الفئة: نصوص هندسية
الجنس الأدبي: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة المهندس العربي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

كلمة العدد
أبغض الحلال!
غسان كامل ونوس

ينصرف الاهتمام عادة لدى أيّ مراجعة أو نظرة مستقبلية إلى أصحاب الفئة الأولى من العاملين في أيّ مؤسسة أو دائرة أو شركة.. وهذا طبيعي؛ لأن المركز يظل نصب العين وملء السمع ونبض الفؤاد، بما يظهره من أناقة واهتمام وتجهّم وحصانة! ومن الطبيعي؛ أن درجات المسؤولية العليا تقترب أكثر من هذه الصفوف الأولى، وينشغل الحديث المهتمّ بهذه الشريحة منذ تشكّلها؛ بل قبل ذلك؛ ففي الشهادة الثانوية تتمايز الفروع بدرجات القبول في الجامعة، وتتميّز سمعة وتداولاً وتفاخراً! أما من لا يدخلون أيّ فرع جامعي، فسيُكرهون على دخول المعاهد، ولا سيما تلك التي لا تلتزم مرجعياتها بتعيين خرّيجيها، وتكون الدراسة فيها كأبغض الحلال؛ ناهيك عمن لا يحقّ لهم ذلك، فسيتوزّعون في الورش والمشاريع والأعمال (الحرّة) الأخرى داخل البلاد وخارجها! ومن غير الطبيعي ترك هذه الكائنات الإنسانية إلى مصائرها المجهولة!
ولعل من المفيد تذكّر تلك الخطط التي وضعت على عجل لتحويل نحو ثلثي طلاب المدارس الرسمية إلى التعليم الفني، ما أدّى إلى ضياع نسبة كبيرة منهم لعدم الجدّيّة في التعامل مع هذا المجال الهام من التحصيل والعمل؛ ربما كان للمبالغة والتسرّع
وضعف البنى التحتية و(وسواس) الوظيفة والمنصب أدوار في ذلك التشوّه، الذي أدى إلى إعادة النظر في الخطة بعد سنوات، حتى لو كانت النوايا حسنة، والفكرة مأخوذة من دول متقدمة علينا أشواطاً.
ويعرف المهندسون أكثر من سواهم أهمية هذه الشرائح من الفنيين، والعاملين في المهن المتعددة، والعمال العاديين، في حسن سير العمل، وجودته، وتوافق مكوّناته، وانسجام عناصره، ومرونة التحرك في جبهاته، نظراً لاتساع مساحات المشاريع، وتنوّع الأشغال، وتعدّد المواقع، وارتباط المراحل، والحاجة أحياناً كثيرة إلى عدد كبير من العاملين، مع اختلاف درجات تحصيلهم وتأهيلهم وبيئاتهم و(ثقافتهم) التي تحدد التزامهم وإخلاصهم ورغباتهم في الأداء المناسب والإنجاز المطلوب؛ سواء أكانوا من مِلاك المشروع موظفين أو متعاقدين، لهم ظروفهم ومتطلباتهم وهمومهم، أو كانوا ممن هم من خارج الملاك، يستعان بهم لإنجاز أشغال محدّدة ولفترة محدودة، ولهؤلاء شروطهم ومشكلاتهم أيضاً.
وإذا كانت الامتيازات والمظاهر والعلاقات والمنافسات الشريفة وسواها تتكاثف في المستوى الأول، فإن وسائلها وعناصرها وساحاتها تتوزّع في المستويات الأدنى، وتكون الشرائح الأخرى هي الأدوات؛ بل الوقود الذي لا يتورع الكثيرون عن استخدامه واستغلاله إلى أقصى درجة ممكنة! وقد فات الكثيرين من المسؤولين أن عاملاً فنياً مهمِلاً أو مهمَلاً يمكن أن يعطل عملاً هاماً، وأن عاملاً عادياً يمكن أن يثير مشكلات كبيرة في مجال وجوده، ويتغافل الكثيرون عن أن لهؤلاء مشاعر وأحاسيس وعائلات؛ أي أنّ لهم كرامات لا تنبغي الاستهانة بها أو إهمالها؛ لأن تبعات ذلك لن تكون قليلة ولا إفرادية؛ بل على صعيد جمعي وغير مباشر ربما!
ولا شكّ في أننا سرعان ما نلجأ إليهم، إذا ما مورست ضغوط غير عادية لضرورة إنجاز أسرع وفي أوقات حرجة، ونلوذ بهم من أجل أصوات مطلوبة لنا أو لسوانا، أو لحضور احتفالي ملمَّع؛ وقد (نستفيد) من بعضهم ونعتمد عليهم في (مهمات) أخرى!
أما في الأحوال العادية، فنحن متعالون عليهم، متغافلون عن حاجاتهم ومتطلباتهم وأوضاعهم في ساعات الدوام وقبلها وبعدها.. حتى إن خطط التأهيل لا تعطيهم الحقوق المطلوبة؛ بل ربما لا تذكرهم، ولا سيما فيما يخصّ أهمية العمل والجدّية والالتزام، والأهمّ من هذا وذاك إحساسهم بأنّ لهم أهمية ومكاناً ومكانة في الأعمال والمشروعات المختلفة. وإذا لم يحدث ذلك، ولم يُهتمّ به، ستتشكل فجوات يمكن العبث فيها والشغل عليها، وثغرات يمكن النفاذ منها ممن قد لا نتوقع ولا نحبّ ولا نرضى!
ويفوتنا أنّ من كان أداة لنا، من الممكن أن يصبح أداة علينا، وأنّ من لا نعدّ أن له قيمة، أو نعوّده على أن قيمته دنيا، سيكون سهلاً على الآخرين استغلاله بأية قيمة، ومن أجل أية أعمال!
وفاتنا أيضاً أنّ لهؤلاء أحيازاً أخرى خارج دوامهم، وأوقات فراغ قد تطول نتيجة قلة العمل أو بطء السوق؛ ناهيك عن العاطلين بشهادات أو من دونها! فهل فكرنا بماذا تُملأ، أو خمّنّا كيف تُصرف وأين ومع من؟!
ومثل هذي الحال ليست مسؤولية جهة معينة ولا دائرة محددة؛ بل مسؤولية وطنية إنسانية، تشترك في تحمّلها وزارات ونقابات ومؤسسات.. تربوية وثقافية واجتماعية واقتصادية وخدمية.. ولا تتوقف على وقت أو ظرف أو مناسبة..
ولعل ما يجري في بلدنا الغالي يجعلنا نقف على بعض الحالات المرّة!
ويمكن أن نتساءل بهدوء وروية: ما الذي يجعل صاحب ورشة أو عاملاً مهنياً أو عادياً يرضى بالفُتات للخروج (مسلّحاً) وراء شعارات ليست في صلب اهتمامه، ووعود في مهبّ الريح؟! في الوقت الذي علينا أن نتساءل: ما الذي فعلناه لهذا اليافع حتى نمنع انقياده الأعمى، وتورّطه الدامي؟!
من دون أن ننسى الأسرة والبيئة والتربية والحاجات والهوايات والرغبات والنزوات والأحلام والأوهام..
لا شكّ في أننا في مواجهة مؤامرة كبرى، وعدوان موصوف على وطننا إنساناً ومؤسسات، حضوراً ودوراً وأهدافاً، ولا شكّ في أن هناك الكثير مما تمّ إنجازه حتى وصلنا إلى مرحلة متقدمة من الاكتفاء الذاتي، ولا يمكن أن نتصوّر عاقلاً أو واعياً يقبل بالفوضى المدمرة مادّياً ونفسياً في مختلف المجالات والميادين العامة والخاصة، ولا شكّ في أنّ وعي الغالبية العظمى من الشرائح المختلفة من المواطنين، استطاعت وأد الفتنة وصدّ المعتدين القريبين والبعيدين..
ولكن هذا يتطلب منا أن ندرس المفازات التي دخلت منها الشرور، ونستكشف المواقع التي كانت أضعف مناعة، وأكبر استغلالاً. وليست في هذا إهانة إلى شريحة بعينها أو مجموعة بذاتها؛ بل المقصود اولائك الأشخاص الذين هانوا وارتضوا أن يكونوا أدوات للقتل والإرهاب كالأسلحة التي أخفوها أو أظهروها، من دون أن يكون لذلك أيّ وجه من وجوه الحلال حتى البغيض منه، رغم الفتاوى والدعاوى؛ فلا شك في أنّ من يَهُنْ يسهل عليه الهوان..!
***
غسان كامل ونوس

اترك رداً