المعاناة التي تَحمَّلَها بدايةً ومتناً، والمواقف التي اتّخذها فكراً وممارسة.. تلك التي قد تجرّ عليه الكثير من الويلات؛ فصار مفكّراً يُعتدّ بنظرياته، أو مثقّفاً يُفتخَرُ بمعرفته، أو فناناً يُسعد الناس، أو مقاوماً للاحتلال والعدوان ملتزماً، أو ثائراً على الظلم والهيمنة.. وهذا يمكن أن يمتدّ إلى جميع مناحي الحياة، وحرفها واختصاصاتها؛ إذ يمكن أن يشتهر نجار أو معلم أو فلاح، أو كهربائي، أو طبيب، أو مهندس.. رغم وجود الكثيرين في المجال نفسه، وقد لا يستطيع المرء أن يكون حيث يجب، وحين يُفرض عليه ذلك، لا يعني أنّه يستسلم أو ينهزم أو يقصّر؛ بل سيبذل جهده، ويقدّم إمكانيّاته التي قد ينجح في تجييرها لصالح المهمّة الجديدة..
لكنّ الغريب في الأمر أنّ بعض الناس المقدّرين، وبعد زمن وعمر وأداء وخبرة، يترك الخطّ الذي به عرف، ويغادر الحيّز الذي فيه جال، وينحاز إلى ترغيب مصغِّر، أو ينصاع إلى تهديد مدمِّر، فيخسر الكثير، ولا يعود لقامته ظلّ، ولا لكيانه مرتَسَم، ولا لكلامه صدى..
فماذا يبقى للمقاوم إذا تحالف مع محتلّي بلده، أو تلاقى معهم، أو تماهت أهدافه مع غاياتهم؟!
وماذا يبقى للأديب الذي يكون في أدائه مفتقراً إلى الأدب، ومخالفاً لما يحاول إثارته في كتبه؟!
وماذا يكتسب المفكّر الذي صار مرتهَناً بفكره لمن يستغلّه، فينظّر له، ويسوّق سياساته وإجراءاته وممارساته التي لا علاقة لها بالفكر؟!
وكيف يُسوِّغ “الثائر” تخريبه للبنى، وتبديده للمقدّرات، وتشويهه للرموز الوطنية، وقتله للخصوم تكفيراً وعقاباً.. هو الذي يرفع شعار الحريّة والعدل؟!
وماذا يتبقّى للمؤسسة الثقافيّة إذا ما أفلتت من أحضانها عملها الأساس إصداراتٍ ونشاطات، والتفتت إلى أشياء أخرى سياسيّة أو استثماراتية؟!
وكيف يمكن للمؤسّسة التعليميّة أن تغرق في الجهل، ويفرّ منها علماؤها، وتستغني عن اختصاصييها بلا رفّة جفن؟!
وماذا يعني أن تنشغل المؤسسة الاجتماعية بالتنظير والتسويغ عن مجرّد التواصل مع الناس؛ ناهيك عن السعي إلى تنفيذ رغباتهم وتأمين حاجاتهم المتزايدة؟!
وماذا يبقى للتيّار القومي أو الحزب الأممي حين يغرق في المحليّة، ويُسهم في حروب الطوائف والعشائر والكراسي؟!
وماذا يظلّ للمنظمة الدولية التي تُعنى بالعدل والدفاع عن حقوق الإنسان من دور أو شعاع، حين تُمالئ الغازي، وتتبنّى المجرم، أو تغضّ الطرف عن الجاني، وتتّهم الضحيّة، أو تُهمل أنّاتِها وتتغافل عن أذيّاتها؟!
هذا للأسف ما يحدث في عصرنا الذي أسرع في خطا التقدم، ونسي زوّادة الأخلاق التي يحفظها لهم الأخيار، وقد يفقد الذاكرة التي لا يفتقدها الطيّبون المخلصون، الذين هم لمبادئهم حافظون، وعلى أفكارهم وأحلامهم حريصون!!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة الموارد ع 1
تاريخ النشر: 2014-01-01