كلمة العدد
مهندس بلا هندسة!
م.غسان كامل ونوس
تتعدد الكليات الهندسية في الجامعات السورية، وتتنوع فروعها، وتتفرع اختصاصاتها، وهذا مغبط بكل تأكيد؛ لأنه يتيح لعدد كبير من الطلاب الدخول إلى هذه الجامعات، والتخرج فيها بصفة مهندس؛ وهذا في حد ذاته إنجاز للطالب، وللأسرة، وللوطن؛ رغم أن الكثيرين من المقبلين على الهندسة كل عام، قد لا يحققون رغباتهم المباشرة، في اختيار الفرع الذي يحبون.. وهذه مسألة أخرى، يفترض أن تحفّز الطالب على التحصيل الذي يتيح له تحقيق آماله، قبل أن يندب حظه، أو يتهم الأسئلة والتصحيح والأسلوب والمعدلات.. رغم أنه يمكن أن يكون لديه بعض الحق في ذلك؛ فالعامل البشري يحتمل الخطأ والإهمال وأشياء أخرى.
لكن الأمر لا يتوقف عند الدخول إلى الجامعة، ولا على التخرج بشهادة هندسية مدعاة للاعتزاز؛ بل تبدأ المرحلة الهامة الأخرى في حياة المهندس، وهي الانخراط في ساحات العمل الهندسي المتشعبة والمترامية، في بلد يعيش حال النمو المطردة كبلدنا، الذي كان –وما يزال- للمهندسين فيه الدور الهام في الكثير الكثير من الإنجازات في جميع الميادين التي تدخل إحدى الخصال الهندسية فيها؛ وهل هناك حيّز يخلو منها؟! وعلى هذا الأساس كان هاماً ذلك التفرع والتخصص منذ البداية، في إمكانية التحصيل المناسب لهذا المجال أو ذاك، فيدخل المهندس المتخرج حديثاً في صلب العمل المناسب لدراسته بلا تردد ولا أعباء؛ من دون أن نغفل الفرق بين الدراسات النظرية والممارسة العملية، ومن دون أن نسهو عن ضرورة التأهيل والتدريب المستمرين، ليبقى المهندسون في الأجواء الجديدة التي تتحقق لهذا الفرع العلمي أو ذاك..
والسؤال الملحّ الذي يسارع إلى فرض نفسه، أو نسخ نفسه ليبقى ضاغطاً: لماذا يتم تعيين الكثير من المهندسين في المواقع غير المناسبة، والمجالات غير المنسجمة مع اختصاصاتهم؟! وإذا ما افترضنا أن المهندسين أنفسهم يرضون بهذا المآل، لضرورة، أو عجز أو جهل، أو استهتار؛ فإن المسؤولية تقع على من عيّنَهم في هذا المكان، ومن قَبِلَهم فيه، لأن من فعل ذلك يُفترض أن يكون على بيّنة من الأضرار التي تنجم حتماً عن ذلك، ولا تتوقف على المهندس، ولا على الجهة التي عُيِّنَ فيها؛ بل تصيب المواطنين الآخرين، والميادين الأخرى التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه الجهة، وبالتالي يصيب الضرر الوطن بمجمله، بسبب تعطيل إمكانية وجهد وعلم، وهدرٍ في الزمن اللازم للتعلّم من جديد، إذا ما كان شيء يمكن أن يُتَعَلّمَ، وإذا ما كانت رغبة في ذلك، ولضعفٍ في المردود ونوعية العمل المنجز، وتشويهٍ للمثال المنتظر المنظور من آخرين يدخلون سنوياً في دراسة مثل هذه الاختصاصات الهندسية.. والأنكى من كل ذلك، أن يكون المكان الذي يوضع فيه المهندس لا يمتّ للهندسة وحتى للشهادة بأية صلة.
وهذا الأمر لا يتمّ –فحسب- لدى المهندسين المتخرجين في الفروع الهندسية المألوفة، ويتكاثرون في الدوائر والمؤسسات منذ سنوات طويلة؛ فهذا يمكن تفهّمه، رغم أنه مؤسف وغير مقبول بأية حال؛ لكن ما هو أشدّ أسفاً وحيرة وقنوطاً لأنه أكثر ضرراً، أن يحدث مثل ذلك حتى في الاختصاصات الحديثة، التي ما يزال خريجوها في السنوات الأولى من انطلاقتهم الميدانية، التي يحتاج إليها مشروع التطوير والتحديث، وتفرضها ضرورة التعامل مع المستجدات العلمية والتطبيقية..
ويحدث أيضاً أن يُعيَّنَ مسؤولون يحملون اختصاصات هندسية ما، في أماكن لا مكان فيها لمثل تلك الاختصاصات، مستقدَمين من مواقع أخرى ومسؤوليات لا علاقة لها بما تمّ تحميلهم مسؤولية إدارته وتطويره، وربما ريادته! بدل أن يتم الانتقال المنطقي في الجهة ذاتها أو المشابهة لها، وتفعيل الخبرة عينها، والاختصاص نفسه، مما يسهم في الاستفادة من تراكم الخبرات والمعارف في أسرع وقت وأفضل حالة؛ إذا ما كان هذا الشخص في ما مضى مهتمّاً بعمله، جادّاً في ممارسة العمل الفعلي، مبادراً مقداماً، ساعياً لتطوير المهارات المطلوبة للنجاح والتقدم.. لا منتظراً أمراً ينفذه بلا وعي أو إرادة، أو مستهطلاً رضاً مجانياً، أو منتهزاً فرصة سانحة للعبور الرخيص حتى لو كان ثمنه باهظاً، أو منتظراً ترقية بحسبان!
في كتابه “التوازن الاستراتيجي المفقود في القرن الحادي والعشرين” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2006، للمفكر الروسي الكسندر بانارين، حسب ترجمة د. فؤاد المرعي، وفي الفصل الثاني ذي العنوان: لماذا انهار الاتحاد السوفييتي؟ ورد في ص72 و 73 ما يلي:
“…فقد بيّن التحليل السوسيولوجي لأسباب تسرب الكوادر من الصناعة، أن عدم الرضا عن مستوى الأجر يشغل وسطياً المرتبة الرابعة بين عوامل عدم الرضا عن المهنة. أما المرتبة الأولى فيشغلها منذ أعوام السبعينيات: عدم انسجام العمل ومستوى الدراسة والتخصص، وكذلك المكانة المتدنية للمهنة (ولاسيما في أوساط العاملين الشباب)، والاستبعاد من المشاركة في اتخاذ القرارات (ندرة الاستقلال المهني).
إن المهندسين -الذين صاروا في الفترة السوفييتية المتأخرة، يشكلون فئة مهنية جماهيرية- سَمّوا من بين العوامل الرئيسية المسببة لعدم الرضا: المستوى المنخفض لاستخدام المعارف العلمية-التقنية التي حصلوها، واستغلال جهودهم في غير اختصاصاتهم، فقد كانوا يرغمون على إنفاق (أكثر من نصف زمن العمل في تنفيذ أعمال لا تحتاج إلى تعليم عالٍ أو حتى متوسط!).
هل يحتاج مثل هذا الكلام إلى تعليق؟!
***