الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: يوسف مصطفى
الناشر: جريدة البعث
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

العدد: 14352 – تاريخ: 2011-10-05

«موضوعات ومواقف».. لـ غسان كامل ونوس الومض الفلسفي والاستحضار القيمي وضبط الدلالات

أن تذهب إلى صافيتا ومحيطها زائراً ومحاوراً، معنى ذلك أنك ستحط الرحال عند الأديب، القاص، والروائي، والشاعر أيضاً «غسان كامل ونوس» جليساً ولطيفاً، ومحاوراً، ومستمعاً جيداً، وفي حكمة القول: «إن أدب الاستماع كأدب القول والحديث»، إنه المعادل الثاني «لثقافة الحوار»- الرأي والرأي الآخر، في كل ما كتب «غسان ونوس» كانت هوية انتمائه لمحيطه، لترابه، لمجتمعه، كتب رواية «تقاسيم الحضور والغياب»، وصدرت بطبعتها الأولى عام 2002، وفي تقديري شكلت نقلة نوعية في كتابة الرواية السورية، وفي الاشتغال التفصيلي على محيط القرية، وعلى تفاصيل اللمم الاجتماعي، ومفارقاته.
كما شكلت ملحمة تراجيدية وصفية لحياة بطلتها «شهلة».. الضحية الاجتماعية التي تنكّر لها حتى العاشقون الأوائل، كما كتب العديد من المجموعات القصصية، والأعمدة، والخواطر في كتابه الجديد «موضوعات ومواقف».. والذي ضم أربعة وأربعين مقالاً حملت عناوين مختلفة منها: «الإنسان والبرهان، الواجب والروح، أنت وأنا، ما بين الألم والأمل، المسؤول الذي كان، الزمن، فضل القيمة».. إلخ.
في عتبات العناوين حملت هموماً اجتماعية، وواقعاً معاشاً، ونقداً لسائد اجتماعي، وإشارة لسلبيات وأخطاء، وعرضاً لمواقف، وأنماط في التفكير والسلوك المجتمعي لا تحمل صحيحها بل فرط أناها، وضيقها، وتفعيلها الشخصي في لغة الكتابة، وأسلوبية عرضها، ولغة العرض، والتقديم حيث يبدأ المقال بجملة إلفاتية تفتح مساحة العرض للمادة المرادة وتحمل إثارة تشويق قراءتها في مقاله الأول: «الإنسان والبرهان» بدأ بعبارة «يا صديقي الجميل» ليصل لفكرة مركزية تكون فاتحة بداية المقال: «متى كان تعبير الصديق غير كافٍ لوحده، ومتى كان قائله يحس أنه ناقص الدلالة، أو غامض، أو ساذج؟! ويحتاج إلى كلمات أخرى لوصفه، أو تسويقه، أو تزيينه؟!».
ما أراد الكاتب قوله: إن اللغة والمفردة لم تعد تحمل معناها وجوهرها، ودخلها الكثير من الزيف أثناء استخدامها، أو إطلاقها.. فلفظة «الصديق» أصبحت مجانية، ورخيصة الاستخدام، ووتحمل تزلفها، وحشرها في غير مواقعها، والخلط بينها وبين دلالات أخرى: كمعرفة فلان، ومشاهدة فلان، والالتقاء بفلان، وإطراء فلان، ومجاملة فلان، وكلها أصبحت عند البعض أنماطاً صداقية تحسب في خانة الصداقة، وبعدها الوجداني النبيل، وغدت الكلمة تحتاج إلى الوصف: الصديق النبيل، الصديق المخلص، الصديق الحميم، الصديق الخدوم.
وصارت الكلمة مفردة لا تحمل هويتها، ودلالتها، وتحتاج إلى الإضافة أو الوصف.
الأجمل في استطراد المقال، إقامة الدليل على مجانية لغة التعامل، ومجاملاتها غير الصادقة، يقول ص/5/: «وليست الصداقة وحدها تتطلب مثل هذه الإضافات أو تلك، بل إن «الحب ذاته» وقد كان بضاعة نفيسة صار يحتاج إلى تعريف، وأضحى تعبيراً فضفاضاً أو غائماً.. بالياً ربما»، فهناك من يقول: الحب الأكبر، أو الوسط، أو الضعيف، ويسأل الكاتب ما معايير ذلك؟ وما مقاييسه.
رؤية «غسان ونوس» للحب هنا أنه قضية قيمية، وإنسانية كبيرة، وأنه عنوان وجداني كبير، صادر عن القلب والعقل، وترجمته مواقف وسلوكات، وأنه كلٌ إنساني كبير حتى في شكليه، «العشق الأنثوي والاجتماعي الإنساني».. مهما كانت دوافعه، وبواعثه، فتجلياته العملية متقاربة، وموحدة التعبير الاجتماعي، وليست اجتهادات شخصية، وكلٌ يفصّل مفهوم الحب على هواه، ومزاجه، وإحساسه وكيفه..، وهنا يشتغل الكاتب على القيمي: العقلي، والوجداني، والإرادي الواعي، وتعبيره السلوكي، ويدعو ناقداً لضبط المفاهيم، ودقة استخدامها.
في عمق ما أراد الكاتب الوصول إليه في مفارقات الحياة، واستهلاكها قوله: «فالأخوة، والأبوة، والبنوة على المحك، والأمومة بكل جوانبها صارت موقع دراسة.. كل ذلك بعدما تضاءل الإرضاع، وخفّ الاحتضان، وتباعدت الحدود بين الأنين والصدى، وبين الآخ، وسلامتك». ص/6/..
الإشارة في قوله هذا للعلاقات الأسرية، وما آلت إليه فقد أصبحت على «المحك»، وعلى مفترق طرق، كانت علاقات مقدسة، صافية، ونقية دخلتها اليوم، المادة، والمصالح، والمنافع، ومعايير التجارة، والاستهلاك، واقتربت من المفهوم السلعي الاستهلاكي، وفقدت الكثير من مرتكزها الإنساني الوجداني النبيل، يقول الكاتب: «نعم لقد تغير الكثير من المواقف، وخفَّ بريق الكثير من الشعارات، ونامت رفرفة بيارق كانت تملأ الجهات بضجيج ألوانها، وهدير زحوفاتها المنتظرة، المؤملة، أو المحتّمة».
نلاحظ في الجمل السالفة لغة في التعبير الأدبي «خفَّ بريق الكثير- نامت رفرفة بيارق – هدير زحوفها- تملأ الجهات»، تظهر في هذه التعابير لغة الامتلاء، ورومانسية التعبير، وفضاءات المساحات فيما كانت تعنيه جواهر دلالات الحب، والصداقة، والأمومة، والأخوة، وما كانت تفتحه من عوالم مثالية اجتماعية، وتضحيات إنسانية لتغدو اليوم رهينة المادة، وحساباتها، والشخص المصلحي، والأنا الفردي النفعي، ولتصبح المفاهيم في سوق العرض، والطلب التجاري، ومفهومه الربحي الاستهلاكي.
يصل الأديب «غسان ونوس» في مقاله إلى تغيرات حصلت في العواطف، والوجدانات، وغرائز القربى، وتحورات، وتحولات في الأصيل من المعاني، وأركان التلاحم الاجتماعي، إنها رياح العولمة الاجتماعية، والسلعية التجارية، والتشيؤ والضياع الإنساني الذي يعصف بكل أصيل.
يعود ليؤكد مفاهيم الحق، والحقيقة، وأنها الأساس وبغيرها سيسود منطق الأقوى، وجبروته واغتصابه: الأقوى المادي، الأقوى العدواني، الأقوى التجاري .. إلخ وهذه كلها اتجاهات في الشر والاستلاب الإنساني.
يصل الكاتب في وصفه لحركة الكون أنها تغير في الكثير من جوانبها قبل أن تكون تطوراً وتغيراً، يحمل الكثير من سلبه، ويغيب الكثير من الأصيل فيه، والإيجابي ليصل في خاتمة مقاله إلى القول: «وهل هذا بازدياده، وتضاعفه مع تواتر التغيرات المحتملة يمكن أن يجعل لقب الإنسان نفسه يحتاج إلى وصف أو تسويغ أو برهان».
خاتمة رائعة للمقال واستنتاج، ومؤدىً أراد الكاتب الوصول إليه، إنها مشكلة الإنسان في وجوده، وصيرورته، وأين سيؤول به الحال.
في مقاله «الواجب والروح» ص/9/.. يؤكد على مسألة وعي الواجب، والمطلوب، وكيفية الأداء، لكن النقطة الأهم التي أوردها الكاتب هي: إن الأداء الإنساني يختلف عن أداء الآلة، فالآلة أداؤها ميكانيكياً لكن أداء الإنسان مرتبط بالإحساس، والعواطف، والمكونات الإنسانية الأخرى، يقول: «الفرق كبير جداً بين من يعمل بروح، وبين من يؤدي من دون روح.. الروح التي تظل فاعلة، من دون أن تلقى جانباً أو يتم التغافل عن مؤثراتها».. ودعوة الكاتب هنا لاقتران المسائل المادية، والتعامل معها مع القيم المعنوية، والروحية الإنسانية التي ترتقي بالسبل، والوسائل، والغايات.
في مقال العطاء ص /13/ يتحدث عن أشكال مختلفة في استخدام القوة غير القوة الجسدية يقول: «القوة ليست مظهراً واحداً وحسب، وإن بالإمكان التعبير عنها بطرق أخرى غير طرق البطش، واستعراض العضلات، والصراخ بمناسبة أو دون مناسبة»، ويضيف: «وأن القدرة على العطاء أقوى أنواع القدرات وأصعبها، وأكثرها تأثيراً.. إنها من جبلة الكائن، وهي جوهره إن لم تكن عنوانه.. إن عطاء النفس، الروح هو العطاء الحقيقي، وهو العطاء الأسمى، إنه ما يبعث على الرضا، وهو ينبع من الثقة بالنفس وبإنسانية الإنسان» ثم يعرج الكاتب إلى أهمية وجود من يقدر العطاء.
هكذا يتابع الأديب «غسان ونوس» معالجاته لعناوينه: «تواصلٌ، أنت وأنا، لا أعلم، أهلٌ وأبناءٌ».. إلخ.
منهجه في قراءة هذه العناوين منهج يبحث فيه عن الأصل والأصيل، وعن القيمة والمعيار، وعن الحقيقة والزيف، وعن عقلانية القراءة وعمليتها، وعن استحضار القيمي والأخلاقي، وعن المادة وضرورة امتزاجها، بالطيف الروحي والإنساني..
يقدم المؤلف أنماطاً في السلوك، ولغة الخطاب، وقراءة الحياة، والوجود، والاشتغال على مفارقاتها، وماآلت إليه علاقاتها وكيف يجب أن تكون.
إنه مؤلف نابع من رؤية حياتية، وتأمل فلسفي، ولغة تنتمي للوجدان، والداخل، والقيمية، والخير، والمحبة، والتشارك، والحوار، وإعادة السلوك الإنساني، ومستويات العلاقات، والارتقاء بها، فالحياة دون قيم لا تُعاش، إنها دعوة اجتماعية فردية سلوكية، وإنسانية لا حياتية نهضوية، ومراجعة للحياة وشؤونها.

يوسف مصطفى

2007 جريدة البعث جميع الحقوق محفوظة Powered by Platinum Inc.

اترك رداً