• س1: الأديب المهندس غسان كامل ونوس؛ أنت تكتب الرواية والقصة والشعر، وهي أجناس مختلفة؛ هل تتوافق عندك؟! وماذا يعني كلّ جنس بالنسبة إليك؟!
** ج1: هي تنويعات لحنية إيقاعية في فضاء الإبداع الأدبي، أصلها واحد وفروعها في الأرض والسماء؛ فالأجناس الأدبية تلوينات وتشكيلات؛ تتكاثف، وتحلّق أكثر؛ فيكون الشعر، الذي تتنوّع نبضاته ورعشاته، وتتوزّع حسب الحالة والإحساس؛ وقد تتناثر كويكباتٍ بكائنات محدودة، تتحرك في المحيط القريب، وتشعّ أبعد، بلا مدارات محددة؛ فتكون القصة؛ أو تطول المسارات، وتزداد الكائنات، وتتعالق الأجيال؛ فتكون الرواية..
أَمْرُ التخلّق ذاته، وعناصر التكوين، ومتطلّباته؛ لكنّ نماذجه مختلفة؛ من الحبو، والبيئة القريبة المحدّدة أو بعضها، إلى التحرك القريب والبعيد خطواً، أو قفزاً، إلى الدوران في المكان؛ فالتعمّق والغوص، أو الطواف والتحليق..
الأهمّ ليس الطول والقِصر والمحدودية والتعدّد في العناصر والكائنات والصفحات؛ بل الغنى الروحي والمعرفي، والقدرة على التمثّل والتمثيل، والإحساس القابل للانتقال إلى متلقّين نعرفهم، أو لا يعرفوننا.
ما أودّ تأكيده، أنني لا أختار مسبقاً الجنس الأدبي الذي أكتبه؛ بل الفكرة والحالة والرغبة والموقف هي التي تملي.. والأجناس في القرب إليّ تتنافس، ولا أعترف لأيّ منها بأنّه الأقرب والأكثر نداوة ورواء! ودعْني أقرّب الأمر أكثر: حين يهطل المطر، وتُشبَع الأرض، يمكن أن يخرج منها الماء سيولاً، وجداول، وأنهاراً، وينابيع، وآباراً ارتوازية، وبخاراً؛ متفرقة في الزمان والمكان، أو مجتمعة؛ منها ما يخرج من نفسه بيسر، وقد يحتاج بعضها إلى جهد للوصول إلى الأصفى والأنقى؛ المادة واحدة مع اختلاف بدرجة العكر أو النقاء، أو الكثافة، أو الاستمرارية، أو إمكانية مقاربته والارتواء منه..!!
• س2: أين تجد نفسك؟! علماً أنك كتبت بشكل إبداعي في الأجناس الثلاثة..
** ج2: أجد نفسي في كلّ ما كتبت، وأتمنّى أن يجدني القراء كذلك؛ علماً أنني كتبت أشكالاً أخرى، أسميتها “كتابات”، تشمل الخاطرة، والنص النثري المكثّف، والمقال الأدبي، والمقال الصحفي، والزاوية المتنوعة.. ولا أعتقد أنّ من المنطقي أن تختلف بصمات الشخصية الأدبية، باختلاف الأشكال التي أكتب؛ فالمعاناة عينها، والقلق ذاته، والتساؤلات، والبحث عن خلاص لن يأتي، وأمان لا يدوم، والتعامل مع خيبات ذلك، والمواجهة مع أسئلة الوجود والمصير، التي لا يستطيع الكائن “العاقل” الحيّ منها فكاكاً، ومتطلبات العيش، التي تلحّ، والعلاقات والأمنيات والحاجات التي لا تنتهي!!
ويمكن أن تتداخل هذه الأجناس، فتنتشي القصة بالشعر، أو تتناهض الرواية إليه؛ وقد يتلفّت الشعر أكثر نحو العلامات الفارقة، فيتلمس متكآت القصة والرواية، وقد يتوقف على تلالها، ويتزلّج على سفوحها.. وجميل أن يكون لكلّ منها حضوره وخصاله، وجوقته التي يختلف أفرادها، وتتنوع مهاراتهم، وجميل أيضاً أن تكون أشكال أخرى من الكتابة، قد تحتاج إلى مسمّيات، ولا تتطلّبها، لتعيش وتصمد، ولا يضيرها ما يقال عنها؛ إذ يختلف “الخلق جرّاها، وقد يختصمون”، فيما تمضي إلى لا مستقرّ لها، بثقة وعمق وإقناع..
• س3: هل ترى أنّ الرواية تنافس الفنون الأخرى؟! وهل تشبه القصة؟!
** لا أعتقد أنّ العلاقة بين القصة والرواية، تستدعي الكثير من الكلام؛ فهما ينطلقان من العناصر ذاتها: النثر الذي يتضمن السرد والوصف والحوار وسوى ذلك، والحركة والزمان والمكان… وإن كان مقدار كلّ منها، يتعلق بالنص وشخوصه وأفكاره وكاتبه؛ مع ذلك؛ فإنّ لكلّ من الجنسين خصاله، التي قد تتواشج، وتتقاطع، وتنحسر، وتفيض؛ وليس من الضروري أن يتحول كاتب القصة إلى روائيّ، وهناك روائيون لم يكتبوا النص القصصي.. ولا تصحّ المقارنة بينهما، ولا يستقيم التقويم؛ سهولةً أو صعوبةً، ولا قِصَراً أو طولاً؛ بل يمكن أن يجلّي الموهوب الجادّ في أيّ جنس أدبيّ؛ كما يمكن أن يتعثّر الأديب هنا أو هناك، حتّى لو أجاد مرات؛ وقد يبقى الكاتب يدبّ على أسواره، ويتمسّح بعتباته!
ولا بأس من الإشارة إلى أنّ هناك من يقول: إنّ صناعة النص القصصي المقنِع والمؤثّر بصفحاته المحدودة، وكلماته المعدودة، تتطلّب مهارة أكثر من التعامل مع بيئة أو بيئات، وفضاءات، وعناصر، وكائنات، وعلاقات، وأفكار؛ كما في الرواية؛ متناسياً أنّ إدارة هذا الكمِّ بكيفٍ يتلاءم مع كلّ منها، ويولّفها معاً، لتشكل عملاً روائياً منسجماً مضبوطاً بلا نشازات، ومفتوحاً بلا إطارات، يتطلّب مثل تلك المهارة والدقة والخيال والسعة والرحابة..
ومثلما كان الشعر ديوانَ العرب، وسفيرَ العالم، أزمنة طويلة، دارت أحاديث، وسرتْ تقويمات زمناً، ترفع من شأن القصة القصيرة، التي تنسجم أكثر مع إيقاع العصر المتسارع، وعدمِ قدرة الكائن المشغولِ على الوقوف طويلاً لقراءة رواية أو التمتّع بالشعر. لكنّ المفارقة أنّه مع ازدياد تسارع العصر، وانضغاط أوقاته، وانشغال كائناته، خرج من يقول إننا نعيش اليوم عصرَ الرواية، وإنّ الشعر والقصة دخلا في مدار الأفول! ربّما يعود ذلك، إلى أنّ لدى الكائن القلق المأخوذ بالحيثيات، والمبلبل بالتفاصيل، والمحاصَر بكلّ أدوات الراحة والاتصال، رغبةً بمعرفة النهايات والمصائر، أو خلاصات التجارب المعيشة أو المتخيّلة.. التي قد تقدّمها الرواية؛ إضافة إلى اعتماد السينما العالمية، والتلفزة المفتوحة أربعاً وعشرين ساعة، على الأفلام والمسلسلات، التي تتطلّب زمناً أطول، وتتناول حيوات وعلاقات وأجيالاً.. يمكن أن تتواجد في الروايات الأدبية، أو تستدعي كتابة رواياتها الخاصة المهتمّة بالمشهديات والرومانسيات، والإثارة والرغبات، التي تجذب المتلقّي حتى في أوقات انشغالاته؛ أمّا أنا، فلا أنشغل بهذه المقارنات والمقولات، وأرى أنّ لكلّ جنس أدبيّ ساد، أو يمكن أن يسود، أهميتَه ودورَه وحضورَه وفنانيه وقراءَه..
• س4: لقد اعتمدت في رواياتك على الإثارة والتشويق، كما في “المآب” مثلاً، وعلى اعتماد لغة الشعر؛ هل ترى أنّ هذا أكثر وصولاً من الرواية الحديثة؟!
**ج4: لن أعلّقَ على رؤيتك أنّ في رواياتي إثارة وتشويقاً؛ سواء في “المآب” آخرِ ما صدر لي من الروايات الأربع، أو في الروايات الأخرى، وإن كان مهمّاً بالنسبة إليّ، أن ينشدّ القارئ إلى ما أكتب، وأن يستمرّ في فعل القراءة إلى منتهاه؛ ولكنّي لن أكون سعيداً، إذا ما اقتصر الأمر على ذلك، أو طغى على سواه؛ لأنّ ما يغبطني كثيراً، أن يهتمّ القراء بما بين السطور، وما خلف الواقعة من أفكار وأصداء وأسئلة؛ أي ما تترك الرواية، وأيّ نص آخر كتبته، من انشغال أو اهتمام أو أثر؛ لأنّ الإثارة قد تكون آنية، والتشويق قد ينتهي مع القراءة؛ إنهما مهمّان لمتابعة القراءة؛ لكن الأهمّ: ماذا بعد؟! ولا أرى ضيراً –بالإشارة إلى ما ورد في سؤالك عن لغة الشعر- في أن تتحلّى بعض متون الرواية بفضاء الشعر. وفي الواقع، وبما أنّني لا أختار الكتابة في هذا الجنس أو ذاك –كما ذكرتُ آنفاً-؛ فلا أتقصّد أن يكون في ما أكتب إثارة أو تشويق، ولا أتوسّل لغة الشعر وأدواته، في القصة أو الرواية؛ بل إنّ ذلك يتعلّق بخبرة الكاتب وأسلوبه وخصوصيته. ويمكن أن يكون للّغة المجنحة أثر مهمّ حيناً، وقد تضرّ بالسياق العام؛ موقفاً أو رأياً أو فكرة، أو انبتاتاً وخروجاً عن القناعة والاستساغة. والمبالغة في أيّ عنصر، لا تكون مناسِبة؛ إلّا إن كان هذا من السمات التي يعتمدها هذا النص أو ذاك في سريانه..
أمّا القول فيما إذا كان ذلك أفضل من الرواية الحديثة؛ فمن قال إنّ هذا لا يندرج في الرواية الحديثة؟! وما هي المحددات المميّزة للرواية الحديثة، حتى لا يكون ما أكتب منتمياً إليها؟! وهذا بحث يطول..
• س5: الرواية الرمزية ما زالت تبحث عن ذاتها؛ ما السبب؟!
• ** ج5: الجواب على هذا السؤال أيضاً، يحتاج إلى تدقيق أكثر في مضمونه؛ فالبحث في الرواية الرمزية، لا يمكن أن يتمّ جزافاً، ولا أن تطلق الأحكام حولها من دون تبصّر وشمولية، في البحث عن عناصرها ومميزاتها وممارسيها وأعدادهم؛ وهذا ما لا أدّعي الإحاطة به؛ لكن، يمكن القول إنّ أيّ شكل جديد من الرواية، والأدب عموماً، يتوغّل، أو يتوزّع، أكثر ممّا اعتاد القراء عليه، أو يبالغ في التقليل من المتكآت والمفاتيح التي يحتاج إليها المتابِع العادي، سيجد بعض العسر في القبول والاحتفاء والسيادة؛ على الرّغم من أنّ هناك من يحمّل هذا الأمر تبعةَ إهماله أو كسله، في التلقّي الجدّي المهتمّ لِما يُنشر؛ من دون أن نغفل عن أنّ الخلل يمكن أن يكون في النص وكتابته؛ ومن المناسب أن أقول رأيي في أنّ الارتهان إلى شكل مألوف بحجّة القرب من القراء، -وقد يكون السبب الحقيقي العجز والشحّ- يؤدّي إلى موات الحيوية الإبداعية، حصاراً أو محدودية في انطلاقاتها، التي يُفترض أن تجد مدياتٍ تتّسع لها، أو أعماقاً تغنيها أو تغتني بها، وفي هذا حياة متجددة للإبداع والأدب والثقافة عموماً؛ كما أنّ إطلاق الأحكام غير المعلّلة سلباً أو إيجاباً، قد يسهم في هذا الموات.
• س6 لماذا تراجع الشعر كثيراً؟!
** ج6: إن الاهتمام بالشعر –وسواه من الإبداع- قد تراجع بتأثير الحالة العامة؛ لانشغال الناس أكثر باحتياجاتهم، وعلاقاتهم، التي تعقّدت، وابتعدت أوقاتهم عن البساطة والأريحية؛ على الرغم من ازدياد أدوات الراحة.. لكنّ ضجيج الحياة أفقد الناس فرص العودة إلى النفس، والالتفات إلى ما تقوله، وما يقول الشعراء في أمور الحياة وشؤونها وعناصرها، التي لم يعد يتسع لها الشعر، أو ينشغل بها، ولم تعد للشعراء “الأسوياء” متاحةً فسحاتُ التأمل والتعمق والسوحان؛ بل صارت الدروب محتشدة، حتّى ما قبل النزوح والتشرد، بالهائمين على حاجاتهم، أو رغباتهم، أو نزواتهم، التي باتت– أيضاً- تنشغل بها الأركان، وتكتظّ باللهاث والأنين خيباتٍ ومراراتٍ وقلقاً؛ حتّى المناسبات التي كانت، وما تزال، تحتاج إلى الشعر ولاءً أو رثاء، لم تعد مجزية؛ فهناك ما هو أدسم!
فالقلق الوجودي، والتساؤلات عن السبب والغاية والمآل، لم يعد لها حضور مؤثّر، وحلّ محلّه قلق حياتيّ آنيّ ضاغط، يتعلق بالأمن الذاتي، والخلاص الفردي، الذي لا يعتمد على الشعر وبُناه وأطيافه وخيالاته؛ بل على مناورة، أو مداورة، أو ممالأة أو استسلام..
كما أنّ اللغة، التي تشكل العنصر الأساس في الشعر، وسواه من الأجناس الأدبية الأخرى، حُوّرت، وعُكّرتْ بلهجات ولغات أخرى، وفيما أصبح العالم سوقاً متصلة ومتفرّعة وعابرة للحدود، فقد تأثرت لغة الشعر بهذا، فصارت أقلّ حناناً وحميمية؛ كما العلاقات بين الناس، حتّى الأسريّة منها.
وخيول الشعر باتت تُعثِرها الأسلاك الشائكة، حتّى في النفس، والضباب صار تمويهاً بشرياً، بعدما كان ظاهرة طبيعية؛ كالمطر الذي غاب أو تحمّض، أو غدا نتاج استمطار لا يُشبِع.. والحال هذه، لا تستطيع أن تنتج نصوصاً شعرية مميّزة -من دون أن ننفي وجود مجموعات منها-؛ إضافة إلى أنّ المواقع والميادين والمنابر الإعلامية والثقافية والاجتماعية، العامة والخاصة… مشغولة بأمور أخرى، وروّادها –للأسف- كذلك!!
• س7: هل هناك مواهب لم تصل إلى حقّها؟!
**ج7: لا أعتقد، ولا أتخيّل، أنّ جميع أصحاب المواهب وصلوا –ويصلون- إلى ما يستحقون في أيّ عصر؛ منهم من يتحمل مسؤولية ذلك؛ فهو لم يهتم بموهبته، ولم يُغنِها، أو يسعى إلى إظهارها؛ وآخرون لم يستطيعوا الوصول، على الرغم من مساعيهم وجدّهم؛ لأنّ ممرات إبداعية عديدة مشغولة، أو غائمة، أو ضائعة بين الثغرات التي فتحها عابثون، أو حاقدون، أو مدّعون.. وحراسها كذلك، في غالبيتهم، للأسف؛ ومثلهم كأندادهم في الشرائح الأخرى، وإن كانوا لا يعترفون بذلك؛ فيما يكيلون التّهم لأولئك، ويمارسون ما هو أفظع في الإبداع؛ لأنّ قتل الموهبة أشنع من قتل النفس بغير حق؛ فهو قتل لأنفس مشعة، وتبديد لرصيد لا ينضب، ولا يفنى؛ وبالتالي تدمير لمستقبل وأجيال! فليس من يقوّم مُحقّاً في أحوال كثيرة، أو عارفاً، أو خبيراً، أو موضوعياً، وليست الحدود واضحة، ولا المعايير قاطعة، إن وجدت، أو اُعتمدت، ليُستَنَدَ إليها في المنح أو التعويم، وهذا يتيح لكثيرين أن يَعبروا بلا جوازات إبداعية، ويتسيّدوا بلا مشروعية، ولا إمكانيات حقيقية. مع ذلك، فإنّي أثق أنّ الموهبة الأصيلة، تستطيع أن تخترق بانبثاثها الحجبَ، وبانبعاثاتها الحواجزَ والحدودَ المادية والمعنوية، -ولا بدّ من تضحيات- إن أصرّ أصحابها، والمهتمون الجدّيون، على احترامها وصونها وتغذيتها، والمضيّ بها ومعها إلى ما يمكن أن تصل إليه، فتفيض وتُقنع.
• س8: ما سبب التراجع الثقافي بشكل عام، والأدبي بشكل خاص؟!
** ج8: ذكرتُ بعض الأسباب في حديثي عن تراجع الشعر، وأُكمل في ذلك؛ لأنّ الموضوع يستحق، والحال التي وصل إليها العالم الآن كارثية؛ إذ إنّ الأمر يتعلق بظروف مستمرّة، وأخرى مستجدّة، بكائنات تغيّرت أولوياتها، وتبدّلت جداول أعمالها، وتلاقت أو اتّفقت أحياناً، أو اختصمت أكثر.. تضاعفت إمكانيات التواصل، وتفاقمت أسباب الخلاف، وانتشرت المواجهات بكل دمويتها، والمماحكات بكل شراستها، عبر الشاشات والإذاعات التي تتوالد لهذه الغايات القاتمة؛ ازداد التصنيع في المادة، والدمج والتخليق والتسويق.. وبرز التدجين في الكائنات، والتشويه في القيم والرموز والأخلاق، وتعويم مظاهر التسطيح، وسلوكات الاستهلاك، وطفا النفاق، وعام التملّق، واستوى على عروش الأقدار الأرضية تجار مواقف وشعارات وفتاوى ومدارس وأقوال، تجرّم على التفكير؛ ناهيك عن القول والممارسة، حتى صارت الأقدار الأخروية مدار مساومة وابتذال وإرهاب.. وتضاءل الهاجس الثقافي أمام الهموم الأخرى!
وحتّى من أراد الخلاص من الشرّ والبلوى، وكان حسنَ النية، تشوّشت لديه الرؤى، وضاعت جهات الوثوقية، وغابت الثقافة في الإعلام والتضليل والإعلان والتعويم والاستهلاك..
فخفّت حصانة الكائن، وضعفت الروابط الانتمائية، وأصيب بالهشاشة المناعية، والضبابية الرؤيوية، والترقّق المعنوي، وصار عرضة للمؤثرات الغابيّة، التي تنوّعت، وتجدّدت بقصد مباشر من أصحاب النوايا السيئة، ونتاج غير مباشر من الكائنات المشوّهة، والسائد من الأفكار والمصطلحات والمفاهيم والممارسات، وصار رواد الثقافة من المغضوب عليهم بالسبب، أو بالنتيجة.
لقد قلّت القراءة، وخملت المتابعة، وبهتت حال الندوات والأمسيات والمحاضرات؛ وما زلنا نعلّق على قلّة الحضور، وندرة المتابعين من الجيل الشاب، تضليلاً لأنفسنا، واتّهاماً للغائبين: بأنّ الكرام قليل! من دون أن ننظر إلى ما يُقدَّم، ومن يقدِّم، ومن يشرف، أو يُعِدّ، ومن هم القائمون على المؤسسات الثقافية، ومن يعيّنهم، وعلينا أن لا ننسى أنفسنا؛ نحن الذين ننتخب من لا يستحقّ، ونمالئ، ونجامل، ونرضى بالقليل من الفُتات، ونسكت عن الكثير من الارتكابات والتقصير والممارسات غير الأدبية، تحت ستار المهمة الأدبية..
وليس ممكناً استمرار الحال الثقافية البائسة هذه؛ ولا يمكن أن يحلّ تغيير جدّي، بالآلية نفسها، عقلية وتفكيراً وتسويغاً ومصالح ذاتية وهواجس غير ثقافية!
لقد أظهر العدوان الظالم على سورية خواء الجبهة الثقافية، واقتصارها على كتابات قليلة هنا أو هناك، وحالات فردية من الوعي والموقف والرؤيا؛ ولا سيّما من النخب الثقافية! فيما كان الحسّ الشعبي الفطري، في كثير من المواقع والجبهات، أساسياً في المواجهة المعقدة، بمراحلها المتبدّلة، وفصولها القارسة..
وفي رأيي، إنّ أصل الأزمة الكارثية التي نواجه، ثقافي، وبالتالي؛ حلّها الحقيقي لا يكون إلا ثقافياً، والحلول الأخرى الضرورية أيضاً في ظروف وأحوال ومواقع عديدة، تبقى مرحلية، وموضعية، ومحدودة التأثير، وقاصرة عن الوصول إلى العلاجات الآمنة المديدة، وهي تحتاج، بعناصرها ورؤاها وخطاها، إلى الثقافة في كلّ وقت؛ فالحلّ الثقافي أشمل وأوسع وأغنى وأكمل وأوثق؛ ابتداء من البحث في الأسباب، وتحليل الوقائع، ومتابعة الجبهات، وقراءة النتائج.. وصولاً إلى تصوّر واع ومسؤول عن الهدف والغاية، والسبل المضمونة للخلاص، والكفيلة بالتحصين المادي والمعنوي المستديم! وقد كتبتُ، وتحدثت حول الحلّ الثقافي، في أكثر من موقع!
• س9: أين النقد؟! ولماذا غاب؟!
** ج9: ومتى كان النقد موجوداً فاعلاً ليغيب؟!
فالناقد يحتاج إلى رؤى ثقافية أو معرفية عامة؛ إضافة إلى مهارات وإرادات وأدوات وعناصر، ولا يتوقف الأمر على قراءة مستعجلة، ومحفوظات من الآراء عن المناسب وغير المناسب، الجيد والرديء، وأفكار مستهلكة، ومواقف مسبقة. ومن المؤكد أنّ الرغبة أساسية في ذلك، والمسؤولية عما يقول الناقد أو يقرّر، أولاً وأخيراً..
فما هو عدد النقاد الذين يتصفون بهذا أو جلّه؟!
وبالتالي؛ هل يمكن أن نتوقع، أن نقع على مشروعات نقدية جدية ومجدية، تنطلق من أرضية خصبة حيوية، وإمكانية الحركة والفهم والبحث، وتتعامل مع ما هو موجود من نصوص، بصرف النظر عن الأسماء ومناصبها ونفوذها، وكيفية وصولها ونشرها وتسويقها إعلامياً وسياسياً واجتماعياً؟!
هناك أصوات فردية ناقدة، ولها محاولات جدّية، ولكنها قليلة وباهتة في مجرى القول المجاني، والحكم المتسرّع، والتقويم العاطفي المتعلّق بالعلاقة الشخصية والمصلحية؛ حتى العرض الصحفي، يخضع كثيره إلى مثل هذه المواقف؛ فيهتمّ بكتاب لفلانة أو فلان، ولا يهتمّ بكتاب آخر.. وللقائمين على المواقع والمنابر الثقافية والإعلامية دور مهمّ في ذلك؛ ولا سيما إذا كانوا من المثقفين؛ فيسهّلون عبور من “يبيّضون الفال” بالرنين أو الطعم، ويعقّدون المنافذ أمام آخرين، لا يملكون سوى الموهبة للوصول؛ أمّا الإقامة الآمنة، فهي في علم الغيبِ، والراسخين في النشر والتسويق والنقد..!!
***