يتجاوز مفهوم المصطلح المعنى المباشر، الذي تحيل إليه الكلمة، أو الكلمات، التي يتشكّل منها، ويستدعي أفكاراً ومقولات ومواقف، في زمن استعماله، أو أزمنة لاحقة، تقصر أو تطول. وقد يضيف إليه استعمالٌ جديد، في أوانٍ مختلف، معانيَ أخرى، من دون أن يكون المقصودُ منه محدّداً تماماً بالضرورة؛ بل قد يكون لبعضٍ مصلحةٌ في عدم تحديده؛ لاستعماله حسب الطلب والغاية. وفي الغالب، يكون هؤلاء من أصحاب النفوذ بأشكاله وإمكانيّاته، ومساحة تأثيره، وتكون معاييرهم مزدوجة، ومضلّلة؛ فقد تكون المصطلحات محوراً من محاور الاستهداف، وساحة للمواجهة، التي قد تبقى باردة؛ تمهيداً وتحضيراً، حتّى تسخّن في وقت معلوم، وفي جهة منظورة؛ وللأسف، فإنّنا سرعان ما ننفعل، ونتسابق إلى ممارسة المطلوب من إطلاق المصطلح، وتعميمه، وتسويقه؛ منساقين خلف الدعاية والإعلام والإثارة؛ كما تكون لنا مصطلحاتنا، وتعابيرنا، التي يدخلون إليها؛ فيفرّغونها من معناها الإيجابيّ أو المألوف، وتُشحن بما هو مخالف او مناقض…
وتكثر المصطلحات في الأوقات الصعبة؛ لأنّها أداة مهمّة للتأثير في الرأي العام؛ ولأنّ الناس منشغلون ومنفعلون بما يجري وما يُشاع، ويمكن أن يتقبّلوا ما يُطرح، بلا كثير تفكير، أو تحليل، أو البحث عمّا أو عمّن وراء ما يبثّ بكثافة وإلحاح.
إنّ المصطلح: “إسقاط النظام”؛ مثلاً، الذي اجتاح الساحات والمنابر، مع بداية الحرب على سوريّة، على أنّ “الشعب” هو من يريد ذلك، يعادل تماماً المصطلح: الفوضى “الخلّاقة”، الذي خرج من أمريكا قبل سنوات، وليس المقصود بـ “النظام” هنا شخصاً أو مؤسّسة؛ بل الأسس والمبادئ والأخلاق والقوانين… التي يصبح من يُسقِطُها من حسابه بهيميّاً، يمكن أن يقوم بأيّ فعل، وأن يساق إلى أن يمارس ما يراد منه؛ قتلاً أو تخريباً، بلا أدنى تفكير، أو شعور بالذنب أو الخسران.
كما أنّ لمصطلح “الاعتدال”، استعمالات مضلّلة، وغايات قاتمة؛ للحدّ من قوّة الإيمان بالوطنيّة والمقاومة ضدّ أيّ غزو، أو تدخّل، ولإضعاف الحماسة والشعور والاستعداد للقيام بما يلزم؛ لحماية للبلد، وتطوير الأفكار وتعميقها؛ ولقبول بعض الخارجين على الوطن، المسيئين له حتّى في حمل السلاح، والمدعومين من القوى الخارجيّة، التي خطّطت ونفّذت، وتنفّذ ما ينسجم مع سياساتها العدوانيّة للشعوب والدول، التي لا تنصاع إلى مآربها…
ولا يقتصر الأمر على ما يردّده الآخرون في حقّنا؛ بل إنّنا نقول ما يبالغ في التوصيف، إلى درجة التسبّب بعكس ما نريد، ويترك آثاراً سلبيّة بلا واقعيّته، ولا منطقيّته؛ فما نتعرّض له ليست “حرباً كونيّة”، يقوم بها سكّان المجرّات كلّها؛ لأنّ أكثر من نصف سكّان الأرض في جانبنا، ولا يعني وجود مسلّحين غازين من هذه الدولة أو تلك، أنّ الدولة كلّها، مع مواطنيها ضدّنا! إضافة إلى أنّ البيئة التي يظهر فيها الإرهابيّون ويحاولوا الاستيطان، لا يمكن وصفها بـ “الحاضنة”، حتّى لو لاقوا بعض الترحيب أو المساعدة؛ لأنّ الحضن يوحي بالدفء والحنان والأمومة، وهذا لا يمكن أن يكون مع عصابات إجراميّة؛ فلا يمكن أن تحتضن شوكاً أو نواتئ أو متفجّرات جاهزة للفتك بالمواطنين أبناء البيئة ذاتها.
ويجري استعمال كلمة الثقافة في غير مدلولاتها الإيجابيّة؛ مادّيّاً: “التشذيب والتقويم”، ومعنويّاً: “الحذقُ والفطنةُ والإبداع”؛ فلا يصحّ أن نقول: “ثقافة الهزيمة”، أو “ثقافة الاستسلام”، أو “ثقافة التطبيع مع العدوّ”، أو “ثقافة الفساد”… ويمكن أن نقول: “ثقافة المقاومة”، “ثقافة المواطنة”، “ثقافة الحوار”…
ولا يجوز التداول بالـ “أقلّيّة” والـ “الأكثريّة”، فيما يخصّ شريحة محدّدة من المواطنين في الوطن؛ فالجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات؛ بصرف النظر عن انتماءاتهم الأخرى المنسوبة إليهم، خارج الوطن أو داخله!
تلك أمثلة معدودة لكثير ممّا هو مُثار ومُشاع، ولاسيّما في أجهزة الإعلام العديدة، التي تعيد القول مرّات مرّات، وفي برامج ولقاءات وتسجيلات؛ لترسيخه في الذهن، ولجعله عاديّاً مقبولاً لدى المتلقّين.
ولاشكّ في أنّ نسبة التأثّر بالمصطلح، تختلف من شخص إلى آخر، حسب المناعة المكتسبة؛ هذه المناعة التي تؤمّنها الثقافة المتشبَّعة المؤسِّسة والبانية للفرد والمجتمع؛ فلا يؤخذ أيّ كلام مغرض، أو محرّض، أو تيئيسيّ، وفق ما يريده مطلقوه، بلا تأمّل وتعليل.
إنّ ضعف الحصانة الذاتيّة والمجتمعيّة والمؤسّساتيّة، يأتي من الأسلوب التلقيني التقليديّ في التربية والتعليم والتأهيل والتدريب؛ والاعتماد على أفكار الطاعة؛ بدلاً من القناعة، والتسليم بدلاً من التساؤل والمناقشة؛ والفكر القابل بما يأمر أو يوجّه به “الكبير” القريب والبعيد؛ بل المنتظِر لِما يقوله؛ كائناً من كان، ومهما شحّ مستواه، بلا تفكير نقديّ لأيّة أقوال أو أفكار، أو مستجدّات؛ والسكوت على الجهل، والمديح غير المستحقّ؛ وهذا في معظمه من نتاج الخطاب الدينيّ التقديسيّ الفوقيّ، والأساليب التي تعتمد على الحفظ الببّغائيّ؛ للحصول على العلامة، والحذر أو الخوف من التعبير عن الرأي الشخصيّ، أو الموقف الذاتيّ، الذي قد يختلف عن السائد والراكد، ويُفترض أن يجعله يتحرّك ليتجدّد، وليتخلّص ممّا صار بالياً، من صيغ ووسائل وطرائق ومقولات…
إن للأسرة، وللمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة والتربويّة والاجتماعيّة والحزبيّة، أدواراً مهمّة، في تغيير كلّ هذا، ومن ثمّ في عدم قبول المصطلحات أو ترويجها باستعمالاتها السلبيّة، ولا بدّ من شرحها، وبيان أخطائها، وأخطارها وتصويبها باستمرار، والوصول إلى الناس؛ كلّ الناس؛ حيث يقيمون، ويعملون، بأيّة وسيلة… وهي مهمّة لا تتوقّف على الكوارث والأزمات، التي تكون فيها ملحّة؛ بل إنّها عمل استراتيجيّ متّصل في جميع الظروف والأوقات…
***
غسّان كامل ونّوس
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الوطن السوريّة- العدد 2807
تاريخ النشر: 2018-01-04
رابط النص الأصلي: http://alwatan.sy/archives/133932