الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: فريال سالم مكارم
الناشر: الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

جريدة الاسبوع الادبي العدد 1021 تاريخ 26/8/2006
فهرس العدد صفحة جريدة الاسبوع الادبي

“العائذ-مفازات-تقاسيم الحضور والغياب-” في أدب “غسان كامل ونّوس” ـــ فريال سالم مكارم

مع نسيم كلمات “غسان كامل ونّوس” نسافر، نتوغّل في نسيج قصصه الاجتماعيّة الوجدانية الخلاقة، في إطار حواري مابين الأنا والضمير، وهذه دعوة صريحة للإنسان كي يعود إلى إنسانيته التي استمدت هويتها منه.‏

ومجموعته القصصية “العائذ” هي بمثابة العائذ من الضمير الخائف دائماً من عيونه المتيقظة، إنها تعالج تلك القضايا الإنسانية البشرية، و”معرفة” الآخر المصنف المخالف لجنسنا، تدعونا بنهم منذ تفتح أزهار شبابنا إلى التعرّف على الآخر، وفي الوقت عينه تقارن بين رجل يُمضي عمره لاهثاً وراء لذّاته، وبين آخر يجري وراء تحصيله العلمي والثقافي لإثبات قدراته العلميّة والفكريّة في مجال من مجالات الحياة.‏

معه نتلمّس عري النفس البشريّة أمام ذاتها، ودبيب الضمير يدغدغ وجدان صاحبه، ويلاحقه أينما حلّ أو ارتحل، ويكون الرقيب الدائم على تصرفاته، والضمير الحي عند بطل “الدبيب” تنبعث ثورته فجأة حين يندسّ في فراش امرأة، حيث يتقهقر العقل متراجعاً إلى الوراء، متقوقعاً على ذاتها؛ لتطفو الرّغبة على ساحة الوعي.‏

“ونّوس” كاتب، ناقد بصير، يشعر في “زعرور” إشارة ذكيّة إلى نفوره من التملق والكذب وعبارات الترحيب التي تقال في بعض الأحيان مقابل مصلحة شخصية، وعبر صوت البطل نسمع صوته:‏

“وضع يديه على أذنيه، حاول الهرب من الضّحكات المشرعة، والقبلات الحميمة/…/ ومن كاتم الصوت، أطلق النار على الشاشة، وضحك عالياً، وقد تطايرت الملامح والوجوه والأنخاب مع الزّجاج”. ص60.‏

عجلات الزمن تدور بسرعة، تدوس في طريقها سنوات عمرنا، لتتركنا على “مفترق الرّماد” هذا اللّون المتراوح مابين الفرح والحزن، كأنه شحوب سنواتنا الآتية:‏

“تلك التي تحبّ الفرح تركتك، الأخرى المولعة بالتحسّر والندب تركتها، وأنت الآن وحيد، لا تستطيع رسم معالم ماقد يأتي”. ص 76.‏

نجد أديبنا “ونّوس” يركز على الإنسان ليكون صاحب بصيرة نافذة، ويبقى متيقظاً على الدوام مثل “عدوّ حيوي” ذاك النسر القوي الذي يهابه أهل القرية ويخافون على أعناقهم منه.‏

إلاَّ أنَّ “مفازات” مجموعته القصصية التالية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 2003، كانت أكثر بعداً وعمقاً من نظيرتها “العائذ” التي سبقتها بسنتين.‏

أول ما يلفت نظرنا في “مفازات” هذا العنوان، الصحراء الواسعة الشاسعة التي لا ماء فيها، ولكنها مفلحة، منجاة، إذا ما غرسناها نخيلاً تفوح طيباً وعنبراً، وقد أغرق، “غسان كامل ونوس” لوحات قصصه في هذه المجموعة، بظلال واقعيّة، حيث صحونا فجأة في مساحة “اللازورد” التي وهبتنا إياها بعض قصصه والتي أسقطت أحداثها على الذات، صبغة معنويّة، وخلقت لها بعض العناصر الطّبيعيّة، فتبدّى لنا هذا التنوّع الجغرافي الداخلي في أنفسنا.‏

معه نتلمس رقة ألوان الروح البشريّة ودعة النسيم في تمازج العقل مع النفس، و”الخريف” ثوب رمادي، ولكنه جميل، والأجمل منه الخصوبة التي تأتي عقب رحيله، وتبعث في الطبيعة الحياة.‏

جاءت “الثمرة” لتؤكد على استمرارية الحياة البشرية من خلال تلميح كاتبنا إلى ثمرة الوجود الإنساني المرأة التي إن عطشت ذبلت وآل مصيرها إما إلى السرقة أو إلى الفناء:‏

“كان لها طعم الماء/ عطّشتها../ بدأت تذبل أمام عينيّ، وتحت أنفاسي/ يئسْتُ، أهملْتها./ وعدتُ أنظر في الجهات كلّها./ سُرقت..”.‏

على أوتار التعليق السّاخر عزف الكاتب “غسان” حين أشار إلى أنّ “الصوت” لا يمكنه أن يعبّر عن نفسه، ويرتفع عالياً، إلاَّ في غياهب الأحلام.‏

و”الإنجاز” إذا ما جناه الإنسان عليه أن لا يصاب بمرض الغرور، ويتوقّف عن متابعة الإنجازات المستقبليّة، ولا يغلق الباب على نفسه، ويلتهمه اليأس إذا ما حلّتْ به المصائب والمحن، بل عليه أن يترك “المفتاح” في الباب الذي هو بمثابة كوّة صغيرة يدخل من خلالها النور إلى ظلمة الأسى ويبعث الأمل فيها.‏

بين دفات مجموعتي “غسان كامل ونوس” القصصية، تنقّلنا مطربين باللغة الموسيقية العذبة، مستحسنين أسلوبه الجزل البلاغي الشفاف الثريّ بمعالجة الموضوعات الاجتماعية والنفسية الخاصّة. وفي رياض القصّ عنده ننتقل على الأفنان، ثم نرحل على أجنحة الأثير إلى أيكة روايته “تقاسيم الحضور والغياب” التي بإمكاننا أن نعدّها إحدى أمنيات الروائي “غسان” في أن نصبح منفتحين على العلم، فلا يستبدّ بنا الجهل.‏

إنّه في هذه الرواية يدعونا دعوة صارخة ملؤها الصّدق العفوي إلى عدم البقاء مقيّدين مشرذمين مابين الأمس “الغياب” والحاضر “الحضور” اليومي، بل يتوجّب علينا الاستفادة من الغياب لنطور الحضوروالمستقبل، وبهذه الإشارات ينتسب إبداعه الروائي إلى الواقع البسيط الغارق في الحلم والتطيّر، والخرافات المتشعّبة و”الكتيبة” والإيمان بالأرواح والشياطين.‏

إنّنا نعايش الواقع في القرية “المسكونة” على سبيل المجاز، حيث يبدو لنا ذاك الواقع مؤزما” على صورة رواية نسجها خيال المؤلف “ونّوس” معتمداً على حقائق ملموسة في بعض المجتمعات الريفيّة وربما المدنيّة أيضاً، فالمسكونة كأنها كلمة شاملة تعبّر عن فكر واعتقاد مسكونة المجتمعات العربيّة بغالبيّتها بوجود الأشباح والأرواح الشيطانية…‏

وقد شكل الحب الوفي الطاهر هاجساً من هواجس الرّواية من خلال علاقة العشق بين، سهام “الفتاة المتعلّمة والمتمدّنة والتي تعرّفتْ عبر زيارتها الأولى إلى القرية بابن عمّها “نبيل” الشاب المتعلّم الذي يرفض من بين أصحابه الاعتقاد بالشعوذة، وعن طريق الحوار بينهما نشأ الحبّ وترعرت نفسيهما في ظلاله.‏

وهذه الرواية تهجس بأزمة التخلّف وانغماس الناس في مخلّفات الشعوذة واتخاذها طريقاً للعلاج النفسي والجسدي، وقد نقل الروائي “غسان” الواقع بإخلاص، فحيث تكثر أساليب الدّجل لا يمكن أن تظهر قوى فاعلة في التغيير، وتستطيع قيادة المجتمع نحو الأفضل المعتمد على العلم والمعرفة إلاّ ما ندر.‏

وبما أنّ أحداث الرواية متكاملة، متشابكة، مرتبطة مع بعضها بعلاقات خاصّة، وديّة، تعاونيّة، تآلفيّة، وجدنا كثيراً من المشاهد أسّسها الكاتب على إيقاع ريفيّ، من طبيعة ؛ مياه، شمس، وليل، كما أننا وجدنا أنماطاً ثقافية تقليدية، سلبية، مشى خلالها الشباب الذين يتعلمون في المدينة مع تيار السحر، وقد عشنا مع هذه الرواية فضاءات متعدّدة انتقلنا مع أبطالها من الرّيف إلى المدينة، كما انتقلنا مع “شهلا” إلى بيروت.‏

بفضل هذه الفضاءات المتنوّعة “إنسانياً، وجغرافياً، استطعنا أن نعايش أزمات مختلفة، أزمة المدينة واجتياحها للريف، وأزمة مجتمع يعاني من سيطرة الخرافة والمظاهر الكاذبة الجوفاء، وهذا العرض الذي قدّمه لنا الروائي، لهوَ بمثابة إنذار يضعنا أمام حقائق سوداوية، تعصف بنا، إن لم نتعلّم كيف نتخلّص من مخلّفاتها في زمن تحكمه العولمة، والتقدّم التقني.‏

هذه الرواية تشير بانتمائها إلى زمن ماضٍ قديم العهد من خلال وصف الكاتب للبيوت القديمة المبنيّة من الحجارة والطّين، وكذلك عبر جعله بعض شباب الضيعة يقصدون المدينة لمتابعة تعلمهم، وهذا الزمن لم تكن فيه القيم الإنسانية الأصيلة منهارة بعد، إنما صور لنا إنسان ذاك الزمن الماضي الذي تهجس فيه الرواية، وكأن الكاتب يدعونا للعودة إلى الجذور والأصالة، من خلال عرضه نماذج من أهل القرية “المسكونة” عارضاً الجوانب الإيجابية فيها، موجهاً منتقداً الجوانب السلبية التي تختفي في حناياها، كالثرثرة وتناقل الأخبار السيّئة، والإيمان الكلي بالأرواح والأشباح.‏

تقوم رواية، “تقاسيم الحضور والغياب” على عدد من الشخصيّات الرئيسية المحوريّة “شهلا-مرزوق- أم سعد-نبيل-سهام-مبروك”. في حين نستطيع أن نعدّ شخصيّة “سمير-جميل-سليم-واصف-وأبو توفيق” الشخصيّات الثّانوية، ليليها “حمدان-الدرويش-وأبو مصطفى المصمودي..”. ولكن بإمكاننا أن نلاحظ أنّ صوت “أم سعيد” والبطل “مرزوق” كانا طاغيين على النص، مع السّماح للأصوات الأخرى أن تصعّد الأحداث. والتعشيق الحاصل مابين صوت البطل “نبيل” وبين الروائي “غسان” أمدّ النصّ بالقوة، والجمالية المميزة من خلال الحدث نفسه الذي هو طابع تغييري سريالي، وهذين الصوتين جسّدا معاناة المتعلم بوجوده في جوٍّ خرافي، معاً رفضا أساليب الحيل والشعوذة، ومعاً دعا إلى الأخذ بالتفسيرات العلمية.‏

بالمقابل قدّم المؤلف شخصية “مرزوق” التي تعد نقيضاً لصوت ولديه “مبروك وسهام” المثقفين الملتزمين بكل ماهو علمي، فالوالد “مرزوق” يلهث وراء المال والسمعة الطيبة عن طريق خداع الناس بوجود الأشباح، والمفارقة المبدعة التي غرست أحداث الرواية في أذهاننا كانت عندما ارتعب “مرزوق” من الأصوات الصادرة من باطن الكهف الذي اتخذه خلوة له، وظنّ أنّ الأشباح جاءت لتنتقم منه، وهو الذي لطالما جذب أهل “المسكونة” ليخلّصهم من الجنّ الذي يسكنهم، وبهذه الإشارة الذكية فهمنا أن ذلك الشخص دجال من الدجالين الذين يكثر وجودهم بيننا.‏

إضافة إلى ذلك، فقد غدر “مرزوق”، “بشهلا” دون –أيّة قيم أخلاقية أو ثقافية أو وطنية تردعه، فهو منذ مطلع شبابه لم يكن يحب صياح الديك، ولا يطيق رؤية عصفور يغرّد حرّاً طليقاً، كان يمزّق جسده برصاصة من باردوته، والقهقهات تتدحرج على فمه.‏

اعتمد الروائي غسان كامل ونوس “الأسلوب السردي والحواري”، وبالمقابل رأينا شخصيّة أم سعد سلبيّة، تقابل أقوال “مرزوق” الكاذبة بالتصديق وتنشرها في الأجواء، وبهذا باتت أقرب إلى التبعيّة المساعدة على ترويج الخدع والنفاق، حيث خرج “مرزوق” من الضيعة بعد اعتدائه على “شهلا” وعندما أراد العودة إليها بعد سنوات طويلة ادّعى وبالحيلة أنّ “الولي طاهر” قد اختاره في سبيل تكريمه، عندما زاره في الحلم وطلب إليه أن يحفر تحت الشجرة ويكشف عن قبره المبارك.‏

إن جمالية اللغة تكمن في استخدام المؤلف اللغة المحكية لبعض أشخاص روايته ممن لا يمتون إلى الثقافة والعلم بصلة، واللغة الفكريّة المفكّرة لمن يتعلم، وأخرى لمن علّمته الحياة لغتها، ومثل هذه التفاصيل اللغوية تبدو أكثر تأثيراً، خاصة عندما يسبغ مشاعر الخجل على العاشقين “نبيل وسهام” إننا نسمع لغة أقرب إلى الشعر والقلب وأحياناً يدخل النشوة إلى قلوبنا في وصفه بيوت الريف وطبيعته والبيادر ومواسم الحصاد وأعياد الفراش، وهي دعوة أصيلة إلى التمسك بالجذور والتراب والأرض بغير تعصب قومي أو عرقي.‏

غير أن الخاتمة لم تبد منجزة بوضوح، كما عهدنا في بعض الروايات، فلم نعرف مصائر الشخصيّات كلها، وإنما وجدنا المشهد الذي يتعلق بالخاتمة في نهاية “مرزوق” الموت الحتمي، ولكن كيف مات؟! لطالما فهمنا بالتلميح من خلال مصارحة ومحادثة “مرزوق” لنفسه أنه قتل “شهلا” لربما كان على المؤلف أن يوضح طريقة الموت ليوحي لنا بالعقاب، فكلنا إلى الموت صائرون.‏

وهكذا نجد أن النهاية قد لفّها الغموض نوعاً ما، وكأن بالكاتب يريد أن يشارك المتلقّي لهذه الرواية، فيضع الخاتمة التي تناسبه بعيداً عن تحليل المؤلف وتسلط فكره.‏

مع أدب “غسان كامل ونوس” ومع روايته “تقاسيم الحضور والغياب” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بـ/192/ صفحة من الحجم الكبير وبتصميم غلاف تمازجي الألوان مابين الأحمر والبني التراب، والأخضر الأمل –للفنان المبدع “غيّاث محمد حمود” قطعنا المسافات الآنية، واجتزنا بالخيال حدود الغيم وملأنا جعبتنا بالغيث والثرى.‏

E – mail: aru@net.sy

| الصفحة الرئيسة | | دليل الأعضاء | | جريدة الاسبوع الأدبي | | صفحة الكتب | | صفحة الدوريات-مجَلات | | فهرس الكتب | | اصدارات جديدة | | معلومات عن الاتحاد |
سورية – دمشق – أتوستراد المزة – مقابل حديقة الطلائع – هاتف: 6117240 – فاكس: 6117244

اترك رداً