الإيقاع الشعري في «أوقات برية» – عدد القراءات : 255
البيت كالكهف، حجارة وطين، وسقف كبيوت الغابات،.. شمعات نحيلة تجهد في مقاومة السواد.. الظلمة وقت وطقس وهم حال من الأسى المكتوم، والفراغ المشاكس، والانتظار المنقوص العلامات والمبررات والصدى. دائماً في عالم الأدب أو الشارع الثقافي والفني، بشكل عام، نميز بين شاعر وكاتب وفنان، ولكن عندما يأتي كل ذلك في سطر واحد أو كلمة واحدة رسمها كاتب على شكل لوحة تشكيلية في أغلب صفحات كتابه فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا الكاتب قد وصل إلى مستوى راق في التعبير عن عالمه الذي اختاره لنفسه، وبالتالي فهو يعبر عن حالة الوعي والإدراك لما يريد أن يقول، فيجمع بين حنايا سطوره لوحات تشكيلية لها جاذبيتها من حيث فنية الألوان الشاعرية التي يقطف ثمارها من الطبيعة الزاهية بكل تفاصيلها في أي مجال يخوض فيه… هي رواية تحمل بكل تفاصيلها وشخوصها وأشيائها، وحتى في ألوان غلافها تفاصيل هذه الطبيعة.. إنه العبق الذي يفوح عبيره من «أوقات برية».. ماذا كان قصد الكاتب غسان كامل ونوس من هذه الفنية في الأسلوب الذي كتب هذه الرواية؟ هل أراد أن يقول لنا هذا هو أنا.. رغم ذكورتي أستطيع أن أكون فراشة تحلق في فضاء الطبيعة وأستمتع بكل ما تحمل من سحر ومن جمال؟… لماذا ركز على الشكل الفني للجملة بشكل لافت؟ ثم لماذا قام بموسقة الكلمات والجمل والتعابير وجعلها شاعرية؟ هل أراد أن يقول بأنه عندما يكتب عن شيء ما، قادر على إيصال مشاعره وأحاسيسه إلينا بكل حالاته أثناء كتابته لهذه الرواية؟ أم ليجعلنا نعيش تفاصيل هذه المشاعر كما عاشها هو تماماً. «شبه دخول.. دخول غائم… محيط عائم في ظلام يكاد يهيمن..» في هذه الجمل كان يعتمد على جملة تركيب وصفية تعطي معنىً فاعلاًِ في الرواية، فيداعب بها خيالنا بإيقاع موسيقي شديد الحساسية.. ثم يصف لنا مشاعره المبطنة التي تتأملها ذاته الداخلية بطريقة سردية شاعرية مرموزة: «طريق موحلة.. وأناس، ..سيتركنا آخرهم بعد قليل من دخولنا الباب.. في شبه غربة» حتى في إصراره على حضور الباب كحالة لها تأثيرها في حالة القارئ وهيئته، فيتقمص هذا القارئ هيئة الكاتب وحاله ولكن بشكل عفوي ودونما شعور في الكثير من المقاطع التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الشاعرية الطليقة التي تتسم بها الرواية. «صوت باب يفتح آثار انتباهك الموجوع.. الباب يفتح ويغلق مرة أخرى. الجرجرة تتلاشى» وحتى في الحوار لا تخلو هذه الرواية من جرس موسيقي في الطريقة التي كانت تعبر بها شخوص الرواية في بعض من مقاطعها…«¬هل تخافه؟! لعلك تخاف من الذباب أيضاً!» «¬عيناك تنغرزان بها، أحدثك فلا تسمعني!» وفي حالات أخرى نجده يؤنسن الأشياء والطبيعة إلى حد تشعر معه بأنها أشخاص من الواقع، مخيرة، تحس وتشعر وتتأمل وتفكر وتتخذ قراراً في وجدانية لا ينقصها إلا أن تكتب على شكل قصيدة.. ونراه في الكثير من المقاطع يسهب في شاعرية يغلب عليها الطابع الرومانسي حتى ينسينا أننا نقرأ رواية فنحلّق معه في عوالم رومانسية وشاعرية حتى نصل إلى حالة نعتقد معها أننا نقرأ نصاً لجبران خليل جبران: «في الظلام تتساوى الأشياء، تتحد، تقترب وتتلاشى.. في الظلام يمكن القيام بكل شيء دون خوف العيون… في العتم تغتلي الأفكار، تحترق الأعصاب، يترمّد الزمن… حين تغيب الشمس يسكن كل شيء في الكهف.. حين تأفل الشمس تنوس الحيوية.. وتؤوب الكائنات إلى مستقرها.. كل شيء يغيب، ينام، يضيع حين تضيع»
أوقات برية¬ رواية تأليف: غسان كامل ونوس