الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: نزار نجار
الناشر: جريدة البعث
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

العدد: 13575 – تاريخ: 2009-01-04

أوقـات برية رواية التداعيات الشائقة!.. والشائكة!.. رواية عصية إلا على..!..

* التجربة والتداعيات
تجربة متميزة، لها إيقاعها الخاص لها حضورها الناهض في مضمار القصة والرواية على الرغم من ان صاحبها لا يزال بعيداً عن الأضواء المبهرة، بعيداً عن المشهد الروائي السوري العام، الذي يكرس لعددٍ من الكتاب، يخطفون الإعلام ويتمرسون في الصحافة اليومية، أو يشغلون الدارسين والباحثين، في حين ان أعمالاً مهمة، يزهد مبدعوها في التسويق لها، ويتركونها مركونة على الرف في عزلة اختيارية!!.
وتجربة غسان ونوس ليست عادية، ولا طارئة وهي أيضاً ليست مفتعلة، ولا مصطنعة.. كأني به يقدم – دائماً – أعماله الابداعية بين الحين والحين على نار هادئة، ورواية أوقات برية» هي العمل الروائي الثالث بعد روايتي «المدار» و «تقاسيم الحضور والغياب»، وبعد ثماني مجموعة قصصية.. إذن هي تجربة طويلة لابد من ان تلقى اهتماماً ودراسة وان تأخذ مكانها بين الروايات السورية بخاصة، فالكاتب مخلص فيما يتوجه إليه، وتجربته هي تجربة الواقع، تعبر عن الحالات الوجدانية العامة، تجربة لها فضاؤها السردي، المشغول بلغة الوعي الزاخر بالحيوية والمتعة والنشاط، رواية «أوقات برية» تجيء في سبعة عشر فصلاً، تمتد على مساحة من الورق في أكثر من مئتي صفحة من القطع الكبير، في الفصل الأول يقدم الكاتب شخوصه بضبابية مميزة، تنسحب على معظم شخصيات الرواية، فهناك من يلوب بحثاً عن مأوى في مدينة ساحلية (لم يسمّها الكاتب، لكنها تعرف من سياق السرد)!.
والمأوى هو غرفة في بيت، في حارة شعبية يأكلها الفقر وينوس بينها الحلم بالعيش الكريم، هناك صاحب البيت أبو حمد، وهناك امرأته (موظفة في الريجة) وهناك صبي وحيد (ستشاكسه تطفلاته وهو الذي يكتنز غنجاً وغباءً كما سيبدو، مع عبوس المرأة الكبيرة التي تأخرت ملامح ودادها!) تأتي الفصول التالية لترسم للقارىء دوائر مفتوحة تضفي متعانقة في إيقاع بطيء، وسردية متأنية، على المشاهد والتحولات من البيت إلى الغابة إلى المزرعة إلى العمل في المرفأ، إلى السجن والزيارات إلى الحراسة وتنظيم المسيرات إلى أيام الجامعة إلى كل الجهات.. تضفي غلالة شفيفة ناعمة، وهفهافة، تنسحب فوق السرد الروائي الذي لا يسلم مفاتيحه بسهولة، ولا يتهاون في الابهام إلى درجة ان القارىء العجلان ربما يحكم على الرواية حكماً قاصراً.

ليس في صالح تميزها وبراعة شفافيتها في رصد واقع أقل ما يقال عنه انه واقع يظل قابضاً على عنق الحياة، متشبثاً بالآمال العريضة تواقاً إلى الحب والحرية، والانطلاق، في برية الله، متحرراً من كل الرواسب والتشوهات والانحناءات!!.
أوقات برية تبدو للوهلة الأولى، عصية لا تنفتح فصولها بسهولة، لكن المتمعن المتأني سيجد أنه بحاجة إلى ان يعيد قراءتها ثانية وثالثة حتى يتمتع بلغة السرد المنتقاة، وبدوران الفصول وتماهيها على الرغم من تقسيمها، تقسيم كل فصل إلى مقاطع ذات أرقام، ربما تطول هنا أو تقصر هناك، لكنها تتعانق في تناغم ناعم، ومدروس، وانسجام مقبول ومأنوس، لنصل في نهاية الفصل السابع عشر إلى خاتمة مبهمة، غامضة تندفع معها تساؤلات وسيتمتم آنذاك بكلمات، أو سنصغي بعدها إلى همهمات !! ثم ماذا؟..
العودة إلى البرية أو الدعوة اليها، دعوة إلى ترك هذا السواد من أجل نهار قادم من أجل نهار متجدد يملأ العمر والسنوات ويختزل كل شيء!!.
إن أجمل النهايات هي المفتوحة على كل الجهات، أو هكذا يمكن ان يقال في الفن.. وإن أجمل الكلمات هي الكلمات المواربة التي لا تنقاد إليك بسهولة، الكلمات المتمنعة التي تجعلك تلوب بحثاً عن أهدافها وسهامها، ومراميها، وان أجمل النصوص هي التي تفتح أمامك سيلاً من الأسئلة والاستفسارات، ربما لأن المغطى في الفن أكثر جمالاً من المكشوف، والمستتر الخفي أشد أثارة من الظاهر المعلن، لقد ملأ غسان كامل ونوس روايته «أوقات برية» بالتداعيات، فما من فصل إلا شدنا (سعيد) فيه إلى مونولوجه الداخلي، وتداعياته المتشابكة، الراوي هنا هو سعيد.
الحاضر في كل الفصول، وفي الوقت نفسه كانت الشخصيات الأخرى كلها تدور حوله، أبوحمد – الزوجة – سعدون – حماد- فارس – سلوم- زوجة السيد (هناء) – السيد – جمال (السائق الوسيم العليم) – ثم هنادي التي ظهرت في الفصول الأخيرة من الرواية، على الرغم من أثرها الذي يحفر قديماً في ذاكرة الرواي سعيد.
ولا غرابة لأن القارىء لن يكتشف اسم الرواي الأول إلا في الفصل الثامن (في الصفحة 58)، والتداعيات السردية اتسعت مساحتها.
حتى شغلت ثلثي الرواية، ويمكن ان تسمى هذه الرواية رواية تداعيات، فسرعان ما تقدم نفسها في كل فصل (انظر الفصول التاسع والعاشر والحادي عشر وما يليها)، وهي تتداخل مدهشاً، تبدأ هنا وتنقطع هناك، ثم تدور لتكمل ما بدأته في هذا الفصل ثم تتوقف ، لتستمر بعدئذ في مكان آخر من الرواية، ويبدو أن هذا يعطي للعمل الابداعي نكهة مميزة وحضوراً طاغياً يفرض نفسه على القارىء المتمعن، والشخصيات كلها لا تكشف عن نفسها بسهولة يقدمها الكاتب على شكل جرعات صغيرة لا يعرف الراوي بتداعياته الطويلة إلا من زاوية ضيقة يفتحها أو يجعلها تنفرج قليلاً ليقدم لنا سعدون- طبيب المستقبل، أو سلوم أو حماد أو هناء، أو … أو … غيرهم من شخصيات الرواية يظهرون في كل فصل ثم يمضون، تتشكل ملامحهم من خلال حواراتهم أو دوافعهم أو سلوكهم، هم أناس يعيشون الحياة بحلوها ومرها، يعيشونها طولاً وعرضاً، بتوقهم وامانيهم، والكاتب يرصد بسخاء نهمهم وحبهم للمرأة، ولا يتوانى في أي فصل من فصول الرواية عن التعرض للمرأة يحفر في الصميم أفانين الشغف والاهتمام بها لدى سعدون والكهل وسلوم، بل يصل به الحفر إلى فلسفة خاصة لها صلة بمؤخرة المرأة (انظر الصفحات 82 -83- 84 من الرواية)، وكذلك ( أحاديث الطلاب الجامعيين والحوار المكشوف عن المرأة والجنس والرغبة) ومع ذلك كله يبقى الكاتب محترساً فيما يقدم من تداعيات حول هذا الموضوع مروراً سريعاً ولا يتوقف عن التفاصيل، وهذه طريقة ذكية، طريقة تنأى عن الابتذال والاسفاف، فالفن الروائي بعامة يغتني بالتلميح لا بالتصريح، وبالاشارة لا بالمباشرة، الفن الرفيع يتطلب الرفعة دائماً، يتطلب السمو والارتقاء…

أوقات برية والفلسفة..
هناك غوص في الفلسفة، هذا ما يراه القارى المتأني، فهل تحتمل هذه الفصول الروائية ذلك؟ هل يتحمل السرد الذي من مهمته أن يفصح ويشير إلى الاحداث والشخوص والتحولات؟؟.. كل التفاصيل مشغولة بطريقة ما بالفلسفة، الكاتب يغوص في كل صفحة تحليلاً وعمقاً في رصد الحالة الشعورية لهذا الراوي أو لتلك الشخصية- الكاتب مشغول بأسئلة مصيرية عن الحياة، عن الحب، عن المرأة، عن الأشياء، عن الكائنات الحية في هذا الكون، الحوارات لا تنتهي حول الزراعة، وعلاقة الطب بها، أو العلوم والأحياء النباتية، والزروع والأثمار. (انظر ص 40 وما بعدها) ثم (انظر نهاية الفصل السادس، وهي نهاية بحثية تساؤلية تثير كثيراً من الدهشة، حتى ان القارىء يحار هل يقرأ في رواية أم في بحث فلسفي!!)، وربما لتداخل مستويات السرد تفقد بعض الفصول عنصر التشويق فيها، وعلى سبيل المثال يأتي الفصل العاشر بمقاطعه المبهمة محيراً، لا يخرج المتمعن فيه بطائل، وهو لا يقدم ولا يؤخر من السرد الروائي، يأتي هذا على النحو التالي:
– الزحمة قاموس يهيمن، وتفاصيل تضيع حدود تتماهى، واشياء تتداخل، عواطف ومشاعر وأحاسيس وردود أفعال وأصداء وهجوم وأصوات، هياكل تتقاصر أو تتطاول، تتخاصر أو تتكاتف، تتدافع أو تتعارك وتساق الأصداء المجرحة إلى مجار تتوحد، ومصب يتسع لكل شيء.. الخ..(انظر ص 85 -86 -87 – 88 -89 – 90).
وفي لغة مركبة وجمل طويلة يرتبك القارىء أحياناً، وربما يندفع إلى تقليب بعض الصفحات بسرعة، أو يخوض فيها مدارياً تشتته في مفاصل السرد المتقطع بين الراوي (سعيد على الأعم الأغلب) والآخرين، ولو أراد الكاتب ان يسمي الأشياء بمسمياتها لكان النص الروائي لديه أبلغ تأثيراً، وأكثر قرباً، وأشد التصاقاً وحميمية، فالمدينة هي اللاذقية «مثلاً» والعلّية هي العلية أو الدالية أو أية قرية صغيرة على تخوم الشاطىء البحري، أو فوق سفوح الجبل الصاعد، والجامعة هي الجامعة بشوارعها وطرقاتها، والحارة هي الحارة بأزقتها وأبوابها، ودروبها وبيوتها وشبابيكها، ولكنه أراد شيئاً، ورغب القارىء في أشياء، ولا يصحّ الحكم كما يشاء!! على حد قول الشاعر الحصيف:
وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة
عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء «!!».

اشارات لابدّ منها
كان لمشاركة الطبيعة في الفصل الحادي عشر من رواية «أوقات برية» أثر بليغ في افتتان القارىء المتأمل بخاصة في المقطع الرابع من هذا الفصل، فالطبيعة التي تعبق بروائح الخصب هي نفسها التي تثير كوامن النفس البشرية، فتعلن عن توقها وعشقها وتعلّقها بالحياة، «في مثل تلك الأوقات التي تصعد حال المواء والركض في أي اتجاه، هرباً أم تهرباً، أم ترغباً وتشويقاً؟! الى ماذا أفرّ والى أين..» «ص 99»، وكان لحديث سعدون في سياق الفصل تحليق بعيد الفور، عميق الدلالة، يومي الى امتلاك الكاتب ناحية السرد، ومعرفته بدقائق الأحاسيس «لم تكن الوحيد في ذلك، كل الكائنات التي تمشي مثلك، الكائنات التي تنمو، تزهو، تلوح، والأخرى التي تموء، تخور، أو تصيح، تدب، تمتطي، تركض، والتي تزقزق وتنوح، تفرد أجنحتها وتطويها تطيراً واستحماءً، الوقت مهيض، والدفء يسري، والحماسة فرس أصيلة» «انظر ص 99 أيضاً».
– يولع الكاتب احياناً بالتفاصيل والمنمنمات، يولع بالاسئلة والاجابات، يولع بالتحليلات الدقيقة، ونصب الشراك للقارىء والمفاجآت، فالراوي سعيد لا يكشف عن نفسه الا بعد ستين صفحة، والسيّدة، هي هناء نفسها بنت العلية، وهنادي لا تظهر الاّ في الفصلين الاخيرين، وسعدون دارس الطب لا تتضح شخصيته وانتهازيته الا في منتصف الرواية، وشغف الراوي (سعيد ) بكل مؤخرة هاجس خفي لا يفصح عنه بسهولة، والسيدة تفضح نفسها مع سعيد متأخرة حتى الصفحات الاخيرة في الرواية (الفصل الخامس عشر تحديداً) اذ كانت غائبة حاضرة في الرواية ثم جاءت طاغية.
أوقات برية رواية عصية لأول وهلة، لكن القارىء المتأني حين يصبر على امتطاء صفحاتها الاولى سيجد متعة حقيقية في ملاحقة منحنيات الضوء في كل صفحة، وسيلقى متعة أكبر حين تتتابع الفصول بروية ويسر، وينطلق معها إلى النهاية بعد ان تشف وترف بين يديه كل الكلمات العذبة والتداعيات المتناغمة.
– التقط الكاتب من نبض الواقع صوراً ومشاهد تستحق ان تتحول الى لقطات سينمائية باذخة ضن إطار الواقع والمحلية (دعوة بنت صاحب البيت مع اخيها فارس الى السهرة مع القهوة !.
ابو زرد لايرد للسيدة طلباً وهي تتحرش بـ( سعيد) !
المزرعة في فترة الازهار والتقاطع مع تداعيات العمل في المزرعة نفسها!!
كيس الفراشات والشعور بالخيبة والانكسار بعد فتح الكيس امام مدرس العلوم، وربط ذلك بالصراع بين الكائنات.
دعوة السيدة الفاضحة والوردة المريضة بحاجة الى دواء!!
المزرعة وتقزم اشجارها ومرض نباتاتها وتهديد السيد وكلامه حول الجامعة والتعليم والبحث عن حل محتمل او السجن !!
السائق جمال وهو (الوسيم العليم) وتحليقاته مع الشبح (سيارة المرسيدس) وتعليقاته وتجلياته مع ابي سيف وحكايات التهريب والمفاتيح !!! ثم الطلب إلى سعيد ليدخل اللعبة معهما !
أخيراً- رواية أوقات برية رواية طازجة، مكتوبة بمهارة وتأن وقراءتها الهادئة تكشف عن اشياء بعيدة المدى، بعيدة التأثير، بعيدة المقصد والهدف، بالغة الدلالة قراءتها تدفع بك الى كثير من التساؤلات، كثير من الاشارات.
وهي مفتوحة الذراعين على رحبهما، تستقبل الحياة، وتنهض بالحب، وتسمو بالانسان… وتدعوه الى زمن البراءة والطهر والعذوبة و… الشفافية…

نزار نجار

2007 جريدة البعث جميع الحقوق محفوظة Powered by Platinum Inc.

اترك رداً