الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2013-08-14

إلى سليمان العيسى… الصادح الجريح

ما ابتدأتْ بكَ الرحلة، لكنّها اغتنتْ واكتنزتْ، ما انتهتْ إليك الحكاية، لكنّها افتقدتْ وافتقرتْ.. وللنزوح مسار مُعذَّب، وللميدان صولات، وللسارية رايتها،

وللوطن الجوانح والجوارح والسوانح، وللأمّة رسالتها، وللشّعر سرجه ومرجه وعُلاه، وللنّوازف الأخرى في الجسد العربي المترامي والمتهالك صرخاتٌ ونهدات؛ ولكن.. من يسمع الصوت؛ ناهيك عمن يستشعر الصدى؟!‏

وللضمير نداءات، وللمشاعر مُحفِّزات، وللأحاسيس مُحرِّضات..وهيهات هيهات!‏

لقد عاد مُهجِّروك الأُوَل، وأصحاب الغايات السوداء من حلفائهم ومسيّريهم، إلى إرثهم الفاجر، وفعلهم الشّنيع، يغيْرون ويعيثون في الديار العامرة خراباً، وفي الحياة الناهضة عكراً، وفي النفوس المشرقة شحوباً واكتئاباً.. لكنّهم هذه المرّة، نفثوا سمومهم من على التّخوم، وأشرعوا غلّهم، واعتمدوا – هذه المرة أيضاً – على الضالّين والفاسقين والمنافقين والغادرين من الأهل والجيران أكثر فأكثر.. ولعلّ في هذا ما هو أقسى وأَمَرّ!‏

في خروجكَ الأَوّل من ركنِ الوطن الشمالي، لواءِالاسكندرون السليب،إلى حضنه، ما يؤلِم لافتراقٍ قارس، وما يُحزِن لافتقادٍ لا يُعوَّض، وما يُعزّي، ما كان يعزّي، أنّك في قلب الوطن حللتَ، وعلى الرّحب والحبّ سموت..‏

وفي خروجكَ الأخير إلى الشاطئ الجنوبي من الوطن الكبير، ما يخيّب لأنّك ارتحلت، وكان الأَوْلى أن يحول دون اغترابك الذين تربّوا على أقوالك وأفكارك، المستفيدون من زمنك ورصيدك، المصفّقون لنبراتك الصادحة المجرَّحة، وحماستك المانحة، لكنّ في هذا التنقّل بين «الأقطار» متمثلاً الرسالةَ الخالدة، تأكيداً على أنّ بلاد العرب واحدة، وقد لقيتَ ما يواسي- ربّما – أو يخفّف على الأقلّ؛ فهل طاب لك المقام؟! إذ نسجتَ وشاحاً نديّاً متجدّداً؛ فأنت بأجنحة الشعر تحلّق، وفي بساط العروبة تحطّ، وفي أحيازها تتفتّح وتنتعش..‏

فماذا عن خروجكَ الأخير.. هذا؟!‏

كيف تميّز جهاتِ الأنين؟! ومن أين يأتيك الرّكب المودِّع، ومن يرفع يديه حاملاً نعشك الهودج إلى مثوانا الأخير؟! أو يخصّك بدعاء ورثاء، أو يكثّف لوعاتك وغلواء السنين؟! كثيرون يتمنّون أن يقوموا بذلك، ويرغبون بأن يقيموا الطقوس التي تليق بابن سورية البار، وابن العروبة الأمين، وابن الإنسانية المثال، في أوقاته الأخيرة؛ لكنّك تعذرهم، كما عذرتَهم من قبل؛ فالجهات كلّها -إلا قليلاً- مشغولة بصدّ النصال وردّ الغزوات تأتي من كلّ فجّ عميق، والدفاعِ عن «المحكومين» بجريرة الانتماء إلى الوطن والتعلّق به، والأركانُ منشغلة بِعَدِّ الضحايا والتعرّف إلى الأشلاء وإحصاء الفاقدين، وتوفير القوت للمحاصَرين بتهمة الإيمان بالحياة من دون تطرّف أو تكفير، وتأمين إيواء المهجّرين في الوطن، ومتابعة شؤون النازحين من الوطن وإليه في أحضان أليفة وأجفان راعشة، أو إلى خارجه؛حيث الاحتباس الشائك والبقاع الموبوءة بالأضواء والأنواء، والقول المنكَر، وفنون التدريب على القتل غير الرحيم، وهيئة المحسنين الطاعمين الكاسين!!‏

ويحزنك.. أنْ لنْ يصطفّ في مهرجانك الأطفال بلباس موحّد، وجباه مشرعة، وأيد ملوّحة،وهتاف موقّع، ولا يُنْشِدون ما كتبتَ لهم؛ فهم متفرّقون مبعثرون-أو بعضهم- يلتجئون إلى الزوايا، بعد أن عزّت الأحضان، ويلوذون بالكائنات الوحشية لتحميهم من كائنات «بشرية»؛ الأطفال الذين كم صدحت أجيال منهم بكلماتك المعبّرة عن أحلامهم وأمانيهم، وردّدوا بإيقاع محبّب مقاطعك الثرّة، لتنفتح أمامهم الدروب، وتخضرّ الضفاف، وتتشاسع الآفاق، ها هم لا يَنشُدون الآن سوى هنيهة أمان، وأويقة ألفة، و»فرصة» لعب، وفسحة قراءة.. ومنهم من حُمِّلَ السلاحَ، وسُوِّدَ قلبُه، وكُبّلت مَلَكاتُه، وصار سلعة في المزاد، أو يكاد، ودريئة للحقد والتشفّي!‏

لم تكن عصيّاً على الفهم؛ بل على الظلم؛ ولا قابلاً للانهزام والسكوت؛ بل صاحب الصوت المنبّه والرأي الناصع والموقف النبيل والسلوك المضيء.. وكنت قارئاً للتاريخ، بصيراً بما وراء الأكمة، وبما يحاك للإنسان العربي من شباك وأقفاص وأقنعة..‏

لعلّك في الطريق إلى.. لا تلتفت كيلا تموت مرات!‏

كيف لبعضٍ ممّن قرؤوك أن يَظلِموا، وقد ظلموا الوطن؟!‏

كيف يمكن لبعضٍ ممن عرفوك، وعايشوك، أن ينسوا، أو يتغافلوا، أو يتنكّروا للأرض والعرض؟!‏

كيف هانوا واستهانوا، وعاقّوا، ومكروا؟!‏

لعلّك تتساءل؛‏

لكن.. يمكن لروحك أن تتلفّت، فترتاح في مآبها؛ ففي أطراف السُّمَيْنة من يعزّ عليه ما بك، وفي السفوح قامات لا يرهبها الصعود، ولا ينال منها القنوط..‏

لعلّك من تحمي أهلك حيّاً و.. لا أقول ميتاً؛ فمثلك لا يموت، وسيبقى مثالاً لرجال رابطي الجأش والعزيمة، ثابتي «القلب والقدم».. حتّى يردّوا ما استجدّ من خسران في وطنك الغالي، وفي بلاد عريقة وشقيقة، ويقوّموا مااعوجّ وانعرج، ويشذّبوا ما تطاول وتخلّف، وما تأخّر الوصول إليه، وما يزال نصب القلب والرؤى والأنفاس.. ويعيدوا إلى مهدك هدهداتٍ عزيزة، وإلى تلك الربوع المنكوبة في الشمال الحزين، كما الجنوب الجريح، والجهات الأخرى المعكّرة.. دفقَها وشذاها وألقَها.. ولو بعد حين من الصبر والدهر.. ليهنأ «الخالدون»!‏
***

اترك رداً