حوار مع الأديب غسان كامل ونوس
محمد خالد الخضر ـ وكالة سانا
*كتبتَ الرواية والقصة والشعر والمقالة.. أليس في ذلك صعوبة؟! أليس لكل جنس أدبي أسس ومقومات خاصة به؟! وهل اخترت ذلك، أم أنها حال شعورية مفروضة؟! وهل تعدّ ذلك حالاً إيجابية؟! وفي أيها تجد نفسك؟!
**لا أرى في الأمر صعوبة ولا غرابة؛ فالمنبع واحد؛ الأفكار والأحاسيس والمشاعر والانطباعات المتولدة عن مشاهد وأحداث واقعية أو متخيَّلة أو موهومة، مأمولة أو مرتجاة أو متهيَّبة.. لكن قوامها مختلف كثافةً أو سلاسة، تواصلاً أو تقطعاً، كتامة أو شفافية، حماسة أو هدوءاً، سخونة أو ابتراداً، راهنيّة أو امتداداً في الزمان والمكان..
وبالتالي فسريانها مختلف، ومساربها متنوعة؛ تلك التي تخطّها في سفوح أو سهول أو وديان، مستقيمة أو متعرجة، متباطئة أو متحدرة من علٍ، وربما متقافزة متشللة.. عبر ترب متنوعة، أو صخور مختلفة الصلابة والهيئات.. تلك هي الأشكال المرصودة والمكتومة للمجرى والجريان وعناصرهما المألوفة والمستجدة؛ تلك هي حال الإبداع التي تتفرع إلى حالات، والأدب الذي يتوزع في أجناس.
وليس من شيء مفروض من الخارج؛ بل ينطلق من داخل الحال إلى أدوات الإظهار وشروطه وأسسه التي تدخل فيها إمكانيات الذات، ومرونة التفاعل والخبرة وقابلية التشكّل بلا تشبّث مَرَضيّ أو تفلّت أعمى أو عناد أحمق.. قد تجد نفسك أحياناً في حاجة إلى التحرك المتهادي، وتَقَرّي التفاصيل التي تليك، أو إلقاء السلام إلى الأحياء والأشياء، وانتظار الردود أو استيهامها؛ وأحياناً تسرع في خطوك؛ لأن لديك ما هو أهمّ من التواصل القريب وأثمن، ولا وقت أو حواس أو صبر؛ فالجمر في يديك.. وقد تتقافز أكثر؛ لأن الهدف أعمق فأبعد، والاحتراق في داخلك أشدّ.. وحين تكون الغاية أسمى، و”ما تبتغي جلّ ان يُسْمَى”، فقد تحلّق بأجنحة من ألق، وتحوم “على قلق كأن الريح تحتك”، أو كأن في فؤادك الحريق، وتطوف إلى فضاءات، وتغوص إلى أعماق لا يُلقّاها إلا كل ذي موهبة مميزة وإبداع عظيم.
الحال إيجابية كما أرى؛ لأنها تنبعث من الذات، ولأن هناك أريحية وفطرية وإمكانية.. ومن المعروف في بيادر النقد الآن أكثر من أيّ وقت مضى، أن هناك تداخلاً بين الأجناس الأدبية، وليس من انبتات أو قطع فيما بينها، وهذا التحرك الانفعالي غير المفتعل يمكن أن يكون مجرى يصلح موئلاً للإبداع ومسرى بأكثر من شكل، أو يجمع ملامح أكثر من جنس أدبي، وقد يكون جديداً، ولا يشكك هذا في شرعيته؛ بل يفترض أن يحتفى باكتشافه.. ومع الإشارة إلى أن للشعر خصوصية وتَوقاً أعلى وهمة أسمى؛ فإنني أجد نفسي في أي شكل أكتبه، وأحس بكآبة إذا ما قرأت شيئاً مما كتبت منذ زمن، ولا يثير فيّ الكثير من الانفعالات.. ولحسن الحظ فإن هذا نادر الحدوث..!
*موضوعاتك ومواقفك الأدبية والفكرية تدل على وجود الإنسان النبيل بشكل كبير، وتنشد الخير دائماً من خلاله؛ هل تتوقع أن النتائج مضمونة، والوصول إلى ذلك الإنسان ممكن؟!
**في الكائن البشري خير وشر، وتختلف النسبة بين شخص وآخر، ولا أعتقد أن هناك إنساناً خيّراً صرفاً؛ إذ يسمو حينئذ ليكون ملاكاً؛ ولا شريراً خالصاً؛ فيسقط عن أن يكون عاقلاً.. والأدب نزوع مطرد إلى الخير، ونشدانه، وتحفيز عليه، وسعي وتطلع وأمل.. والإبداع تعبير عن حال إنسانية، معاناة وأسى ورغبة وحيرة، وفيه تألم أو شكوى؛ ومن الطبيعي أن ينشغل به أو يعني من يحس ويشعر ويعي ويتأثر، ويقدر ويعمل على تغيير المنكر، ولو بأضعف الإيمان، ومَنْ غيرُ الإنسان النبيل أو الخيّر يمكن أن يُعوّل عليه في ذلك؟!
هذا الإنسان يمكن أن يكون في أيّ زمان أو مكان؛ وفي النهاية أنت تنفث ما ينغصك، ويدميك، ويخفف عنك، في محاولة لإراحة النفس أولاً، ولتعبر عن احتراقك؛ إشعاعاتُ هذا الاكتواء، أو ذبذباته ستخرج في كل اتجاه، حين تجد من يتلقى، وهي واجدته حتماً، ستتكاثف بأي شكل ومعنى وصدى، وتتوقف النتائج على فعالية المستقبِل ونسبته وأثره في البيئة، وقدرته على التفاعل والتغيّر والفعل..
وليس معنى ذلك أن هذا الفهم يمكن أن يتناول الرسالة بتمامها؛ فقد يكون عسر فيها أو نقص أو عجز، يمكن أن يكمله القارئ أو يستنتجه أو يستولده.. وبالتالي يتم تمثل الحالة والاعتلاج بها ولو بعد حين، وفي هذا خير، وأمل ووعد بخلاص.. لن يأتي؛ لأن الإنسان خطاء، والصراع باق باق!
*تتجلى في موضوعاتك القيم والرؤى الإيجابية والسلوك الصحيح؛ أليس هذا متعباً، وقد أصبح مصدر إزعاج لصاحبه في زمن تغيير الموازين والمعايير؟!
**أي معنى لحياة الإنسان إن لم تكن ذات جدوى، والجدوى تتمثل بتحقق الرؤى الإيجابية أو نسبة كبيرة منها، أو السعي الجاد إليها؟!
ليس سهلاً ذلك، وليس جديداً؛ فهناك دائماً ما يؤثر سلباً، أو ما يسبب العثرات أو من يلقي المثبطات أو يثير الشكوك، ويذر الغبار والدخان لتشويش المشهد وتضليل الملامح، وتشويه المعالم.. يكون ذلك وراء مصالح آنية ذاتية أو مجيّرة لقوى قادرة غادرة انتهازية متسلطة.. ومن الواضح أن هناك دائماً أهواء وغرائز ونزوات ومطامع وحب امتلاك واستهلاك واستعباد واستقواء.. والنفس أمارة بالسوء، والقوة مغرية بالعبث والفتك، والضعف مربك ومورّط.. وفي غمرة كل ذلك، سيكون التبصر صعباً، والتوصل إلى الجوهر شبه معجزة؛ لكن الرؤية الثاقبة، والصبر والمصابرة، والجَلَد والعزيمة واستخدام الحواس والإمكانيات غير المتطورة لاستكشاف ما وراء الأكمة، وما خلف الضحكات الخادعة، والمواقف المخاتلة أو الحاقدة.. كل ذلك أو بعضه سيمكن من الوصول. وهذا هو الرصيد الحقيقي الذي يبقى على مر الزمان، ويحسب على المرء، في حضوره الجسدي، وبعد انتهاء وقته المحدود.. ومهما اختلفت المعايير وتغيرت الموازين، على المثقف أن لا يضيع البوصلة، ولا يفرق في المرغبات، أو يتوه من جراء المهدِّسدات، ولا ينصاع إلى أمر مريب، أو وعد مسيل للعاب ولماء الوجه.. سيعاني صاحب هذا الموقف وتلك الرؤيا، وسيتحمل، على أمل أن لا يصح إلا الصحيح، وإذا لم يحدث فإن له شرف المحاولة والتضحية بالأعز ربما للربح الأغلى!!
وفي الشدائد يعرف النبلاء الشجعان، والأزمات تكشف المعدن، “وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!!”.
*تعتمد القصة لديك على تناول القضايا الإنسانية، لها حبكتها الخاصة، مع خواتيم مثيرة؛ ألا ترى أن هذا النوع أكثر صعوبة وأبقى إنسانياً وثقافياً مما يصنعه بعضهم بحجة الحداثة؟!
*لا يأتي نص إبداعي من فراغ، ولا قيمة له إن ساد في هلام؛ ولا بدّ للكتابة الإبداعية من معين فياض. ومن الطبيعي أن تكون القضايا الإنسانية في البال، بعد أن يتقرى الوعي ويتشرب ماوراء الوعي، وتستشعر الحواس انعكاسات الوقائع والأحداث وما خلفها وما يليها؛ إضافة إلى ما يعتمل في النفس من أفكار، وما يعتلج فيها من رغبات وأمنيات، وما يطوف فيها من خيالات وأوهام..
ثم تدخل في تشكلها إمكانيات الكاتب وأدواته وخبرته في صياغات فنية تناسب هذا الجنس الأدبي أو ذاك، وبما هو معروف عن فن القصة مثلاً، وما يمكن أن يضيف إليه من خواص، عبر تجديد أو تحولات أو رؤى فنية.. مع بدايات مستدرجة وخواتيم تتيح الاسترسال في التأثر أو التفكر، مروراً بمتون تختلف طولاً ومقاطع وأزمنة وأمكنة.. يراها الكاتب أو تستسمحه، أو تندفع لتتوضع وتتتواشج في نسيج القصة. ولا يعني هذا بالضرورة انبتاتاً عن الحداثة أو تماشياً مع سياقاتها؛ إذ إن الحداثة ليست وصفة سحرية فوق واقعية، ولا خروجاً عن الأسس وابتعاداً عن الموضوعات الإنسانية؛ بل هي أسلوب في التفكير والتناول والأداء والمعالجة والاستنتاج تختلف –ربما- عما جرت عليه الكتابة بهذا القدر أو ذاك.
ولا أعتقد أن من الطبيعي أن يقول القاص: سأكتب نصاً حديثاً أو قصة تقليدية؛ بل هو يقدم تجربته بما يتناسب مع غناه المعرفي، ومَضاء أدواته، وسعة خطوه، وثقته وطموحه ومغامرته، ويبقى للقراء المهتمين وللنقاد المتابعين حسن التلقي وجودة التقويم والتوصيف.. شرط أن لا يتم ذلك بشكل شخصاني أو برأي مسبق ورؤى مكبلة؛ بل بآفاق مفتوحة وأريحية وغبطة في تلقي الثمر الناضج حتى لو اختلف لونه أو مذاقه، وإشارات إلى مواقع الخلل أو العثرات التي أثرت على الجنى.. بانتظار الموسم الخير الذي قد تبشر بها القصة أو يرهص به الكاتب.
*الرواية لديك تعبير عن بيئة تخرج من خلالها إلى عالم آخر يطرح موضوعات إشكالية راسخة، كأنك تصبو إلى تغيير شيء ما من دون أن تمس بالألفاظ، فتدفعها إلى ما يسميه الآخرون جرأة وغيرهم وقاحة.. ما رأيك؟!
**لكل واقعة بيئة، والحياة تمارس أو تنقضي في بيئة أو بيئات؛ مكان وزمان، وكائنات تمشي على قدمين، أو تدبّ على أقدام، أو تزحف بلا أطراف؛ تطير أو تسبح أو تغوص، وكائنات أخرى تنتش وتتلون وتأتلق وتشحب وتفنى وهي واقفة، بجذوع تتطاول كثيراً، أو تتقاصر إلى ما يعشب وجه الأرض.
ماء وأشياء ونماء وسماء وحراك يشتد ويضعف، وفصول مشرقة وملبدة وعابسة جزئياً، وأصوات تعلو وتنخفض، مفهومة أو مغمغمة، أحلام وأمانٍ وأعراس وخيبات، خطو وتوثب وعثرات وموات.. تتقاطع البيئات وتتشابه، تتمايز وتفترق؛ وهناك من يعيش في منطقة لا يبرحها، وآخرون يتنقلون بهيئات وأشكال.. ما يجعل البيئات تتشابه إضافة إلى العناصر والظروف.. وأفكار الكائنات وأحلامها ربما، ومساراتها النفسية، والأهم مصائرها، وأعمارها المحدودة. ولا شك في أن العلاقة بين الكائنات وبيئاتها جدلية؛ تؤثر البيئة في الأحياء التي تعيش فيها أو تتعايش بشروطها ومناخاتها، غناها وشحها، انفتاحها وانكماشها.. كما تؤثر الكائنات بالبيئة إثراء أو إفقاراً أو تدميراً.. الإشكاليات أو المشكلات ما تزال متصلة منذ بداية تكون الحياة الواعية، وإن كان بعضها قد حلّ أو تُكهِّن حوله أو اُجتهِد، أو تُوهِّم، وبعضها الآخر ما تزال فصوله تتوالى عنفاً أو سلاماً أو استسلاماً أو انتحاراً.. انشغالاً أو تشاغلاً أو تحايلاً حتى على النفس والفكر والعقل والقناعة.. وإذا كان لكل بيئة مفردات وعناصر وطبيعة وآلية… فإن الكاتب وهو يتناول تجربةً ما لا بدّ له من بيئة يتفاعل فيها كل ذلك، يعاني ويداني، ويعالق ويمازج ويفارق.. بأسلوبه وملكاته ومواهبه وقدراته.. من دون أن يغفل مواصفات البيئة أو خصوصياتها، ومن دون أن يغرق في قيعانها الآسنة، أو يتعالى على آمالها وتطلعاتها. ومن دون أن يؤثر ذلك على المعنى أو الغاية أو الهدف أو وجهة النظر التي تتخفى أو تتجلى من خلال عمل الكاتب، ويرغب في أن يستنتجها المتلقي الذي يتمتع أيضاً بقدرات وملكات، أو يفترض ذلك، وعلى النقاد أن يقدموا هذا المعنى أو يوضحوا ما يمكن أن يقرؤوه ويستنتجوه من احتمالات..
ومن هنا يختلف الأسلوب، أو تتنوع المقاربة بين كاتب وآخر؛ بين نص وآخر للكاتب نفسه، ولا بدّ من مراعاة البيئة وعلاقاتها وتعالقاتها المزمنة أو المستجدة، القارة أو المتغيرة..
*هل ترى الحديث في الأدب عن الجنس والدين جرأة؟! وهل ترى أن ثمة فائدة اجتماعية قد يحققها الروائي أو الأديب من جراء ذلك؟!
**لا يمكن الحديث عن حياة أو كائنات حية، حتى لو كانت عاقلة، من دون التطرق إلى الجنس؛ فهذا الأمر مرتبط بالتكاثر (غير العاقل) في حده الأدنى، مع ما يترتب على ذلك من إقدام وإحجام، محايلة وتزيين وإيقاع في الحبائل، وكتمان؛ رغبات وتنويع وتنكر وهجر وحرمان، انكشاف وانغلاق واحتراق، ويتصل هذا بالشخصية نزوعاً واكتمالاً وإقناعاً وإشباعاً..
ولهذا حضور وتحضير وتأثير وانعكاسات، طقوس وعادات وأفراح، وانكسارات تصدع النفوس أو تدمر العائلات، وتظلم الرؤى، وتشرع المحظورات أو تبيح الظلامات بشكل أو آخر؛ فالكلام في الجنس ليس جرأة؛ بل هو وارد في الحديث عن أي حياة وفي أي ظروف، لكن الأسلوب يختلف، والمفردات والحوارات والأفكار؛ ناهيك عن الممارسات.. ويقال في الحياة: إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، وإذا كان ممكناً بل مطلوباً أحياناً الحديث عن المعاصي في الأدب؛ فليس معنى ذلك أن يكون الإفصاح التعبيري أو الشرح التفصيلي، أو المباشرة الفجة تشكل الغاية والقصد، وليس ذلك دليلاً على جرأة؛ بل يفترض أن يكون الموضوع يسوغ ذلك، والنفس لا تنفر منه والسياق يتطلبه..
أما موضوع الدين فيخص الكائن العاقل؛ لأنه يبحث في موضوعات الخلاص المنشود، أو يحاول أن يسعى إليه، أو يغطي العجز عن الوصول إلى أجوبة تقنع حول السبب والغاية؛ في الوقت الذي يبقى الكلام عن الكيفية والطريق متاحاً في التكهن والتوهم والتمني..
ليس غريباً أن يتم الحديث في الأدب عن المقدسات وحول رأي أي منا بها؛ لكن البيئة تمنع، أو تسمح، والقوى المهيمنة تحاسب وتعاقب.. وإذا كانت الأقدار السماوية تبقى في إطار الذهن والفكر والأمل والقناعات والإيمان الذي لا يستطيع أن يفرضه أحد أو يتقصاه أو يقومه، فإن الأقدار الأرضية تقوم بصلاحيات تلك الأقدار، وتضطلع بأدواها تمنع أو تشرع، تكفّر وتدين وتذبح أو تصفح، تضطهد، وتفرض ما تريد لتدعيم سلطانها، وما يعبر في كثير من الأحيان عما تبدد من طاقات، وما تشوه من قيم، وما تحمل من نوايا قاتمة، وأفكار ظلامية..
وإذا كان هؤلاء يجرؤون على ممارسة ما يؤمل أنه من صلاحيات سماوية، فهل يكون شططاً تناول ذلك في الأدب عرضاً أو تفنيداً وهل يكون ذلك تطاولاً أو فعلاً منكراً أو خارجاً عن المقبول والمعقول؟! إن أفكار البشر وآراءهم وأحاسيسهم تظل محاور أو مجالات أو فضاءات لا بدّ من أن يتم الحديث فيها، ولا يمكن لأي أديب تجاوزها أو التغافل عنها.
ونعود إلى القول إن لكل أديب أسلوبه وأدواته؛ فليس جرأة مقبولة أن تسفه المقدسات، أو تستخدم أقذع الألفاظ في توصيف ما يعتقد به الكثيرون من البشر، ولا أن تنسب إليه أفعال منكرة يقوم بها البشر غير الأسوياء؛ ففي هذا إساءة إنسانية وأدبية وأخلاقية..
لا شك في أن من الممكن أن يقدم الأديب رؤيته وقناعته عبر شخوصه في الرواية وسواها، موافقاً أو مخالفاً السائد لدى الناس، وقد يكون مفيداً أن يثار ذلك في إطار التخلص من أدران الإيمان السلبي وعزو كل الأسباب إلى الأقدار، وعدم الركون إلى القضاء السماوي ومفرزاته في كل خطو أو موقف، مع ضرورة أن يتحمل المرء المسؤولية الحياتية والأمانة التي خشيت من حملها الجبال، وضرورة استخدام ملكاته الإنسانية، ولا سيما العقل في التفسير والتحليل والاستنتاج، والسير في طرق مجدية وغايات نبيلة!!
*أي الأجناس الأدبية تراها أوفر حظاً في هذا الزمن؟! هناك من يقول الشعر، إلا أن الرواية تنافسه إلى حد الوجود الموازي؛ أم ترى غير ذلك؟!
**”الشعر ديوان العرب” فكرة قيلت منذ زمن بعيد، واستمرت طويلاً، وربما ساد ما يماثلها في بعض بقاع العالم، ولا سيما أن الشعر سابق للأجناس الأخرى، ما عدا المسرح الذي يتميز بطبيعة العرض؛ إضافة إلى ميزة الإلقاء التي تعد من خصائص الشعر، حماسة وتحفيزاً في المناسبات الاحتفالية، وتفجعاً وندباً في الرثاء، وقد دخل الشعر عنصراً مؤثراً في المبارزات القبلية والمنادمات، مع الخوض في موضوعات الحياة المتنوعة؛ ثم أشيع أن القصة القصيرة تناسب إيقاع عصر السرعة؛ حيث ليس لدى المرء من وقت فراغ أو ذهن صاف ما يسمح بأن ينشغل بقصة طويلة أو رواية بمئات الصفحات، ودخلت التلفزة ووسائل الاتصال والتواصل لتضاعف من الانشغال والإشغال عن القراءة المديدة، كما خفت الحاجة إلى الشعر النديم والمهرجاني.. ومنذ سنوات يقول أصحاب دور النشر إن مبيعاتهم من المجموعات الشعرية والقصصية في حدودها الدنيا، ويؤكد ذلك إحجامهم عن طباعة هذين الجنسين، وعدم حماستها للقيام بذلك حتى على حساب المؤلفين! مع الالتفات أكثر إلى طباعة الرواية؛ ترافق ذلك مع سيادة مقولة جابت جهات الثقافة وبواباتها بأن الرواية هي صاحبة السطوة والحظوة -وهي مفارقة مثيرة- في هذا الزمن الذي تسارع فيه كل شيء إلى حدّ الافتراق والتشلل والتعصب والتجزؤ والتفتت!! ويؤكد ذلك (تجار السوق) الثقافية، ولا يبتعد عنهم مروجو الأدباء والنتاجات، ومقيمو المعارض ومطلقو الجوائز و(رعاة) الثقافة والإبداع من أصحاب رؤوس الأموال أو بطون المعونات أو أحضان الإعاشات..
وقد يكون هذا سبباً في ذلك الانتشار، ولا سيما أن بعض الروائيين شرعوا يكتبون روايات جوائزية؛ بمعنى أن هناك نمطاً محدداً من الروايات يتصدر المسابقات الحضارية عابرة القارات، وهي في الغالب تتناول موضوعات إشكالية شائكة قد تثير حساسيات وفتناً..
ولا يجوز التعميم؛ فهناك مسابقات وجوائز ونتاجات لأصحابها نوايا حسنة ورؤى ثقافية إنسانية؛ أما بخصوص سيادة الجنس الروائي، فيمكن أن أفسره بأنه في هذا الزمن العولمي الصاخب المضطرب الإيقاع المشوش الانتماءات والقناعات، هناك من يرغب بالاطلاع الأوسع على تجارب معيشة وحيوات ممكنة أو متصوّرة والوصول إلى نهايات تؤمنها الرواية، ولا تشبعها القصة القصيرة التي تتناول شرائح أو شزرات أو عناصر أو مواقف منفردة وفي أزمنة محدودة؛ ولا يستطيع الشعر بانفعاله الحماسي، أو هدوئه المشحون أن يوقفها على متكآت ثابتة، أو مضمونة أو ممكنة التفهم والتموضع!
وتزيد من حدة ذلك الإثارة التي يمكن أن تتضمنها الرواية من خلال الموضوعات ذات الانعكاسات المدوية والأصداء المترامية إعلامياً أو اجتماعياً أو سياسياً..!!
إضافة إلى ما يمكن أن تحويه من معلومات ومعارف وخبرات وخصائص في أزمنة وأحقاب ومنعطفات ومفاصل.. وقابلية الرواية للتواشج مع أجناس أخرى.
ويمكن أن نضيف إمكانية أن تحول الرواية إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني واسع الانتشار والتسويق، إلى عوامل الاهتمام بالرواية وكتابها!!
وفي تقديري إن لكل جنس أدبي حظوته في مكان ما وزمان ما؛ فكما يمكن أن يكون للشعر الحماسي الموقّع دوره وأهميته في الحروب والمواجهات المباشرة، وللشعر الرومانسي حضوره وصداه في زمن الرخاء، وللشعر العميق المشحون بانفعالات مؤسية وانتثارات مضيئة أثره في مختلف الأوقات، يمكن للقصة القصيرة أن تُتَلقّى من قبل قرائها والمهتمين بها في الكثير من الأحيان، وللرواية هواتها ومتابعوها في هذا الزمن أو ذاك؛ ويمكن؛ بل يجب أن تتزامن الأجناس الأدبية بحضورها وانتشارها، ويمكن أن تتعالق، أو تخرج أجناس متداخلة أخرى.. الأمر يتعلق بثقافات وبيئات وسياسات وعلاقات وظروف وتربية وتطورات وسياقات.. تتعدد الأسباب وتتنوع وتتشعب، وتتفرع انعكاساتها وظلالها ومرتسماتها في هذا الميدان أو ذاك..!!
***
غسان كامل ونوس