الفئة: من أدب الرحلات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الفكر السياسي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

إنها فلسطين!
غسان كامل ونوس
إنها فلسطين!
تصادت ترددات الكلمة على أوتار النفس، فشع عبق خاص عبر المسامات المتوّفزة؛ أحاسيس مفعمة بالقلق والدهشة والحيرة والطيب والألفة والألم واللذة..
أحاسيس تصاعدت وتفاعلت مع الاستمرار في انحدارنا الملتوي نحو نهر الاردنّ.
لم تكن تلك الأحاسيس مفاجئة، لكن كمونها المستثير أجّج ما تخفّى، وأعلن ما أسرّ لسنوات، أو تَراوحَ على البعد، ما بين الاتّقاد والانكتام، أو الانشغال به أو التشاغل عنه، حسب طقوس الحياة وفصولها وعناصرها ومفرداتها.. التي لم تبتعد عنها فلسطين ألماً وأملاً وظلماً وحضوراً معذّباً وخيبات..
ها هي تحتلّ الواجهة أيضاً في المشهد الممتدّ طويلاً من الشمال إلى الجنوب، سفوحاً بعيدة تتوضّح، وذرا عليّة تتعالى، وتضاريس تُتقرّى.. رغم غياب الملامح المباشرة للمدن والقرى خلف الجبال؛ إلا أريحا التي تتبارز معالمها وتقترب علاماتها الحيّة، مع اقترابنا من النهر الأثير!
إنها فلسطين..
كان الجهد مضاعفاً لمحاولة التوفيق بين المشاهد الواقعية والمرتسمات في الذاكرة، يتضاعف أكثر مع احتشاد الأسماء والمعاني.. يحرّكها صوت الشاعر المناضل العتيق الصديق خالد أبو خالد: هنا وقعت معركة الكرامة؛ في هذا السفح تحصّن الفدائيون، وفي السفح المقابل في فلسطين كان العدوّ المحتلّ!
وما يزال العدو هناك، يحتلّ الأرض، ويباعد بين الأهل والأتراب والأصدقاء..
تتوالى الأصوات: نابلس في الشمال، رام الله، وبيت لحم، والقدس.. وتلك أريحا ببيوتها الاسمنتية والبلاستيكية، ومظاهر الحياة التي تبدو من بعيد تقترب بضعة كيلومترات عن النهر؛ المدينة المغضوب عليها لدى اليهود، فكانت أولى الحواضر التي تخلّوا عن وجودهم المباشر فيها؛ حاضرة وحيدة تبدو في الجهة المقابلة، مع قليل من المظاهر الصناعية التي تدلّ على المستعمرات الصهيونية، كما أشار الأصدقاء الأدباء العارفون وأبناء البلد.
تغيب الأصوات وتحضر، تتردّد الأصداء، تعلو وتخفت، مع توالي مغالبة الحال، وتفاعل المفردات والعناصر، وتناهُض الكوامن، وطواف الخيالات لعبور الوادي.

لم أكن أتخيل وادي الاردن بهذا الاتساع، وقفور سفوحه من مظاهر الحياة، لولا الطريق المميزة، وملامح الخضرة التي تبدّت في السهل المتطاول شمال جنوب، وحركة المزارعين فيه.
لم أكن أتخيّل النهر الأثير بهذا الشحّ، ومياهه بمثل تلك العكارة، قبل أن تخز عيني قطعة قماشية تهتزّ على سارية في الضفة الأخرى؛ كيف لهذا النهر أن يصفى، كيف له أن يفترّ ويضحك، وقد أثم بالاحتلال والمحتلين؟! فمشى متباطئاً مهدوداً ملتوياً.. وهو كظيم!
اختفى المحتلون في البناء المجاور، بعد أن وصلنا إلى الشاطئ؛ ذلك جزء من الاتفاق؛ ويا له من اتّفاق! فوصولنا إلى هنا، تمّ بعد أخذ الموافقة من المحتل، حتى في هذه الضفة الشرقية، لا يمكن التحرك بلا إذن مسبق!
الأشجار باهتة الخضرة، والطريق متعرّجة مفروشة بالحصى، والسفوح كالوجوه الكالحة المتشققة من الظمأ.. كل شيء يومي بالعطش الذي لا يرويه بعض ماء في حفرة تنخفض /396/م عن سطح الأرض؛ حيث عبر المسيح من أريحا، وعمّد في هذا المكان؛ ما تزال أعمال التنقيب والترميم لإظهار رابعة الركائز التي اكتشف منها ثلاثة، ليتأكّد وجود هذا (المغطس)، وقد حاول الصهاينة المعتدون إظهاره في الضفة الأخرى، إمعاناً في سرقة التاريخ، والجغرافيا! لكن المعالم والآثار تدلّ على حقيقة وجوده هنا؛ كما قال الدليل السياحي المتحمس! وفيما كنت أفكّر إن كان ثمة فرق بين هناك وهنا، أليست كلها أرضاً عربية؟! كان الدليل يشير بيده، ويضيف: هناك عند تلك التلة؛ حيث تشاد كنيسة مميّزة انطلق السيد المسيح إلى السماء الأعلى..
وهناك.. أشار بعض الاصدقاء بحماسة، وكانت الشمس قد انطفأت في ما وراء الأسى والغصّات، هناك في الجهة المقابلة، عند أطراف الأفق المضاء، فوق ذرا الجبال المتعالية، إلى الجنوب قليلاً، تظهر ملامح القدس، تكاد تظهر قبة الصخرة وكنيسة القيامة.. هناك؛ حيث يعاني الأهلون حتى في إقامة الصلاة، وفي المناسبات الإسلامية والمسيحية.. هناك؛ حيث يتواجد الاحتلال والمحتلون.. تلك أبراج معدنية تظهر وتغيب، وتلك أهلّة وصلبان تتعالى، وبريق الألم الذي ينبثق من مسامات المغلوبين، وإشراقات الورع والإيمان، وأطياف الدّعاء الذي يتسامى من أفواه الثكالى والمحرومين أبناءهم وأراضيهم وهناءهم!
ما الذي كان يلمع إلى اليسار من هبوطنا المتعرج الذي يكاد يسلس، مع اقترابنا من السهل العريض؟! إنّه البحر الميت، أخفض بقاع العالم، مياهه الملحية كانت تعكس الشمس المصفرّة قبل الغياب؛ اتجهنا إليه بعد عودتنا المتعرجة أيضاً من النهر المهيض، ربما سبقْنا مياهه العكرة إلى البحر! النهر المريض الكظيم يصبّ في البحر الميت؛ أية مأساوية تغلّف الحالة التي وصل إليها الواقع العربي: أميت يجر ميتاً؟!
ربما سبقنا مياهه التي كانت جوارنا إليه، لأن الطريق الاسفلتية متسارعة نظيفة مستقيمة مستوية؛ يا للمفارقة العجيبة! لكن لألأة سطح البحر كانت قد ضاعت مع انسدال غلالة المساء التي تتكاثف باطّراد، لتظهر لألأة أخرى لمنتجعات وأماكن سياحية باهظة الأناقة على شاطئ رطب يتعارض مع ابتعاد المياه المتوالي، لانخفاض منسوب ماء البحر متراً في العام.. وهل يسعف النهر المعتلّ، والروافد الشحيحة، والأمطار النادرة، والدعوات اليائسة والأماني المهيضة..؟! أم آهات المتعة وصيحات الفرح التي تتناوح في ثنايا الأودية، وتتراقص في (البلاجات) برملها المسودّ مؤنّبة أو معزّية.. فيما المرارة الملحية والملمس الدهني الزلق يتفاقمان في الشاطئ الخجل الذي تربتُ عليه الأمواج الكسولة، مع صوت يترقرق في الذاكرة كالفقد الموغل في العمق.
تلك آثار صرف المعامل الصهيونية على الشاطئ الآخر /10 كم/؛ حيث تصبّ فضلاتها فيه؛ فإذا كان وجودهم خراباً، وممارساتهم كارثية على التاريخ الانساني، وملامح عمرانهم وأضواء مستعمراتهم ومنشآتهم وحضارتهم المزيّفة تشوهات في الحضور الفعلي لأبناء الأرض، أصحاب العراقة في الجغرافية والتاريخ.. فكيف يكون أثر نفاياتهم وبقاياهم في الهواء واليابسة؛ ناهيك عن المياه التي لا منافذ لها!
المشهد مثير، والأوقات حرجة؛ فأنتَ في أخفض نقطة من الكرة الأرضية؛ يمكنك أن تستثار وتفرح، وتحس بدبيب النشوة والاعتزاز لوجودك هنا، مع هذه الكوكبة من الأدباء العرب من مختلف الأقطار العربية، يتوزّعون فرادى ومجتمعين، يقتربون من المياه، يلامسونها، يتذوّقون.. وينقبضون؛ بل تزداد انقباضاتهم التي ما توقفت، رغم بعض محاولات التمتّع والانشغال بمشاهد جديدة ومناطق تستجدّ على ساحة الوعي واقعاً وعناصر، بعد ما كانت أفكاراً ومعلومات وتصورات..
كان الظلام قد بدأ يهيمن بقوّة حين غادرتم؛ ذلك أفضل حلّ للخروج من هذا المنزلق، لأنّ هروب المشاهد العزيزة من بين يديك، ومن أمام ناظريك، أهون من تركها مضطراً مضطرباً آمناً نادماً..
وإذا كانت هذه حالك، وقد جئت لسويعات، وغادرت لسنين، وربما إلى الأبد؛ فكيف هي حال الذين تبقى أمامهم فلسطين الجبال الناهضة المتطاولة على مدّ النظر؟! وهم من أبنائها الذين غادروها ذات نهارات متتالية ومناسبات لما تنتهِ؟! وهي ماثلة في القلب والوجدان كما هي في الواقع المرّ؟! لكنهم ربما كانوا مثلك، أنت البعيد الذي اقترب ثم ابتعد، ما يزالون يغالبون صراع الذاكرة والواقع، لكنّ مراراتهم أشدّ، وخيباتهم أقوى، ومواجعهم أكثر اتقاداً مع كل إطلالة إلى الربوع المقدسة، ومع ملاحقة الأضواء القدسية التي ترسم ملامح فجر وشيك، من فوق ذرا الجبال التي ستشهد بزوغ الشمس ذات صبح، لن يكون بعيداً بهمة الصابرين هناك، الرابضين في أرضهم وتاريخهم، وإصرار الغائبين على العودة، وتعلّقهم بالوشائج التي لا تهن والعواطف التي لا تنوس، وبجهد المقاومين وإيمانهم وثقتهم بقدراتهم وجهود المخلصين من أشقائهم في فلسطين والبلاد العربية الأخرى، والأوفياء للحقّ في العالم دعاة التحرر والحياة الحرة الكريمة.
***

اترك رداً