جريدة الاسبوع الادبي العدد 928 تاريخ 16/10/2004
فهرس العدد صفحة جريدة الاسبوع الادبي
تقاسيم الحضور والغياب رواية غسّان ونوس الثانية ـــ د.نضال الصالح
على الرغم من أنّ رواية غسّان كامل ونوس(1) الأولى، “المدار” (1994)، لم تنل ما يليق بها من اهتمام الخطاب النقدي، في سورية خاصة، فإنّ ذلك لم يثن الروائي عن مقاربة شواغل الواقع حوله عبر ذلك الشكل من أشكال التعبير السردي، أي: الرواية، ليس رغبة في الكتابة بل تعزيزاً لأصالة الهاجس الإبداعي الذي ما لبث أن أفسح عن نفسه في روايته الثانية: “تقاسيم الحضور والغياب”.
تتابع رواية ونوس الثانية، “تقاسيم الحضور والغياب”(2)، ما كانت الرواية الأولى قد سعت إليه، أي تجذير الروائي لنصّه في البيئة التي ينتمي الروائي إليها، وهي تفصح عن ذلك بدءاً من الإهداء الذي صدّر به الرواية: “إلى الصلّيب ضيعتي”، مروراً بالمتن الحكائي الذي ما إن يجد نفسه بمنأى عن الفضاء الإنسانيّ لمجتمع الرواية حتى يعود إليه، وانتهاءً بالفضاء الدلالي الذي تؤسسه حركة الأحداث وقيم الشخصيات ومقاصد السرد في الرواية.
ولعل أبرز ما تتّسم به الرواية على المستوى الحكائي مقاربتها لتلك البيئة دونما امتثال لإرادات المقدّس الاجتماعي الذي يكتفي،عادة، بقول نصف الحقيقة، ويغيّب، عن قصد، نصفها الآخر، فبالإضافة إلى تحذير الروائي لمحكيّه في جزء بعينه من الجغرافية الاجتماعية السورية، وتعيينه له، وإحالته على وقائع منه، يتحرّر، ويحرّر نصّه بآن، من أوهام التزييف والتزيين للواقع، أو لقطاع محدّد من تاريخه، التي غالباً ما تتقنّع بذلك المقدّس تحت دعاوى مختلفة ومرجعيّات متعدّدة ومتباينة لا تمتلك ما يعلّلها في الإبداع والفنّ.
يؤسس الروائي لعالمه التخييلي بالتعريف بالمكان الذي يتحرّك فيه وينتمي إليه الأغلب الأعمّ من الأحداث والشخصيات، أي: قرية “المسكونة” التي كما تبدو فضاء شديد الخصوصية تبدو، بآن، نموذجاً للأغلب الأعمّ من قرى الساحل السوري. ولا تكمن قيمة الرواية في نفيها المقدّس المشار إليه آنفاً فحسب، بل في كفاءة الروائي العالية أيضاً في تصوير ذلك الفضاء، وفي تحويله من فضاء مكاني إلى فضاء لفظي بامتياز من جهة، وفي تعريف القارئ، على نحو غير مباشر، بعالَم قلّما عنيت الرواية السورية به من جهة ثانية.
ولئن كان “المشهد الأوّل في أيّ عملٍ ينطوي على غزارة ومغزى خاصّين”(3)، فإنّ مثيله في الرواية لا يكتفي بذلك، بل يتجاوزه إلى إثارة مخيّلة القارئ أحياناً، وإلى تفعيل ما اصطلح “أمبرتو إيكو” عليه بـ”النشاط التعاضدي”(4) أحياناً أخرى: “صفّ طويل متصل من بيوت الحجارة والطين، يزنّر السفح في منتصفه تقريباً، ويوازيه، ويوازي الوادي، صفّ آخر مقطوع في وسطه، ليفسح المجال لشجرة خرّوب معمّرة، كي تفرش ظلالها على ساحة لا تتسع كثيراً. هذا هو الهيكل القديم للضيعة التي لم يغيّر من مشهدها كثيراً تناثر بيوت الإسمنت التي لا زالت تتعثّر في فرض حضورها شكلاً ولوناً. وهذه هي المسكونة المستكينة لعزلتها… تنهض بتثاقل وتهشّ أحياءها بشراً ودوابّ صوب السفوح المنحدرة والأراضي المستصلحة التي تمثل ذروة الإنجازات التي يفاخر بها أبناؤها بها.. وتغنيهم عن السعي خارج الحدود، السعي الذي جرّبه الأولون بعيداً حتى أطراف الدنيا… وجرّبه الآخرون قريباً من الحدود، وما يزالون يروحون ويجيئون..”.
كما يؤسس الروائي لمحكّيه بالقهر الاقتصادي الذي كان أهل المسكونة يعانونه، والذي كان يرغم معظمهم على بيع قوّة عمل فتياتهم للأغنياء،على النحو الذي تمثّله “شهلا” التي دفع بها أبوها، في بيروت، قائلاً للمرأة التي ستعمل لديها: “تطبخ، وتكنس، وتربّي الأولاد..”.
لم تكن شهلا قد تجاوزت الثانية عشرة من عمرها حينذاك، ولذلك تعلّقت بثيابه ضارعة: “بيّي… خذني معك”، وحين عاد إليها صباح اليوم التالي ووجد شعرها مقصوصاً حتى جذوره وعلّلت المرأة ذلك بقولها إنها “مقمّلة” مزّق العقد الذي كان يحتفظ به، ورمى بما قبضه أرضاً، وحملها عائداً بها إلى القرية. ولأنّ أفواه أسرتها كانت مشرعة على الأخضر واليابس، ولأن صحة أبيها لم تكن تعينه على العمل في الأرض، فقد اضطر إلى اصطحابها إلى بيروت من جديد، ثمّ مرة ثالثة بعد أن قالت له بنفسها: “أنا جاهزة للذهاب معك إلى حيث تشاء يا أبي”.
كان ثمة علاقة تربطها بمرزوق الذي كان يكبرها بسنوات قليلة، وبعد أن استقرّ بها الحال، وأخذت تألف مفردات الحياة الجديدة عليها، ونضج جسدها، وبلغت سنّ النساء، حاول سيدّها، ذات ليلة، الاعتداء عليها، فما كان منها إلا هربت، وحينما أعادها أبوها إلى القرية عادت هي إلى علاقتها القديمة بمرزوق، وبدلاً من أن يفي الأخير بوعده لها باصطحابها معه حينما قرّر السفر، أخذ معه كلّ شيء منها، إلا هي نفسها، وتحت وطأة الخوف من الفضيحة تزوّجت الدرويش الذي كان يعمل حمّالاً في بيروت، ثمّ ما لبثت علاقتها به أن انتهت بها إلى مشفى للأمراض العقلية.
من حكاية شهلا تلك، التي تمثّل شهلا نفسها فيها وفي الرواية عامة نموذجاً للقهر بتجلّياته كافةً: الطبقية، والاجتماعية، والإنسانية، وقريباً منها، وبعيداً عنها، تتقلّب حركة السرد على جمر المسكونة التي تتلظّى باستكانتها إلى الواقع الجائر حولها: حكاية الأصدقاء الثلاثة واصف ونبيل وسليم، الذين كانوا في نهاية مرحلة الدراسة الثانوية، والذين كانت “هيدرية الماء العذب”، كما اصطلحوا على تسمية حلقتهم، توحد بينهم إلى أن انفرط عقدها عندما اختار سليم العمل مع مرزوق، إلى حكاية تنافس معظم شباب القرية على “زهرة”، إلى حادث انطلاق رصاصة من البارودة التي كان أفراد “الهيدرية” يصطحبونها معهم إلى الكهف وفي جولاتهم البعيدة عن القرية، فإلى الحكاية العجيبة لأبي إبراهيم الذي انتهى به لغم في المقلع إلى الموت، ثمّ عاد، بعد سنوات، إلى الحياة على هيئة صبيّ في نحو العاشرة من عمره، مباغتاً أهل قريته والقرى المجاورة وزوجته، فإلى شخصية “المصمودي” الثرثار، وإلى أم سعد، العجوز التي أشاعت أنها رأت زوجها حمدان الضرير بعد خمسة وعشرين من موته، كما أشاعت ظهور الولي طاهر وأنّ الأخير اختار مرزوقاً وحده من أهل الضيعة ليكشف عن مقامه المدفون تحت شجرة السنديان، فحكاية “آل التوفيق” الذين لم يكن لأحد في المسكونة ما يميزه سواهم، وما آل إليه المدعوون إلى وليمتهم من مضاعفات صحية أطاحت تماماً بمكانتهم الخاصة في القرية، فإلى قدوم مبروك وسهام، ولديّ مرزوق، إلى القرية، وتعلّق مبروك بتغريد ومحاولته افتراسها كما فعل أبوه ذات يوم مع شهلا، وإمعان سهام بالسؤال عن ماضي أبيها في القرية، فإلى هروب فتاتين من القرية مع مبيّضي القدور والأواني النحاسية، فإلى لوذ نبيل بالسنديانة هرباً من وطأة الأسئلة التي كانت تطارده بسبب عمّه أحياناً، وبسبب الظواهر المفارقة لقوانين الواقع التي كانت تتناهى إليه أحياناً أكثر، إلى حكاية الجردي الذي أنقذ رجلاً كانت أفعى قد لدغته، وحكاية موته العجيبة، وسوى ذلك ممّا يضيء عالم المسكونة خاصة، وعوالم الشخصيات المركزية عامة.
والرواية، وهي تمارس تفكيكها لذلك كلّه ساخرة أحياناً وناشجة أحياناً أخرى، وعلى نحو فنّي يتجنّب مزالق المباشرة ومحاكاة الواقع أو تصويره تصويراً آلياً يستنسخ مكوّناته ولا يعيد إنتاجها جمالياً، تُعنى بشخصية مرزوق خاصة، الذي كما يبدو اختزالاً للأكاذيب والأضاليل التي كانت تفترس كلّ شيء في المسكونة، يبدو بآن رمزاً للقوى الباحثة عن امتيازاتها الخاصة فحسب، مهما تكن الوسائل المؤدية إلى تحقيق ذلك.
كان مرزوق، بعد أن ضيّع شهلا وأودى بها إلى مشفى للأمراض العقلية، قد تطوّع في الجيش، وتمكّن بحضوره وامتلائه ومعارفه واستعداده للمساعدة برسالة أو توصية من جعل قصته مع شهلا تتراجع من العلن إلى السرّ. وحينما دعاه أخوه الأكبر، والد نبيل، إلى العودة إلى القرية، استجاب لتلك الدعوة بعد أن بنى بيتاً مميزاً كان قد استولى على أرضه وأرضى المسؤولين بما يكفيهم للسكوت عنه، واستقرّ فيه، وعلى الرغم من إنجازه ذلك كلّه فإنه لم يستطع تبديد إحساسه بالقلق وعدم الانسجام مع أحد، ولاسيّما أنّ عيون الآخرين ظلّت تتناهبه كما ظلّت بعض التلميحات تدميه.
ولذلك فقد كان عليه أن يتدبّر أمراً يشغله ويشغل الناس عنه وينسيَهم ماضيَه ويدفعهم إلى التفكير به بطريقة جديدة وفريدة، وسرعان ما قاده تفكيره إلى إيهام أهل القرية بأنه من أصحاب الكرامات، وما إن نجح في ذلك، عبر بعض أهل القرية أنفسهم، ولاسيما أمّ سعد، حتى تمكّن من إذابة ماكان الناس يتناقلونه فيما بينهم في السرّ، وبمجيء ولديه مبروك وسهام إلى القرية، وبعد أن صار البيت “هدفاً للكثيرين الذين يبحثون عن ملاذ من الكوابيس، وحابسٍ لتابعة المتبوعين، أو دالّ على مكان غائب أو ضائع، أو عن شفاء سريع لمرض مزمن”، لم يكن ثمة أمامه سوى الانتقال إلىالكهف، وعلى الرغم من محاولته استمالة نبيل، ابن أخيه، فإنه لم يفلح، ووجد ضالته في سليم الذي تعلّق به “حتى صار ملازماً له في جلّ أوقاته”، وصار الكهف الذي كان موئلاً لهيدرية الماء العذب مقراً لهما وللمراجعين والزوار.
وبينما كان وحيداً في الكهف ذات مساء سمع أصواتاً خفيفة هامسة، فحاول أن يقرأ شيئاً ممّا تعوّد قراءته لمراجعيه، فتلعثم، وزاد من تلعثمه القرقعة التي انبعثت من أعماق الكهف، وحين “فكّر بالهرب، همّ بالنهوض، وحاول المشي، لكنّه أحسّ بقيود وأثقال في قدميه. وجرجرهما، الخوف كبّله، والهلع دفعه للابتعاد خارجاً”، ثمّ لم يجد نفسه إلا وهو في البيت “في فراشه، وسهام تبكي، وسليم مكفهر بائس، ومبروك حائر متوتر، ونبيل ضائع متسلل”.
وذات يوم بوغت أهل المسكونة بعودة شهلا إلى القرية، بعد أيام من خبر موتها الغامض في المشفى. أكّد رؤيتها كثيرون “شاهدوها قرب العين، وتحت سنديانات الحاكورة، وعلى الطريق الضائعة بين الأشجار عند المقام المستحدث، وقرب الكهف”. ولأنّ كرامات مرزوق لم تعد تقنع أحداً، لجأ أولئك إلى سليم لإبعاد شبحها المهيمن على الوقت والمكان. وبوصول خبر نجاح أفراد الهيدرية في امتحانات الثانوية ينتهي محكّي الرواية، مشرعاً بخاتمته المفتوحة تلك آفاقاً رحبة للتأويل وتعدّد القراءات، ومثمّراً فعاليات تحفيز القارئ على إعادة إنتاجٍ ثانية للنصّ.
ولعلّ تصدير الروائي للفصل الخامس من الرواية يختزل، أو يكاد، جوهر ما تقدّم كلّه، بل جوهر السمات المميزة لعالمه التخييلي من جهة، ولخطاب الرواية من جهة ثانية: “المسكونة الضائعة بين الجبال، المحمولة على أجنحة الحكاية، المشغولة بحياكة أثوابها اليومية ذاتها، ومتابعة أوقاتها التي تتكرر، ولوحتها التي لا تتغير ألوانها إلا بتغيّر الفصول، بركة راكدة تنتظر، لتختلج تحت وقع ذبابة أو فراشة، أو خفق جناح طير”. ويمكن القول إنّ سمة “التصويت” التي كان أهل المسكونة جميعاً يمارسونها، دفعاً للخوف من الأشباح والجنّ، إمّا بالحديث في نومهم، أو كلّ منهم مع نفسه، أو الغناء بصوت عال، أو الصفير، ليست سوى رمز للقهر الذي كانوا يعانونه، والذي لم يكونوا يجدون خلاصاً منه سوى بالاحتجاج عليه بتلك الطريقة.
والرواية تزخر وعلى نحو غير مباشر، بطقوس الحياة الشعبية في الساحل السوري، من طقس الحصاد والدراس، إلى طقس تبييض القدور والأواني النحاسية، إلى سواهما، حتى لتبدو، أحياناً وفي مواقع بعينها، مدوّنة أدبية لمجتمع القرية في ذلك الجزء من الجغرافية السورية. وعلى الرغم من أنّ الروائي لا يُعنى كثيراً بتعيين الحدّ الزمني لنصّه، فإنّ القارئ يستطيع، عبر أكثر من إيماءة داخل السرد، تعيين الزمن الذي تتحرّك الأحداث والشخصيات في مجاله، أي النصف الثاني من السبعينيات. ومن تلك الإشارات الحرب الأهلية اللبنانية التي أرغمت معظم أبناء المسكونة الذين كانوا يبيعون قوةعملهم فيها على العودة إلى قريتهم، وقول واصف في الفصل التاسع لنبيل: “بيروت الآن تحترق”، وسوى ذلك.
ويمثّل الوصف أبرز مكوّنات “الأدبيّة” في الرواية، وغالباً ما يتجلّى ذلك في مطالع الفصول من جهة، ومطالع الوحدات السردية المكوّنة لكل فصل من جهة ثانية، وعلى نحو يذكّر بأحد أهمّ حوامل الكتابة الدرامية، وثمة في الرواية، وفيما يتّصل بهذا المكوّن نفسه، أي: الوصف، نسق بنائي مهيمن هو التأسيس للمحكي في كل فصل، ثمّ في كلّ وحدة سردية، بالتعريف بالمكان الذي يتحرّك الحدث الروائي فيه ومن خلاله، ومن أمثلة ذلك هذا المقبوس الذي يصدّر به الروائي الوحدة السردية الثانية من الفصل الأول، الذي يقدّم صورة للغرفة التي جمعت ثلاثي “الهيدرية” بالإضافة إلى سمير وجمال بعد عودتهم من خلاء القرية:”دخانٌ يضبّبُ الفسحة الواسعة، ويغطّي السقف، بعدما عجز عن إيجاد فراغات جديدة يتغلغل فيها، ويتوزع في الزوايا المتباعدة المظلمة، حتى الأعمدة الخشبية الواصلة بين الأرض المتربة والسماء الخشبية باتت غير منظورة، والاصطدام بها، لمن يريد التحرّك، احتمالٌ أكيد، السراج يعتصر سائله مجهداً، كي يؤمّن ضوءاً يدلّ عليه على أقل تقدير، بعدما كاد يخنقه الدخان. الدخان الذي تنفثه مدفأة حطب مثقّبة، مفتوحة المؤخرة”، ومن أمثلته أيضاً هذا الوصف الذي يتصدّر الفصل الثالث، والمعني بالكهف الذي كان مستظلاً لذلك الثلاثي نفسه في النهار: “فجوةٌ في الصخر، فتحة كبيرة كقمع، فمٌ واسع وفراغ يمتد متضيّقاً حتى يختفي، شفته العليا تطاولت كمظلّة، يتوزعها بلا انتظام اسوداد وشحوب جرّاء النيران التي أشعلها العائدون من رعاة ومسافرين مشياً إلى القرى القريبة والمدن البعيدة، في ما مرّ من سنين، وتناثرت داخلها وفي محيطها أعقاب سجائر وآثار كبريت، وأوراق وبقايا زوّادات وفضلات”.
وعلى الرغم من هيمنة الراوي العالم بكل شيء على الأغلب الأعمّ من فعاليات تبئير المحكي في الرواية، فإنّ الروائي لا يدخّر جهداً في تحرير حركة السرد من استبداد “الأنا الثانية” للكاتب، أو “الراوي والممثَّل”، إذ يتيح فسحة لعدد من الشخصيات للتعبير عن مؤرقاتها، وردود أفعالها تجاه الواقع حولها من خلالها نفسها، ولاسيما من خلال تقنية التداعيات، كما في تداعيات مرزوق في الوحدة السردية الخامسة من الفصل الأول، وتداعيات نبيل عن عمه مرزوق، وتداعيات الأخير التي تغطي الوحدة السردية الأولى كلّها من الفصل الثامن.
وتتوزع فعاليات بناء الروائي لشخصيات عالمه التخييلي بين ثلاث وسائل: ما تقدّمه الشخصيات عن نفسها، كما في قول مرزوق عن نفسه: “قراءتي… دكر، فلم أكمل التعلّم عند الخطيب”، وما تقدمه عن سواها، كما في وصف مرزوق لابن أخيه نبيل بأنه: “يجاهر بأسئلته، بشكّه، بعدم اقتناعه، يفكّر بأشياء كبيرة، وبصوت مرتفع أحياناً، ويُظهر صدق آرائه ومواقفه منها”، وكما في وصفه لسليم بأنه: “شابٌ مريح… يفكّر باتجاه واحد. ويقتنع بسرعة، ويتبنّى المواقف ويدافع بعناد. أستطيع أن أزرع في رأسه ما أريد بأقلّ جهد وأبسط حيلة”، وما تتضمنه حركة السرد، كما في وصف الراوي بأنه “الولد الأكبر من بين عشرة أولاد”، ولسليم بأنه “صار… داعية لمرزوق، يمتدحه، ويتحدّث بلسانه، ويُكبر مقدرته وإمكانياته”.
وتكاد الرواية، بسبب طغيان خطابات الأقوال فيها على خطابات الأحداث، تبدو نصّاً مسرحياً أكثر منها نصّاً روائياً، وعلى نحو يذكّر بما صنعه توفيق الحكيم فيما اصطلح عليه بـ “مسرواية” لعمله: “بنك القلق”.(1966). وعامّة، فإنّ من أبرز ما يميز تلك الخطابات اقتصادها الذي لا يتجاوز منطوق الشخصية معه، في الأغلب الأعمّ منها، مكوّنات الجملة الواحدة، وتداخل الفصيح فيها مع العامّي، ثمّ خلوّها من الإشارات الدالّة على السويّات المعرفية للشخصيات، أو على تعدّد لغوي تتمايز تقنية السرد معه عن تقنية الحوار، وأخيراً انتماء عدد منها إلى الحوافز الحرّة التي ليس لها ما يسوغها على المستويين الحكائي والفني، والتي لا تنهض بأداء أيّ وظيفة داخل الرواية، ولاسيما حوارات الأصدقاء فيما بينهم من جهة، وحواراتهم وسواهم من الشخصيات الأخرى في الرواية من جهة ثانية.
واللغة في الرواية، كما في معظم نتاج غسّان ونّوس القصصي والروائي، تحقّق الأطروحة النقدية القائلة إنّ “ما يميّز الأدب عن اللغة العملية هو أنّه عملية بناء يقوم بها الأديب”(5)، فهي تبدو طيّعة بين يدي الروائي، يقلّبها كيفما شاء، فتؤدّي وظيفتها الإبلاغية عندما يجب أن تكون كذلك، وتُطلق نفسها في أمداء التخييل عندما يحاصرها الواقع باليوميّ، والمألوف، والعاديّ، حتى لتبدو أجزاء من السرد أشبه ما تكون بقصائد نثر، كما في استهلال الروائي للوحدة السردية الثالثة من الفصل الرابع:”الزمن فقاعات في الثغور والمرايا/ عيونٌ نائسة معلّقة في الحيطان العتيقة، وأعمدة الخشب الداكنة /خطا واهنة ومدى مقطوع/ رغبات مسجاة وآمال ضائعة/ وبيت واسع وسع السنين الماضيات/ ضيّقٌ ضيقَ النفس/ باردٌ كرتابة اللحظات/ متصدّعٌ كما العظام والمفاصل/ داكن كالنهارات/ مقمرٌ كالليالي/ مهشّمٌ كما الروح/ جاحدٌ كما الأبناء البعيدون”. وباستثناء هنة نحوية واحدة، هي قول الروائي: “لكن الأمور بدأت تأخذ مناحٍ جديدة”، فإنّ ما يميّز الرواية من معظم نتاج الأصوات الروائية الجديدة في سورية، وفي هذا المجال، خلوّها من أذى الأخطاء اللغوية.
وعلى الرغم من أنّ الروائي لا يعمّق تفكيكه لمكوّنات عالمه التخييلي، وعلى الرغم أيضاً من أنّ العلامة اللغوية لروايته لا تتضمّن في داخلها ما يشي بكونها عتبة تحيط بالنصّ وتتيح للقارئ عبرها اقتحام أغوار هذا الأخير وفضائه الرمزي والدلالي(6)، فإنّ الرواية عامة تؤكّد أصالة الهاجس الإبداعي لديه من جهة، كما تؤكّد محاولاته الدائبة لتثمير أدواته، وإمكاناته، ووسائل تعبيره الفنّي من جهة ثانية.
هوامش وإحالات:
(1) ـ مواليد: الصليّب/صافيتا طرطوس عام 1958، تخرّج في جامعة تشرين باللاذقية، عام 1981، حاملاً الإجازة في الهندسة المدنية، ثمّ عمل في عدد من الشركات العامة وفي التدريس بمختلف مراحله في مدينتي اللاذقية وطرطوس، وهو يعمل الآن في مكتب هندسي حرّ في صافيتا. بدأ الكتابة والنشر منذ مطلع الثمانينيات وهو قاص، وروائي، وشاعر، عضو اتحاد الكتّاب العرب، جمعية القصة والرواية، حصل على عدد من الجوائز الأدبية داخل سورية وخارجها، صدر له ست مجموعات قصصية، وروايتان، ومجموعة شعرية.
(2) ـ ونوس، غسان كامل، “تقاسيم الحضور والغياب”، ط1، بالتعاون مع اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 2001.
(3) ـ هالبرين، جون. وآخرون. “نظرية الرواية، مقالات جديدة”، ص (72).
(4) ـ للتوسّع، انظر: إيكو، أمبرتو. “القارئ في الحكاية، التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية”، ص(7)، وما بعد.
(5) ـ سلدن، رامان، “النظرية الأدبية المعاصرة”. ص (26).
(6) ـ انظر: حمداوي، د.جميل، “السيميوطيقا والعنونة”، مجلة “عالم الفكر”، الكويتية. المجلد (25)/ العدد (3) يناير/مارس 1997.
E – mail: aru@net.sy
| الصفحة الرئيسة | | دليل الأعضاء | | جريدة الاسبوع الأدبي | | صفحة الكتب | | صفحة الدوريات-مجَلات | | فهرس الكتب | | اصدارات جديدة | | معلومات عن الاتحاد |
سورية – دمشق – أتوستراد المزة – مقابل حديقة الطلائع – هاتف: 6117240 – فاكس: 6117244