حين تتشارس المواجع على المرء، وتتفاقم فيه الأمراض، وتتكاثر البؤر المجرثِمة، وتتصدّع نوى التحصين الذاتي، وتتهاوى قلاعه المنظورة، وتتهشّم دشمه المستورة، ويقف الأطباء والحكماء والخبراء عابسين حائرين، وتضيع الثقة بهم وبقدراتهم على المواجهة المثمرة، والعلاج المجدي.. يلجأ هذا الكائن إلى الأولياء، الراحلين منهم والأحياء، الذين يضمنون له –كما يعتقد أو يتمنّى- إيصال رجاءاته إلى الملأ الأعلى، ويحفظون استغاثاته، أو يبقونها بعيدة عن المساومة والمتاجرة؛ حتّى لو استغلّ بعض وسطاء الآخرة الحالة- كما سُعاةِ القضاء الأرضي- و”اجتهدوا” في الاستفادة من العطاءات، التي تبقّت لدى هذا المحتاج إلى نظرة وشفقة ورحمة، قد تأتي من غامض علمِه!
وحين تشتدّ الأزمة، وتنسدّ الآفاق، ويخبو الأمل، ويخيب الرجاء بالقادرين على الفعل، و”القائمين عليها”، وتؤول الإجراءات المتّخذة إلى عبث، والمبادرات إلى لا جدوى، ويعيث الفجّار همجيّة واستباحة، ويتغوّل الفاسقون والمارقون والجاحدون في الأرض والعرض، وتضجّ الأركان بالأصوات الناشزة، والإيقاعات المنكرة، وتوقَر الأسماع والمسامات بالفحيح واللهاث، ويسود التملّق والاجترار والنفاق، وتترك السبل مفتوحة للغازين من “كبار القوم”، وتابعيهم من المحتاجين والجاهلين والعاقّين، والقادمين بلا وطن ولا انتماء، وشذّاذ الآفاق… لا يبقى أمام الكائنات القانطة العاجزة البائسة، سوى الاستعاذة بالله القادر على كلّ شيء من شرّ الناس، وما من سبيل لديهم إلا القيام والقعود، والدعاء والابتهال إليه أن يغيّر الحال، ويرفع الظلم عن عباده الضعفاء القانتين، ويردّ كيد الكائدين!
وحين تُنكَب مؤسّسة بفساد مزمن، ويستوطنها مسؤولوها، ويسودون ويهيمنون، ويرتّبون أسسها على أن يؤول خِراجها لهم، أو لمن يؤمّنونه من أتباعهم، أو ظلالهم، أو أشباحهم، أو أبنائهم النجباء، وذرّيتهم الموقّرة، ويكون باستطاعتهم أن يكتبوا ما يُرضي، ويتجاوزوا ما يعكّر، ويقدّموا التقارير الغاصّة بما أَنجزوا، وما يفيدهم، بصرف النظر عن النتائج والجدوى، ويوثّقوا ما يشاؤون، لا ما هو واقعيّ، ويمكن أن يَتّهموا، ويكذِّبوا، ويُدينوا، ويحاصِروا، ويرغّبوا؛ لأنّ الأقلام ما تزال في أيديهم، وما يزالون في الموقع الذي يحميهم من المحاسبة والمساءلة؛ ويغدو من غير المأمول أن تتحرّك المياه الراكدة، إلّا إلى البِركة ذاتها؛ فالمجاري والمفارق والشارات، تعيد كلّ شيء إلى مصدره المعكّر، وبؤرته الآسنة! حينئذ لن يكون بالإمكان عقد الآمال على التغيير الحقيقيّ المأمول، أو المطلوب، أو المُنادى به رسميّاً، أو شعبيّاً، ذاتيّاً أو جمعيّاً. ويكون من باب الضحك على الذقون، القول ببراءة: إن النتائج جاءت نتيجة “الديمقراطيّة”، وقد يكون هذا صحيحاً، وبلا تزوير؛ حينئذ يكون الاهتراء قد استشرى، والداء قد تفشّى، والخواء سيّد، والهوان استبدّ. ولا يبقى إلّا أن تتدخّل المرجعيّات الأعلى، تلك التي تعرف، وتُشرف، لكي تقوم بانتزاع القيادة المستوطنة، المستنسخة، بأنظمة داخليّة تُنتهك وتُخترق وتعدّل، وقدرتها على القيام بذلك مختبرة وموصوفة، ويمكنها أن تمارسه بسلاسة وكياسة لا تخفى على المتابعين، ولا على الموافقين بلا رأي ولا موقف ولا مسؤوليّة؛ كما لا يخفى التغافل والسكوت والموات!
لعلّ مثل هذا التدخّل “غير الديمقراطي”، الذي يمكن أن يتمّ بلا ضجيج، لإحداث التغيير المرتجى، ومحاسبة المرتكبين، وإعادة الهيبة والأمل والثقة، هو الحلّ الوحيد، لما تعاني منه مؤسّسات عديدة؛ فآخر الدواء الكيّ!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: فارس العرب ع 202
تاريخ النشر: 2015-12-15