الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: يوسف مصطفى
الناشر: جريدة البعث
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

العدد: 13575 – تاريخ: 2009-01-04

أوقات برية للأديب الروائي غســــان ونـــــوس الهموم الطالبية..السائد الاجتماعي..أحـــلام المثـال

بعد روايته: المدار، تقاسيم الحضور والغياب، ومجموعاته القصصية الثمانية: هامش الحياة هامش الموت، الاحتراق، ظلال النشوة الهاربة، دوار الصدى، أحمر أبيض، العائد، مفازات، خطايا، يطل علينا الأديب غسان ونوس بروايته أوقات برية..عدد صفحاتها مئتان وخمس عشرة صفحة من القطع المتوسط.
تبدأ الرواية:(شبه باب، وليل، وشبح مدينة) ص/5/، هكذا يبدأ الفصل الأول من رواية(أوقات برية، توحي هذه الاطلالة المطلعية بمستوى رمادي باهت للمكان الذي قصده الكاتب..فالباب هو شبه باب، والليل كامل السواد والمدينة تطل بهيئة/شبح/ مخيف، فهي ليست مدينة الراحة، والاطمئنان بالنسبة للكاتب، واطلالتها الشبحية هي انعكاس الغربة التي أحس بها الكاتب عند قدومه الى هذه المدينة ربما للدراسة الجامعية، لقد خرج من قريته، وبإمكانات قروية متواضعة لا تؤهله دخول عوالم المدن، وتقديم متطلباتها من سكن مريح، وتنقل وحاجات الطعام وسواها الكثير، انها غربة القادم الجديد للمدينة وإيقاعها.
يقول ص /5/:(أناس لا يفترقون كثيراً عن بشر نعرفهم، متشاغلين بأسباب الحياة..مشغولين بأطيافها) المجتمع (الحي) الذي يتحدث عنه الكاتب هو /حي/ شبه ريفي بإمكاناته وطرقاته..لعله الحي الذي قصده مع زملائه للسكن..انها أحياء /هامش المدن/ هذا السكن سعره مقبول للطلبة من ذوي المال القليل، فالأحياء الاخرى لها أسعارها، ولها طبقتها الاجتماعية…هنا يقارب الكاتب مشكلة السكن بالنسبة للطالب..كان السكن في غرفة هي جزء من غرف متراصة، متجاورة، متداخلة، قليلة الاطلالة، (منافعها مشتركة)…غالباً لها طبقتها الاجتماعية، وثقافتها البسطية، وأنماط سلوكها وعاداتها.
يقدم الكاتب /إيقاع الوقت والمكان/ الذي يحمل سمات الضيق، والحصار يقول: (الساعات المرتصة بالمحاضرات والمتابعة)حديثه عن مضي النهار:(الىما بعد انكفائه الخريفي المبكر) ص/5/.
(الفرص المغلفة بالعجز…المفازات المغلقة)…(أوحال تلح في المرافقة حتى الممر الاسمنتي الطويل)..(ضعضعة السيارات القليلة المضحية بالوصول الى مفترق الحارة بمنة وتبرم)ص/6/.
اشتغال الكاتب علىإيقاع المكان، والزمان حمل مستويين: المستوى المكاني الطبيعي، الغرفة، الطريق اليها، الدرب الموحلة، وغير المعبدة، ضيق المكان وغير ذلك..
المستوى الثاني: هو الايقاع النفسي الداخلي لحصارات المكان، وتجلياته في لغة الكاتب: الساعات المرتصة، انكفاؤه الخريفي، الفرص المغلفة بالعجز، المفازات المغلقة، أوحال تلح بالمرافقة، ضعضعة السيارات الخ.
انها لغة /المكان النفسي الداخلي وزمانه/ ودوائر حصاره المغلقة: لم تكن أيام فرح ..كانت أميل الى الرمادية…ربما كان التحصيل والنجاح هو المعوض عن هذه الاحساسات.
في مسألة المكان تحدث عن الماء، وملوحته، وعدم صلاحيته للشرب، وعدم امكانية شراء العبوات الجاهزة، وانتظار المياه، والدور في ذلك اذا صح..كم هي مسألة المياه هامة، وضرورية.
مسألة الماء والحاجة اليه، ومسألة الانتظار، وحرمان هوامش المدن، هنا دخلت /الرواية/ في أبعاد اجتماعية تفعيلية لعل قضية المياه أحدها..وكم نعاني من مشكلة المياه، والكهرباء، ويعاد انتاج هذه الازمة كل فترة وبدون مقدمات يقول الكاتب(ستصبرون سنين حتى يصل الماء الحلو) ..(هل الماء هو الشيء الوحيد المالح؟!) ص/9/.
ص/11/:(باب حديد مدعم ..الجدار الذي انسد أقل شراسة) الحديث عن باب حديدي ثقيل وضخم هو مدخل لمزرعة تعود لأحد /الأثرياء/ و(سعيد) المهندس الزراعي يؤدي خدمة العلم في هذه المزرعة(سعيد) هو أحدالابطال الرئيسيين في الرواية وهو/نمط بطلي حالم/..يتمنى التغيير الاجتماعي، ويحلم به، ويتحدث عنه لكنه البطل العاجز، والمتردد، والذي هو في المحصلة لا يستطيع ان يفعل شيئاً سوى ان يحلم ويتمنى.
كل تغيير يحتاج تعاون الجميع، وحركة /الأنا الجمعي/ والارادة والفعل أما الاحلام الفردية فلا تصنع شيئاً، وهي حبيسة خيالات صاحبها /سعيد/ ليس أنموذجاً استثنائياً..بل هو أنموذج للكثيرين الحالمين، والعاجزين عن الفعل.
في اشتغال الكاتب على التفاصيل اليومية تظهر أزمة/المفتاح/ فللغرفة مفتاح واحد يتداوله الطلاب الثلاثة الساكنون للغرفة، والمفتاح يودع عند الجيران، لان توقيت ذهابهم للجامعة والعودة مختلف..وكثيراً ما ينتظر أحدهم اذا نسي الآخر المفتاح في جيبه.
كان هذا هو مستوى المقاربة /للمفتاح/ أما المفتاح في الاشتغال الروائي فهو رمز كبير..فلكل عمل مفتاحه ولكل شخصية مفتاح للدخول عليها، ولكل موصد من الأبواب مفتاحه، ولكل ضيق مفتاح للخلاص اما سعى له صاحبه.
كان للتداعيات الشبابية وأحلام اليقظة، ومسائل الجنس هامش في أحداث الرواية، فهناك من يقف على شباك أو سطح ليرى فتاة، فيومىء لها، وقد تبادله الايماء، وهناك من يحاول الحديث مع فتاة مارة قد ترد عليه أو تلقيه بنظرة ازدراء.
وهناك الانماظ الشبابية المستندة على الأرصفة والجدران ناظرين لهذه أو تلك من العابرات..انه نوع من الانشغال الشبابي الشرقي وبأعمار لها ظروفها، وحراكها..ربما أراد الكاتب من تقديم هذه الشرائح ان يطرح المشكلة الشبابية، ومشكلة الآخر الأنثوي، وأنماط السلوك الفج والمباشر والسطحي في فهم الآخر الأنثوي، ومقاربته، والاشتغال على قضايا الشكل بدل طرح بدائل علائقية أرقى في مستوى الخطاب والتعاطي، ولكنها تحتاج أنماطاً تربوية وثقافية، ومسائل أخرى.
بقية شخصيات الرواية أبو غسان أنموذج اجتماعي عادي ، يحن الى القديم، الى الأصل والجدود، الى أشياء يفتقدها..في المحصلة هو في غربة وحلم أيضاً.
أما/صالح/ والاسم عكس الشخصية إنه شخصية قلقة من أسرة مفككة يبحث عن حضور..له مشاكله يعتقد انه بمشاكساته يستطيع ان يحقق بعض الحضور، وهو أنموذج لشرائح شبابية تعاني قلقها، وتعوضه بأنماظ سلوكية دون ان تهتدي لطريقها،وتبقى أيضاً في حالة الضياع.
أما/سعدون/ فهو طالب في كلية الطب قُبل عن طريق/القفز المظلي/ وأصبح طبيب الحارة الهامشية، ولا زال طالباً…وكم من الناس يمارسون مهناً لا يتقنونها..
/أم أحمد/ صاحبة المنزل هي متسلطة يحاربها زوجها بعلاقته مع أخرى، /امرأة الركن/ هي عاهرة الحارة..وقد انتقم منها الجميع فهي في موقع الضحية..هذه النماذج الاجتماعية هي موجودة في غالب الاحياء، والمدن، والقرى وغيرها..ولكل همومه ومشاكله ومعاناته.
في الرؤية النقدية للرواية: تناولت الرواية بعض هموم الدراسة الجامعية، والسفر، والسكن والعلاقات والحاجات المادية، والمشكلات الغرامية الشبابية…هي بمعنى ما رواية(ذاكرة) ونوع من التوثيق الروائي لمرحلة، ولأنماط من السلوك القلق، وغير متبلور الملامح، وسط حراك حياتي قوامه المصلحة، والبحث عن الخلاص الشخصي.
المجتمع الذي قدمته الرواية ليس مجتمعاً مرتاحاً، هو مجتمع منهمك في شؤونه ولقمة عيشه، وضغط ايقاع الزمن، والانتظار، وهو نمط اجتماعي سائد وقائم في المشاهد الاجتماعي.
اشتغلت الرواية كثيراً على قضايا التفاصيل اليومية، الاستيقاظ المتأخر، اللحاق بالسرفيس، حصول غلاظة بعض الركاب، الوضع النفسي والعصبي للطالب الذاهب الى الامتحان، الوصول قبل توزيع الاسئلة بقليل..عثرات المسار اليومي وفي غالب المواقع.
حضور الطبيعة والوصف الرومانسي، لعل التركيز على الطبيعة، والوصف هو التعويض عن الاحساس بحصار الواقع، والبحث عن فضاء آخر، وعن مساحات للانعتاق.
هي رواية اللغة الجزلة، والاستعارات البلاغية الملفتة، ودقة رسم المشهدية المحيطية بانعكاسية نفسية هي داخل الكاتب، وتعبيرات لغته.
لامست الرواية بعض الخلل، والتجاوزات وعمل الخريجين الجامعيين وغيرهم وبنوع من الجرأة، وقالب السخرية الهادئة.
الابطال في الرواية هم في موقع المشاهدة، والاحساس وعدم الرضا، لكنهم عاجزون عن فعل شيء وشخصية/سعيد/ هي الانموذج البطل السلبي غير الفاعل /وغير القادر، وغير المبادر، وآلية تشكل هذه الانماط السلوكية العاجزة والمتفرجة.
في اللغة والتعبير يقول:(وقع ضاج) ص/79/ (انغلق الباب بصدى مدوم أوغل في الذاكرة)ص/11/ (أوغر انفاقاً مظلمة لم يجفّ نزها)ص/5/(يكاد الصباح يتهاطل كآبة حين تتحسسه بحذر من الفرجة الضيقة خلال الباب) ص/25/ (الزحمة قاموس يهيمن)ص/85/ لكل هذه التعابير فضاؤها الدلالي، ولغتها وجرسها، وايقاعها الخاص.
(أوقات برية) لم تكن رواية الضجيج، والأحداث الكبيرة، والبطل الواحد..هي رواية مسارات مختلفة، وأنماط اجتماعية مشاهدة وقائمة، أشخاصها عرفهم الكاتب، وتحدث اليهم، وفهمهم، هم بغالبهم من طبقة القاع الاجتماعي وهمومه وانشغالاته.
كانت الواقعية حاضرة في الرواية، غاب السرد التخييلي، الكثير مما ورد من أقوال كانت خلاصات حكمية أراد ان يوصلها الكاتب يقول ص/127/ (الرغبة لا تعرف عمراً).
(الكهل ينعطف كل حين الى امرأة الركن) ..(الرغبة أس الحياة ودافعها الرئيسي)..في مسألة دعوة المرأة الى التحرر يقول:( صاحبات الدعوة هن من غير الجميلات)، (ما زلت أعتقد ان المرأة تخطئ حين تود ان تكون رجلاً…وتخطئ أكثر حين لا تعرف تحديداً ماهية الرجل الذي تود ان تكونه).
أخيراً في تسمية الرواية( أوقات برية) فزمان الرواية ليس زماناً حضارياً قيمياً انه زمان حراكه الاجتماعي أقرب لنمط علاقات البرية، علاقات الأقوى ، الغرائز، التملك، التقلب، وغياب الاصيل والجوهري، قد تكون الاوقات البرية هي بعض أحلام (سعيد) البطل المثالي الاحلام في ان يعود الى بريته وصفائها بعيداً عن تجربته في ضجيج المدينة وعلاقاتها وبالتالي هروب العجز عن الفعل.
غسان ونوس المهندس القاص، والروائي والشاعر يحفر بهدوء وروية، وتأمل ويحمل هاجس البحث عن الانموذج والمثال.

يوسف مصطفى

2007 جريدة البعث جميع الحقوق محفوظة Powered by Platinum Inc.

اترك رداً