ننخدع أحياناً بالعنوانات الكبيرة، والشعارات الملوّنة؛ فنؤخذ إليها، أو إلى حامليها، ورافعيها، من دون كثير تفكير، أو كبير اقتناع. وحين نبدأ التخويض في مساراتها الواقعيّة، والتعامل مع العناصر، التي تمضي بها أو إليها، نكتشف المطبّ، أو الورطة، إذا ما كنّا نابهين أو موضوعيّين، أو بلا حجب من اندفاع وحماسة، وقد لا نكتشف ذلك إلّا بعد حين، فنكون قد أضعنا الكثير من الهمّة والجهد والطاقة والعمر. وقد يصعب علينا التمرّد بضجيج؛ خوفاً من مواجهة، مطعون في مشروعيّتها “الأدبيّة”: لماذا الآن؟! وأين كنت؟! هل انتهت مصلحتك، أم يئست من تحقّقها؟! وربّما كان الخوف من الشماتة أعظم! فيتمّ الانسحاب بهدوء، من دون صخب، وإعادة التفكير في ما كان، وما يمكن أن يكون.. وقد لا تكون الاحتمالات الأخرى أفضل، إذا ما كانت رغبة في تغيير العنوان والمسار، من أجل الهدف؛ إذا لم تكن قد هدأت الجذوة، وخابت الإشعاعات، وما زال في الروح والعزم بقيّة؛ وهذا أمر مفهوم ومقبول وممكن، وهو مختلِف عن حالِ من دخل المعترك، وهو يبحث عن موقعٍ ومصلحةٍ وظهور؛ فإذا لم يجدها، تنصّل من تعهّداته، وأهدافه، التي نادى بها، وانتمائه الذي كان يقاتل به، ومن أجله، وأسّس تجمّعاً أو تيّاراً أو موقعاً، يضمن له ما كان يفتّش عنه، ويمارس فيه، ما كان يشكو منه في حيّزه الأوّل- ربّما- وقد ينتقل إلى جهة معاكسة؛ لـ”يناضل” بالشراسة ذاتها!
وهذا أيضاً لا يدخل في إطاره من يريد من الآخرين أن يكونوا كما يريد، وأن ينطبق إيقاعهم على وقعه، ويوافي طنينُهم طنينه؛ لتهزّ أرجلهم القيعان الراكدة، وتخلخل القواعد الراسخة منذ حين من الدهر، لم يتجرّأ أحد على التفكير فيها، وفي مقدار جدارتها للأيّام المعاصرة والأفكار المستجدّة، ومقاومتها للظروف، وقد اختلفت الأدوات، وتنوّعت المؤثّرات؛ معرقلةً كانت أم مواتية، محفّزة أو مثبّطة؛ لكنّ أمر نجاحه مثار تساؤل، واستمراره في محاولاته اليائسة مشكوك فيه، من دون عوامل مساعدة، ومؤثّرات مستجدّة؛ بالرغم من التأثير، الذي قد يتركه في المسار التاريخيّ للقضيّة.
ولا شكّ في أنّ الإحباط، الذي قد يتولّد نتيجة عدم انطباق حساب الزرع على حساب البيدر، قد يكون كبيراً، بحجم الوهم الذي كان، أو الحلم الذي ارتسم ذات يقظة أو سهوة، أو نشوة! لكنّ هذا الإحباط، يجب ألّا يزيد الصدوع والشروخ والتآكل في الذات، التي تتشظّى، وتفقد الثقة بالنفس وبالآخرين وبالجدوى.. لأنّ المشاهد لن تكون ورديّة؛ كما ارتسمتها التصوّرات؛ والناس ليسوا ملائكة؛ كما يتحدّث عنهم مريدوهم، أو كما يُظنّ بهم بنيّة حسنة، أو بأمل ورجاء، والبشر في أيّ مكان وزمان، خطّاؤون، وليسوا من جبلّة واحدة مكتملة الشروط والعناصر والخواص، وليسوا منقسمين بوضوح إلى مؤمنين وكافرين (بأيّ معيار)، وأخيار وأشرار، وليست قضاياهم مبتوتة، ومواقفهم ناجزة، لا يبدّلون ولا يتبدّلون؛ بل إنّ في كلّ منّا جوانب مضيئة، وأخرى عاتمة، ومتينة متماسكة مقاوِمة، وأخرى ضعيفة هشّة قابلة للتشوّه والتصدّع، ولنا رغبات ونزوات، وإرادة بعضنا صلبة؛ فيما يمكن لبعضٍ أن يستسلم، أو لا يواجه.. وخصالنا وخواصّنا، تختلف نسب جودتها حسب المكوّنات الخَلقيّة والخُلقيّة، والمورّثات، والتربية، والمعطيات، والبيئة، والمشاهدات، والخبرات..
ومن الطبيعيّ أنّ لدى آخرين الحال نفسها، بنسب متفاوتة؛ فإذا ما كنّا مقتنعين بما نريد، وبالسعي إليه، بأمل محاولة تحقيقه، ولدينا من الإرادة والثقة والعزيمة والاستعداد للتضحية.. ما يكفي؛ فإنّ انهداماً هنا، وارتداداً هناك، وتبدّلاً في المواقف، وتغيّراً في السلوك… كلّها أمور يجب أن تكون متوقّعة، وأن نكون مستعدّين لها؛ بالرغم من أنّ حالات كارثيّة قد تظهر، لم تكن محتملة، أو لم يكن محسوباً حسابها…
***
غسّان كامل ونّوس
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد العدد 18
تاريخ النشر: 2017-11-15
رابط النص الأصلي: www.almawared-mag.com