الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: سامر أنور الشمالي
الناشر: الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

الأديب غسان كامل ونوس
بين هواجس الذات وحصار الآخر
سامر أنور الشمالي

ينفتح عالم الأديب المعروف (غسان كامل ونوس) ويتسع على أجناس أدبية عدة، ففي رصيده: مجموعتان شعريتان: (تضاريس على أفق شاحب 1996- موال الأرق 2007)، وثلاث روايات: (المدار 1994- تقاسيم الحضور والغياب 2002- أوقات برية 2006)، وتسع مجموعات قصصية: (هامش الحياة هامش للموت 1991- الاحتراق 1992- ظلال النشوة الهاربة 1994- دوار الصدى 1997- أحمر أبيض 1998- العائذ 2000- مفازات 2003- خطايا 2005- في الزمن الراجع 2007)، وسوف نتناول في هذه الدراسة إحدى إصداراته الأخيرة، وهي المجموعة القصصية التي حملت عنوان: (في الزمن الراجع) علناً نوفق في الدخول إلى سبر أغوارها، وكشف خباياها، وتقديم طروحاتها.
***
بعد قراءة مجموعة (في الزمن الراجع) نجد أن القصص بمجملها تشابهت في الشكل والمضمون، فلم تشكل كل قصة حالة خاصة منقطعة عن القصص الأخرى، بل أتت جميعاً لتشكل لوحة سردية واحدة، وأن كان ثمة بعض الفوارق البسيطة من قصة لأخرى. وكأن (ونوس) تعمد أن يعكس في قصصه تلك حالة نفسية واحدة، مؤكدا موقفا محدداً من الحياة، وأسلوباً بذاته في الكتابة.
القصص مروية بضمير المتكلم الذي يقطعه أحياناً ضمير المخاطب دون الخروج عن المونولوج الداخلي، فتنويعات استخدام الضمير أتت كحالات فنية تعبيرية أكثر من كونها أصواتاً لشخصيات مستقلة بذاتها، ومستغنية عن مبدعها -فثمة حضور طاغ للكاتب الذي تقمص أبطال قصصه الذين لهم الملامح نفسها- وفي حال حضور شخصيات ثانوية فهي عابرة وغير متمايزة، إنما استدعاها (ونوس) لتعزيز حضور البطل المتفرد الذي يلعب دورا أساسياً في تمثيل المقولة التي يريد طرحها المؤلف دون مواربة. لهذا أتت الأحداث مختزلة في التعبير الكلامي للبطل الذي يسهب في فضح عالمه الداخلي دون مخاتلة، عبر سيرورة زمنية مختزلة في تراكمات الأحداث السابقة، والمنفتحة على زمن مجهول أكثر رعباً. أما المكان فلم يكن له حضوره الخاص، بل اقتصر دوره كإطار خارجي غير مقصود لذاته، أو حيز متاح لظهور الشخصيات. وبذلك كسرت قصص المجموعة بعض القواعد الكلاسيكية في القصة القصيرة لتقدم قصصاً ذات طابع خاص، معنية بالدرجة الأولى بالشاغل الشخصي للمؤلف الذي يولي عناية بالغة لمشاعره وأحاسيسه الداخلية، فيحاول تثبيتها بقوة في مخيلة القارئ، وإن تعارضت أحياناً مع بعض تقنيات القصة القصيرة الحديثة، وهذا أمر لا يشغل (ونوس) كثيراً فيما يبدو، فهو حريص قبل كل شيء على طريقته الخاصة جدا في كتابة القصة القصيرة.
***
من أهم الملامح البارزة والمتكررة في القصص معظمها، إدراك بطلها أن هناك كارثة على وشك الحدوث، وأن تلك الكارثة المرتقبة لن يستطيع أحد الوقوف بوجهها، أو تحويل مسارها، وكأن هذا الشعور بالفاجعة هو رؤيا استشرافية للمستقبل. وهذا ما نلمسه بوضوح منذ القصة الأولى التي منحها المؤلف عنوان (رؤيا) في تأكيد منه على رؤيته الخاصة التي هيمنت بضراوة على القصص التالية.
شخصية البطل في القصص سلبية، فهو لا يبادر إلى الفعل، و يستسلم لقدره دون مقاومة، لهذا يكتفي بالأحلام الصامتة التي قد تحققها المصادفات لا أكثر، ولكن القدر لا يحقق أحلامه المشتهاة، ولا يكتفي بإحباط أمانيه على تواضعها، بل يرسم له طريقاً محدداً عليه أن يسير فوقه دون أن يحيد عنه خطوة واحدة، كما في قصة (قبل الوصول) فبطلها منساق بقوى خارجة عنه، أما التمرد فأمنية لن تتحقق.
البطل في القصص وحيد دائما لا أسرة له، أما إذا كان للبطل أسرة فهي أسرة ناقصة بمعنى ما، ففي قصة (العزاء) يموت الابن المريض الذي كان مصدراً للحزن حتى في حياته. أما إذا لم تفقد الأسرة أحد أفرادها بالموت فثمة موت آخر هو الأواصر المقطوعة بين أفرادها كقصة (ولدي). أما في قصة (العصا) فالأسرة خارج المنزل، والبطل يفتقر إلى الطمأنينة ويعاني من الوحدة، ومن شعور خفي انه مهدد من قوى مجهولة تريد النيل منه لسبب غير معروف، لهذا يتناول العصا ويسند ظهره للجدار ويواجه الباب المغلق الذي يتوقع منه الشر. فالبطل في القصص -أغلبها- لا يطمئن إلى الأماكن المفتوحة أو التي تشرف إلى الخارج، إنه يحلم بمكان مغلق تماما. لهذا نجد أن بطل قصة (طاقة) قد عزل نفسه في بيت أنشاه بطريقة محكمة، محصنا نفسه بذلك من كل التهديدات المحتملة والبعيدة، حتى يعتقد أنه في حيال قيام حرب نووية لن يتأثر من آثارها المدمرة، فبيته المحصن في منتهى القوة. وهذه الاحتياطات أخذها البطل لأنه يخشى الأشرار الذين يتربصون للإيقاع به كسائر أبطال القصص، دون أن نعرف سبب هذه الملاحقات المضنية.
نجد أيضا أن البطل الانطوائي، الذي يعيش وحيدا في عزلته، تنقطع يوما بعد يوم صلاته مع الناس من حوله كما في قصة (في اللجة) فالعلاقات الاجتماعية والعاطفية تنهار أمامه دون أن يبادر إلى إنقاذها، أو إقامة علاقات جديدة عوضاً عنها، ربما لأنه يدرك مسبقا أن ليس لديه القدرة على التواصل مع البشر. ولكن الخيبة هذه المرة لا تدفعه إلى الانسحاب والتقوقع في حصنه الخاص ذي الأسوار العالية كما في القصص السابقة، بل يرمي نفسه في خضم البحر الذي يهدأ حيناً ويثور حينا آخر. وكأن البطل اختار الصراع مع الطبيعة لأنه عاجز عن مواجهة خصومه الذين يضمرون له الحقد لسبب مجهول، ربما لإدراكه المسبق أن معركته خاسرة مع الناس، بينما الطبيعة لا تناصبه العداء على أية حال.
تبدو كل مشاريع أبطال القصص معطلة، مهما كانت تلك المشاريع بسيطة. فبطل قصة (الموعد) محاصر في سيارة أجرة، ولا يستطيع الوصول إلى المكان المنشود، فثمة عقبات كثيرة تعترض طريقه الوعر. وعلى الرغم من أن القصة لم تنف إمكانية عدم الوصول إلى الهدف فإننا نرجح -بالمقارنة مع القصص السابقة والتالية- أن الوصول في حال تحققه لن يكون في الوقت المناسب، أي هو وصول بعد فوات الأوان، وليس منه جدوى.
قد نميل إلى القول -بعد قراءة أكثر القصص- أن انطواء البطل على ذاته وعزلته عن المجتمع خياره الفردي وليست حالة قسرية فرضت على البطل من الخارج، وإن كل المبررات التي قدمها البطل لإلقاء اللوم على الآخرين غير كافية. فهو يرى نفسه بريئا نظيفا يتجنب الخوض في شبهات القذارة المريضة فأصل المشكلة لديه وان لم يفطن إلى ذلك انه لم يستطع التعايش مع من حوله بطريقة سوية، وهذا أدى إلى صراعات داخلية وأزمات نفسية تضخمت لدى البطل لدرجة مرضية. ويتضح هذا الأمر في قصة (التابع) فبطلها يأخذ كل ما يقدمه له احدهم دون أن يقدم إليه حتى بعض الشكر، بل عندما يأخذ منصباً مهماً بفضله يفكر في الاستغناء عنه، والبحث عن تابع آخر. ولا يعنينا هنا الحديث عن الوفاء والإخلاص لدى البطل بقدر ما يهمنا التركيز على الرغبة في قطع خطوط التواصل مع الآخرين، وإن كانوا متعاونين. وللوهلة الأولى تبدو قصة (شهامة) مناقضة للقصة السابقة، حيث أن بطلها المتواضع يبادر إلى المساعدة، ولكن سرعان ما نكتشف أن البطل لم يعش معاناة الآخرين، بل كان يعيش أحاسيسه التي يعكسها على من حوله، وصحة هذا الاستنتاج تؤكدها أن لحظات الغبطة المشروعة في درجاتها العظمى تفسدها الشهامة التي تجعله يقترب من الآخرين في حال تخطى أسواره العالية. بل نجد البطل في القصص جميعها غارقاً في نرجسيته التي تصوره لنفسه نقياً بريئاً، لهذا عليه تجنب الآخرين كيلا يلوث نفسه في طين خطاياهم.
حضرت المرأة في أكثر من قصة كرغبة غير محققة، لهذا ارتبطت الأنثى لدى البطل بمعاناة الحرمان وعذاباته، وعلى الرغم من ذلك لم يسع إليها عاشق ومحب، بل اكتفى باجترار أحزانه، كشأن رغباته الأخرى. وقد لعبت المرأة دور البطولة في قصة واحدة بعنوان (الجثة) ولكن هذا لا يعني أن ثمة اختلاف كبير في بناء شخصية البطل، فالكاتب اختار امرأة لفتح مساحة الطيف الذي يعرض من خلاله رؤاه لا غير، فالبطلة تعاني من الظروف الخارجية التي تقمع رغباتها، وتعاني من ضغوط أحاسيسها الداخلية التي لا تجرؤ على التعبير عنها. أو بتعبير آخر هي إنسان يعيش برودة العزلة والوحشة دون زوج أو حبيب أو صديق، أما أفراد أسرتها فهم ليسوا إلا غرباء عنها. وهذه الأجواء لا تختلف عن الأجواء التي يعانيها أبطال القصة عامة.
أما القصتان المتبقيتان في المجموعة وهما: (ثقب أسود) و(في الزمن الراجع) فلا تخرجان عن عوالم القصص السابقة، وان اتسع فيهما السرد على هواجس الحصار الذي يوقع البطل في دوامة الخوف التي لا نهاية لقعرها، فهي الهوة المفتوحة على المأزومين لتبتلعهم في جوفها المظلم.
***
الأديب (غسان كامل ونوس) في مجموعته القصصية الأخيرة (في الزمن الراجع) يواصل العمل على مشروعه الأدبي بهدوء ودون ضجة مفتعلة، معتمداً على استبطان الإحساس الداخلي لديه بثقة كبيرة، فهو يرى أن الكتابة بالدرجة الأولى تعبير عن الذات بمنتهى الصدق، وأن الشكل الخارجي وتقنيات الإثارة والتشويق غير مقصودة لذاتها، فالهدف والغاية والوسيلة هي المضمون قبل أي شيء آخر، وإن الأدب رسالة شخصية للكاتب أولاً وأخيراً.

العنوان: في الزمن الراجع
المؤلف: غسان كامل ونوس
الطبعة: الأولى 2007
الناشر: عروة للطباعة

اترك رداً