غسان كامل ونوس، شاعر وكاتب سوري، صدر له حتى الآن اثنان وعشرون كتاباً بين الشعر، الرواية، القصة، وله مجموعة أخرى من الكتب التي أسماها “كتابات”، كان آخرَها كتاب يتحدث عن المعاناة التي تمرّ بها سوريا، وقد حمل عنوان “عذراً سورية” صدر عن دار شرق وغرب في دمشق عام 2013.
تولّى غسان ونوس عدداً من المناصب المهمّة؛ حيث انتخب نائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية مطلع عام 2011م وما يزال، وتولّى رئاسة تحرير مجلّة “الآداب العالمية” التي يُصدرها اتحاد الكتاب العرب، منذ عام 2007 وحتى عام 2010 وكان مديراً لتحريرها من عام 2005 وحتّى عام 2007 وتسلّم رئاسة تحرير جريدة “الأسبوع الأدبي” من عام 2010 وحتى عام 2013؛ بالإضافة إلى أنه حاصل على عدد من الجوائز كجائزة محمود المسعدي في القصة القصيرة من مركز الوطن العربي للنشر والإعلام (رؤيا) في مصر عام 1990، وجائزة إيبلا للشعر في إدلب بسورية عام 1992.
التقت “أثير” بالشاعر والكاتب غسان ونوس، ليطلعنا على تجربته الأدبية، وآرائه في قضايا الأدب والإبداع. وقد سألناه أولاً عن بداياته، والنصوص التي كتبها خلالها؛ فأجاب:
– بدأت الهواية الأدبية بالظهور منذ المرحلة الإعدادية، في العقد الثاني من العمر، وكانت، كما يمكن أن تكون غالبية البدايات، نصوصاً يختلط فيها الشعر بالنثر، ثم تمايزت هذه الحالة بعدها إلى نصوص شعرية وقصصية، رغم أنه ما من انفكاك كامل بين الأجناس الأدبية؛ وهناك نظريات تتحدث عن تداخل الأجناس الأدبية، وفي كلّ الأحوال، لا أميّز بين محبتي للكتابة في النثر، وبين رغبتي في الكتابة الشعرية، ولا ألزم نفسي بجنس أدبي معيّن، ويمكن القول بأنّ الكتابة في الشعر والنثر استمرت بشكل متوازن تقريباً، مع ملاحظة أساسية، أنني حين أبدأ بكتابة رواية مثلاً لا أكتب شيئاً سواها، وألتزم بكتابتها إلى النهاية؛ لأنّ الفكرة تتبلور في أثناء الكتابة، ولا أضع مخططاً لكتابة عمل، كبيراً كان أو صغيراً، ولا أضع برنامج عمل معيناً؛ بل يبدأ العمل حين تخطر الفكرة، ويمكن أن أشبّه ذلك بحفر خط في تربة مشبعة بالماء، فتجد أن المياه تأتي إليك، وبالتالي يمكن أن تتكامل الفكرة مع متابعة العمل على تدوينها؛ فالفكرة حين تأتي إلى الذهن، وحين تبدأ بالتكوّن، تبدأ بلملمة الأشياء التي تهمّها، وتشعر بأنها يمكن أن تفيد في بلورتها، يحدث هذا في العمل النثري بشكل خاص؛ القصة أو الرواية؛ فحين أكتب رواية، لا أكتب سواها، إلا حين أتوقف وقفة طويلة، وهذا لم يحدث إلا مرة واحدة؛ في كتابة إحدى الروايات توقفت سنة كاملة، نتيجة ظروف ومشاغل مؤثرة، استمر التوقف نحو سنة، كتبت خلالها القصة والشعر وسوى ذلك.. إذن؛ القصة والرواية مع الشعر والزوايا والمقالات، بدأت معاً وفي مرحلة واحدة.
*ألم يشكل هذا التنوّع في الكتابة صعوبة في البدايات؟
-لا أشعر بذلك أبداً؛ بل أشعر بأن في هذا الأمر غنى، ويمكن أن أكتب في أيّ جنس أدبي، ولا أختاره؛ الفكرة هي التي تختار، وأنا لا مشكلة لدي إن كتبت قصة أم كتبت شعراً، هذا من حيث رغبتي في الكتابة؛ ولكن إذا سألني شخص ما هل تجد نفسك في القصة أم في الشعر؟ سأقول إني أجد نفسي في كل ما كتبت، وأصدقك القول بأنني الآن، حين أعود إلى ما كتبته منذ 20 عاماً، أشعر بالحزن إذا لم يثر فيَّ أشياء مهمة، حتى في مرحلة البدايات، الكتابة التي لا تهزني إلى الآن أشعر أنها ليست جديرة بالحياة، لكن هذا قليلاً ما يحدث. في تقديري إن النثر خطو أو مشي على الأرض بخطوات متفاوتة الطول؛ يمكن أن تكون نصف متر أو أقلّ من ذلك، أو نحو مترً؛ الرواية قفزات متطاولة، ويمكن أن يكون هنالك طيران بسيط، لكن بمدى واسع؛ أما الشعر فهو تحليق، وأشعر من خلاله بمتعة الحالة الشعرية؛ لأن العلامات الفارقة فيها أقل من القصة أو الرواية؛ أنت في القصة يفترض أن تقدم هيكلاً مقروءاً بشكل ما، من خلال عناصر معيّنة وانتقالات محدّدة ومنطقية، رغم أن الإبداع ليس له المنطق الذي نعرفه في الفلسفة؛ في القصة أو الرواية أنت مطالب بشكل ما، أما في الشعر أنت تحلق، وتكتب ما تشعر، أو ما تتخيّل، أو ما يُشعلك من الداخل، قد لا تستطيع أن تحدده، لكن تستطيع أن تلمس آثره، وهذا الأمر مهم جداً؛ إذ يمكن أن تأتي حالات، يكون للشعر الحضور الأكبر في مدى معين، وقد كتبت منذ أشهر ما يزيد عن مجموعة شعرية في فترة قصيرة.
*هل هذه المجموعة لها علاقة بالأحداث الحالية في سورية؟
– نعم، لها علاقة بالأحداث الحالية، لها علاقة بالكم الكبير من المعاناة التي نشعر بها بشكل يومي ولحظي، كما أنجزت خلال السنة والنصف الماضية مجموعة قصصية تتضمن ثلاثة عشر نصاً، لها علاقة أيضا بالأحداث، وهي جاهزة للطباعة؛ لا تصف أحداثاً، ولا تصف وقائع؛ بل ترصد زوايا معينة وحادة وغير منظورة، تهمّ هذا الكائن الذي يتعذب.
*إلى أي مدى من المهم أن يكون الكاتب مسؤولاً عن رصد الحالة التي يمر بها مجتمعه، وهل يجب أن يوثق هذه الفترة التاريخية من خلال أدبه؟
– الكاتب أو المبدع ليس مؤرخاً، وليس مطلوباً منه أن يؤرّخ الوقائع بذاتها أو بحيثياتها، ولكن من غير المنطقي ومن غير المفهوم أن يعيش كائن حساس كالكاتب أو كالمبدع في جو مأزوم بطريقة ما، ولا يعبر عن أزمته الذاتية، أو تأثير هذه الأزمة عليه أو انفعاله بالأزمة، يمكن أن تكون المادة الرئيسية ليس لها علاقة بالأزمة، لكن ملامح الحزن والألم والقلق تكون واضحة؛ بمعنى أنه من الممكن أن تكون الشخصية مثلا حيواناً، ويتعرض إلى الكثير من العذاب، وبذلك لا تحصر نفسك بالوقائع الراهنة، ولاسيما أننا في عصر الإعلام الذي ينقل لك صورة ما يجري بشكل فاقع أو بشكل دقيق أو موجّه، إلى درجة أنه يؤثر على خيالك، ويمكن أن تنعكس هذه الصور المتداخلة والمتراكمة عليك، وتداخل الصور بشكل سريع يتعب ذهن المتلقي، ولا يستطيع أن يتمثّل الصور الحقيقية؛ فما بالك بالمبدع الذي سيتخيل بعدها الحالة التي يشعر بها، تلك التي سينطلق منها إلى الأحداث الجارية، ويرسم تخيلاته هو وكائناته، ويختار عناصره ليشكل منها هيكلاً مناسباً؟! أرى أن الشعر مناسب أكثر في حالات الاحتراق الحقيقية الراهنة والانفعالية؛ أما الرواية فتتأخر بالتأكيد، والقصة القصيرة قد تتأخر قليلاً، ويمكن بعد سنة أو بعد أشهر أن ينفعل الإنسان، ويكتب شيئاً من القصة في ذلك، يمكن أن يكتب في ما يتعلق في هذه الأزمات بأشكال أخرى؛ مثل الزوايا أو الخواطر أو المقالات، ومنذ بداية الأحداث في سوريا، وخلال فترة رئاسة تحرير جريدة “الأسبوع الأدبي” التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، كنت أكتب زاوية أسبوعية، لها علاقة بالأزمة على مدى 28 شهراً، وعند نهاية مهمتي في رئاسة التحرير، جمعت قسماً كبيراً من هذه الزوايا التي لها منحىً متقارب أو منسجم، وأصدرتها في كتاب أسميته “عذراً سوريا”، والعبارة هي لكاتب تونسي، كتب مقالاً بهذا المعنى، استعرتها، وأشرت إلى ذلك، وتمّ إصدار الكتاب منذ أشهر؛ طبعا هنالك زوايا أخرى، ومقالات يمكن أن تأخذ طريقها إلى كتاب؛ لأنّ لها منحىً مختلفاً؛ مثل هذه النصوص الإبداعية لا أهتم بتسميتها شعراً؛ يمكن أن تكون شعراً، أو لا تكون، ليس هذا مهماً بالنسبة إليّ، وقد يهمّ الآخرين، وينشغلوا به عن القيمة الأدبية والمعرفية، وتفادياً لذلك أسميتها “كتابات”.
*اسمح لي أن أنطلق من هذه الفكرة نفسها، ولكن أودّ أن أعيد تفكيك السؤال؛ وسط هذا الدمار الهائل في سوريا الآن، ما الذي يمكن أن يفعله الكائن الأدبي أو القصيدة بشكل عام؟
– في اللحظات الحرجة والطارئة التي تمر على المرء، يكفي أن يشعر بأنّ هناك من يسمع أنينه، المشاركة حتى في الأنين وفي الصدى، لها تأثير كبير على الكائن؛ لذلك أنت حين تكتب شيئاً له علاقة بهذه الأحاسيس، قد يرتاح المتلقي قليلا، وفي البداية والنهاية بالنسبة إلي، أكتب من نفسي ولنفسي؛ لأنني في حالة يمكن أن تنتج شيئاً ما، وتعبر عن شيء ما، لا أفكر في المتلقي إطلاقا عندما أكتب.
*لكنك أيضا تتوجه من ذاتك إلى الآخرين؟
-أنت كمبدع كائن إنساني، وبالتالي الأحاسيس التي ترصدها، أو تحاول أن ترصدها أو تستقطبها، هي أحاسيس إنسانية؛ هذا الإحساس يمكن أن يجد له صدى عند المتلقي، وليس في وسع كل إنسان أن يتلقى بالقدر نفسه الذي تكتبه، وليس شرطاً ذلك على الإطلاق؛ أهديت إحدى مجموعاتي القصصية “إلى قارئ مهتم”، وسبّب هذا الأمر إرباكا لدى الكثير من الناس؛ فالقارئ حين يمسك الكتاب، سيسأل نفسه: هل هو قارئ مهتم؟ هل يستحق مثل هذا الكتاب أم لا؟ وقال لي كثيرون من زملائي، إن مثل هذا جرى لديهم؛ وليس كل متلقٍّ قادراً على الفهم؛ هنالك متلق عابر، ومتلقّ وقتي، ومتلقّ مستهلك للوقت، ومتلقّ متذوّق يمكن أن يمسك كتاباً، فإذا لم يجد في الصفحات الأولى ما يشدّ انتباهه، سيلقيه جانباً؛ أما المتلقي المحترف الذي يُفترض أن يتابع ما يُنشر، فسيقرؤه بأكمله، ليكوّن فكرة عن الكتاب والكاتب، وعن مكانة هذا الإصدار في المجرى الثقافي العام.
*لو مُنحتَ السلطة في الاختيار، هل ستحذف ممّا كتبت قبل 20 عاماً شيئاً، أم أنك تراه قادراً على الحياة لفترات أخرى؟
-لا شكّ في أنّ التجربة اختلفت وتطورت، أو تمايزت، وأنا يهمني في هذا الأمر القدرة على صياغة الأفكار؛ الفكرة مهمة جداً، ولكن يمكن أن تكتبها في مقال في جريدة؛ أما حين تكتبها نصاً إبداعيا، فأنت مطالب بأن يكون ذلك مختلفاً عمّا يكون في مقال صحفي؛ فهنا يدخل الفن، وتدخل عناصر التخليق التي لديك. يمكن أن يرغب الكاتب في أن يقول شيئاً مهمّاً، ويفشل في ذلك، رغم أنّ الفكرة موجودة، لكن الأدوات والصياغة لم تسعفه.
*هل يعود ذلك إلى حجم الفكرة؟
– يتعلق ذلك بالظروف المحيطة أولاً، وبالحالة النفسية للشخص، وبدرجة تمثُّل هذه الحالة في النفس، بمعنى هل ستكتب هذه الفكرة لأنّ البيئة أو المرحلة أو المناسبة تتطلب منك ذلك؟ أم أنك تكتبها لأنك تشعر بها؟ هنا النقطة الأساس في هذا الأمر، طبعاً الأدوات والصياغات تختلف، والاغتناء يختلف، ولكنّ الجمرة ما تزال تتّقد.
*أودّ أن أشير إلى نقطة أخرى، في حديث للشاعر محمود درويش، بعد فترة النضج الكبيرة التي وصل إليها، قال: لو كان الأمر بيدي، لاختصرت محمود درويش في الإصدارات الخمس الأخيرة فقط، وألغيت ما تبقى، إلّا أنّ التاريخ لا يسمح بذلك، كما أنّه أشار إلى المتنبي، بأننا يمكن أن نختصره في مئة بيت فقط، ما هو تعليقك في ذلك؟
-أنا سأقارب الأمر بشكل معكوس، وبصرف النظر عن تجربتي، هنالك عدد من الكتّاب، أتمنى أن أختصر تجربتهم بالبدايات وليس بالنهايات، وهنالك عدد من الكتّاب كنت أتمنى أن يتوقفوا عن الكتابة، أو أن يكون لدى بعض الناس سلطة في أن ينصحه بأن يتوقف عن الكتابة، ولن أسمّي؛ كنت تشعر بالاحتراق في النصوص التي تقرؤها لهم في بداياتهم أو في مرحلة ماضية من تجربتهم؛ أما الآن فتشعر أن شيئاً ما جفّ عندهم، وأن النضارة لم تعد موجودة، والاحتراق لم يعد موجوداً، ولم يعد التمثّل حقيقياً، ويمكن أن يكون الأديب قد بدأ يكرر نفسه؛ الأدوات لم تزل متمكنة، لكن النتاج ليس كما كان؛ هذا الأمر لا يمكن أن نأخذه بإطلاق؛ بالنسبة إلي، أشعر بأنّ في ما كتبته لاحقاً شيئاً مختلفاً، أكثر اغتناء، وأحس بشفافية الأدوات أكثر، وبقدرتها على الوصول والإيصال، لكن لا أستطيع، وليس من حقي أن ألغي ما كتبت؛ فلا يمكنك أن تأخذ الشجرة من قمتها، لأنّها سوف تذبل.
*هل أنت قاسٍ في تعاملك مع أعمالك الأدبية؟! وهل هنالك آلية معينة تتبعها في تعاملك معها؟! مثلاً هناك شعراء يستغنون عن نصوصهم بعد فترة من كتابتها!
– قليلة هي النصوص التي استغنيت عنها؛ أكتب بعفوية، ويمكن أن تخذلني كلمة، فأتركها وأمضي إلى جملة أخرى وأخرى.. الخ. ثم أعود إلى ما كتبت بعد فترة، يمكن أن تكون بعد أسبوع أو شهر، أو أكثر من ذلك، وأعيد القراءة، وأرمم الثغرات التي كانت موجودة، وقد أجد كلمات مكررة بشكل لا ينسجم، أو فكرة مكرورة بأكثر من عبارة؛ لذلك ألغيها، وأتعامل معها بعين الناقد.
*الشام أنتجت الظاهرة الشعرية الأكبر في تاريخ الشعر العربي؛ بعد المتنبي بـ 1000 سنة لم تظهر ظاهرة شعرية سوى نزار قباني، ورحل نزار؛ فإذا كنت متفائلاً جدا، متى سينتج الرحم العربي شاعراً كنزار، حتّى إن كان قد كرر تجربته في نهاية عمره؟
– قد لا أتفق معك بأنه الظاهرة الوحيدة، ولا أنظر إلى المسألة بهذا الشكل، وقد لا يشبعني الكثير من شعر نزار، يمتعني استماعاً، ربّما، ولا يمتّعني عمقاً وفكراً وانشغالاً، النص الذي لا يترك لديّ أثراً فترة مهمة، أفكر فيه وأتساءل حياله، أشعر بأنه نصّ استهلاكيّ؛ قد تفرح بتزيينه، بشكله، بصياغته، بموسيقاه، لكن قد لا يترك لديك الأثر الكبير؛ لهذا، أنا لا أحب إطلاق النظريات أو المصطلحات، أو الأقوال بأنّ هذا ظاهرة، وغيره ليس ظاهرة، ربما تحدث ظاهرة شعرية في مرحلة ما، يمثلها عدد من الشعراء الخ.. ومن خلال وجودي في رئاسة تحرير جريدة “الأسبوع الأدبي”؛ حيث كنت أتعامل مع النصوص بشكل يومي، وعدد النصوص التي كانت تأتي في الشهر تزيد على 250 نصاً، وبالتالي أنت تستطيع أن ترصد هذا الجيل أو هذه المرحلة من خلال النصوص التي تأتي من مختلف الشرائح، خصوصاً أنّ الجريدة تكاد تكون الوحيدة الملتزمة بالإبداع والفكر في سورية؛ لذلك أقول بكل وضوح وصراحة وشفافية إنّ النصوص المتميزة كانت قليلة، سواء أكان ذلك في الشعر أم في القصة، وهذا يحتاج إلى دراسة وتحليل.
*ما الذي يشدّك عندما تقرأ القصيدة، هل هنالك عنصر معين تنحاز إليه أكثر من الآخر؟
-قد تعجبني الفكرة، ولا تعجبني الصياغة، وبالتالي أرفضها، فالأولوية بالنسبة إلي في النص أن يكون منسجماً ومتناسقاً بعناصره المختلفة، لأتعاطف معه، وكنت ألجأ، مع هيئة التحرير، إلى تصحيح الكثير من النصوص التي نجد أنها يمكن أن تكون مقبولة للنشر، وفي هذا الأمر، أنا لا أتحرّج، كائناً من كان الأديب أو صاحب النص، وفي حالات عديدة حدث إحراج، فبعض الشعراء يتقبل هذا، وبعضهم لا يتقبله، منهم أكثر من شاعر متمرس في الكتابة الشعرية، والعمودية منها، ومع أني لا أكتب الشعر العمودي؛ بل أكتب التفعيلة والنثر الذي يمكن أن يسمى شعراً؛ أقول للشاعر بعد أن أقرأ نصه: إن هذا الشطر مكسور، فينزعج، وفي أكثر الحالات كانوا يعترفون بهذا الخطأ، ويشكرون بعد ذلك.
*هل تعتقد بأن شعراء الحداثة العرب قد استوردوا الثقافة المعلبة من الخارج، وأكملوا معها الطريق، أم أنهم استطاعوا أن يرجعوا إلى تاريخنا العربي الثري، وحدّثوا داخل هذا التاريخ؟
-الأمر يتعلق بالجرأة في الإقدام على هذا الفعل، يمكن أن يكون ما وجدوه لدى الثقافات الأخرى من شكل، شجعهم على أن يكتبوا مثله؛ لأن القوانين الصارمة في الأدب لدينا أخّرت مرحلة التفعيلة والنثر، حتى الصراع في موضوع التفعيلة أخّر فترة النثر؛ إذن وجود نصوص في مواقع أخرى سبقتنا إليها بعض المجتمعات الأخرى، قد يشجّع على أن نُقبل على مثل هذا العمل، وشعراؤنا استفادوا من تجربتهم المتمثّلة بتفاعلهم مع النصوص الأخرى في الغرب، واستفادوا من التاريخ حين عادوا إليه.
*إذن أنت تبرّئهم من تهمة أنهم وقفوا عند النقطة التي انتهى إليها الغرب، وأكملوا معهم الطريق من دون أن يشاركوا في الثورات الثقافية والصناعية والاجتماعية التي مرّ فيها الغرب؟
– ما يكتبه المبدع لا يمكن أن تختزله، ولا يمكن أن تقطعه عن تجربته السابقة ومعارفه وخبرته؛ سواء أكانت آتية من تاريخ بيئته أو قراءاته، وممكن أن يكون حدث ذلك في تجربة أو تجارب قليلة؛ أما في الحالة العامة، فإنه لا يمكن أن ينسلخ عن ذاته.
*هل تعتقد أن استسهال قصيدة النثر عند بعض الكتاب الشباب، زاد من سيل الرداءة التي تنسب إلى الشعر العربي؟
– نعم يمكن أن يكون ذلك قد حصل، كما أنّ مجرد أن تكون مسألة العمود تنصبّ أو تتوقف على سلامة التفعيل أو النظم، فإن ذلك يسيء إلى الشعر.
وفي ختام الحوار أعرب الشاعر الكبير عن سعادته بـ “أثير”.