أضعف الإيمان
أستميحُكَ العذر؛ ولا عذر!
ها أنا تحت رحمة إحساساتك المباركة، وفي ظلّ مشاعرك الفيّاضة، وفي ثنايا خفقك الأثير، ونبضك الحميم.. أعترف بأنني لم أكن على قدر الحادثة، ولم أصل إلى عتباتك القدسية، أيها الصامد الصابر الفاقد الفقيد!
فهل يكفي أن أحس بالأسى على أوقاتك البائسة، وأحزانك الراعفة، فيما أمارس فعل الصمت القارس؟! هل يكفي أن آسف أو أنكمش، وقد أغمض عينيّ وأصمّ مساماتي عن مشاهد امتهان الجسد وانتهاك الروح؟! هل يجوز أن نتجاهل الوقائع، ونقفز فوق الأحداث، ونتجاوز مآسي الناس، ونغيّر الموضوع.. بأيّ حجة أو علة؟!
أين أذهب من عذاب الضمير الذي يلحّ، حين أرى أخوة لي، مواطنين في أي ركن من سورية العزيزة، يُهانون ويُظلمون بلا سبب أو جرم؟!
لستُ قاضياً؛ لكن للحقّ أدلة وشواهد؛ فهذا جاري، وذاك قريبي، والآخر زميلي في الدراسة أو العمل أو المهنة.. ولهؤلاء أهل ومعارف وأصحاب سواي، أعرفهم أو يعرفونني؛ ولسواهم أناس عزيزون وأحباب.. وهم مواطنون أيضاً، ولهم عواطفهم وأمانيهم.. قد لا أعرفهم، ولكنني أعرف أن الهمً واحد، والأمل واحد، والدعاء.. هل يكفي؟! حتى لو دعوت معهم، لهم، لي، هل هذا أضعف الإيمان؟! وهل يكفي؟!
لم أقم بما يجب، عليّ أن أعترف؛ لم يطلب منّي أحد ذلك؟! لا علاقة لي بما يجري مباشرة؟! لا أحد يسمع مني أو يأخذ برأيي؟! ربما.. ولكن؛ أنا مواطن في هذا البلد، عليّ واجب تجاه الوطن وأبنائه، وتصيبني، وقد تصل إليّ سوءات المجرمين؛ لست في برج عاجي، ولا في قصر منيف، ولا في محمية طبيعية أو بشرية!
لم يكن لي دور في ما كان، لم أشارك في ما حدث، لم أنحز إلى أي طرف، لم أدلّ على أحد، ولم أدافع عن أحد؛ لهذا لست في وارد الخوض في المشروع أو الموضوع، حتى لو كان حديثاً، حتى لو كان إصغاء! ولكن أين أهرب من الأصداء، والتبعات؟! هل أستطيع أن أواري نظري عن الشاشات المحلية والإقليمية، أقلب المحطات التي ترتفع فيها آهات النادبين، وتتعالى أصوات الفاقدين، وتتهاوى نداءات الملهوفين؛ أنفر من الأخبار الواقعية والمصنّعة، والمقابلات المُرضية والمستفزة، والتحليلات التي توثّق، أو تسوّق، أو تلفّق..
ولكن، ألست في حاجة إلى مواد للعيش، لاستمرار العيش؟! ألست في حاجة إلى انتقال، أنا أو أي من أفراد أسرتي؟! ألست أحتاج إلى سمير أو جليس أو أنيس؟! وإلام أستطيع أن أصمد وحيداً؟!
أليس في محاولتي الهروب أو التهرب جهد وتعب وإرهاق؟!
أليس في مغالبة الأفكار، والمناورة مع النفس والرغبات، والتحايل على الوقت، قدر كبير من الخوف المكتوم؟!
الخوف شعور إنساني، تحسّه، بتّ تحسّه، وأنت بعيد عن كلّ شيء، كنتَ تظن ذلك، فكيف الحال بمن يقف في حاجز يحمي العابرين، أو يتأهّب ليعبر حاجزاً يمكن أن يكون مزيّفاً، أو يترقّب أيّ هجوم في بيته أو مؤسسته أو مدرسته، أو يتوقع أيّ طلقة أو قذيفة.. من أيّ جهة أو مكان؟!
كيف تمر الثواني، الدقائق، الساعات، الليالي والنهارات، على من يحضن أطفاله، أو يشغلهم، أو يهدّئ من روعهم وأسئلتهم وحاجاتهم وقلّة نومهم؟!
كيف يعيش من يخشى الاختطاف؟! من اُختطف وينتظر التنكيل والتعذيب، أو ما هو أقسى، إذا كان من انتظار؟!
كيف يحس العابر في طرق غير آمنة، وفي أوقات متفرقة؟! وهل يضمن غنيمة الإياب في الرحلة التالية؟!
لماذا يغامر بنفسه وحياته ومصيره، هذا أو ذاك؟! لأنه مضطر، ولأنّ الحياة تستمرّ، ولأنه بذلك يضغط على أعداء الحياة، يتحداهم، يعيش متعة الفعل، ويشحن طاقة الحيوية، ويحس بقيمة الإنجاز: إنه بقي على قيد الحياة أطول فترة ممكنة، وظلّ فاعلاً ومتحرّكاً رغم أنف المعتدين المتربصين الجبناء؛ لقد حاصر حصارهم، وأبطل ادعاءاتهم، وقلّل من سطوتهم، وبدّد هيمنتهمم على المنافذ والأنفاس، حتّى إن استمرت أياماً في هذا الحي أو ذاك الطريق، أو تلك المنطقة!
حتّى إنْ حصل له مكروه، فقد نال عزّ الشهادة وكرامة القضاء بلا انهزام أو استسلام!
خوفه إنساني، وخوفي جبان؛ خطوه مواجهة وانزوائي نكوص، صمته ضجيج وسكوتي موات، كيانه تقدُّم وقامتي انحدار، مصيره مبارك وقدري سقوط، صداه ضياء وسيرتي انطفاء!
ترى ماذا أنتظر؟! ولماذا لا أقوم بشيء ما؟! من أجل أحد ما، من أجلي!! فإلام أدع المكارم، وأقعد طاعماً كاسيا؟!
لم يفت الأوان.. لماذا لا أتقدّم بمبادرة، أية مبادرة، تخفّف، قد تخفّف من بلوى أحد؟!
أليس هذا الاعتراف دليلاً على أن حياء ما يزال، وإحساساً، وشعوراً.. وما تزال حياة؟!
***