الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: يوسف مصطفى
الناشر: الموقف الأدبي العدد 423
تاريخ النشر: 2006-07-01

تقاسيم.. الحضور والغياب (المسار التراجيدي للرِّواية.. ومحموله الفكريّ) ـــ يوسف مصطفى

1 ـ المكان في الرّواية.. قراءة أولي:‏

بعد روايته /المدار، ومجموعاتهِ القصصيِّة، التي تجاوزت ثماني مجموعات.. يطلُّ علينا الأديب الروائي /غسان ونوس/ بروايته (تقاسيم الحضور والغياب).‏

تبدأ فاتحة الرواية /الفصل الأول/ بقول الكاتب /ص7/: (الشَّمس لا تغيِّرُ موعدَها، ولا تنسى أحداً.. ربَّما كان هذا من حسن حظ /المسكونة/ التي لا تفكر كثيراً في أمرٍ من قبيلهِ، ولا يَضيرُها أن تواصل النوم.. إذْ ليس من كبير فرق بين ليلها ونهارها، أو بين أحلامها وأفعالها سوى في عادة ممارسة الحياة، ومتابعة الفصول والمواسم في أقواتٍ معلومةٍ ممطوطةٍ).. يحمل هذا المدخل الروائي نوعاً من التوصيف العامِّ لطبيعة البنية الاجتماعية في القرية في تلك الأيام.. لعلَّها أواخر الخمسينيات، وعقد الستينيات من القرن العشرين، ويشي النصُّ بنوعٍ من الرتابة في حياة القرية والتي يُسميها الرُّوائي (المسكونة) إحدى قرى الجوار الشَّمالي لمدينة (صافيتا).. الزَّمن في القرية زمنٌ بلونٍ واحدٍ.. بمعنى أنَّه لا جديد في يوميات القرية.. والرَّتابة، والرُّوتين هو سيدُ حركة الحياة في هذا الحيِّز الاجتماعي: الاستيقاظ، أعمال البيت، والحقل، والنوم.. فالاستعداد لليوم التالي.. أما قول الكاتب: (لا فرق بين ليلها ونهارها، أو بين أحلامها وأفعالها).. هذا المشهد الرمادي لحياة القرية يوحي أنَّ مساحة أحلام أهل القرية هو بحجم حراكهم اليومي في حقولهم، ومواسمهم، وبين زروعهم وأِجارهم فلا تلفزيون، ولا كهرباء، وربّما كان /المذياعُ/ هو قليل أيضاً في منازل القرية. من هنا توحَّد الزمن وتجلى نمطاً واحداً في مشهدية القرية.. في تقديري هذه الرتابة، وغياب الجديد كان ينسحب على غالب القرى في تلك الأيام /خمسينيات القرن الماضي/.. في السَّاحل السوري، وسواه.‏

ـ في المقطع الثاني ص /7/ يتحدث الكاتب عن بيوت القرية الطينية، وعن شجرة (الخروب) المعمرة، وعن ساحة القرية التي لا تتسع كثيراً.. ربَّما كان وصف ساحة القرية بعدم الاتساع هو وصفٌ جغرافي.. لكنَّه بمعنى ما هو المساحة الاجتماعية الضيِّقة في القرية، فكلٌّ في عمله، وهمومه، ومشاغله مع أرضه، ودوابه.. هنا تظهر علاقة المكان كمساحةٍ في القرية بمساحة العلاقات الاجتماعية… فالقرية لا تطلُّ على مساحاتٍ اجتماعيةٍ أخرى من نوع مجتمع المدينة بألوانه، وتنوعه.. إطلالة الاحتكاك اليوميِّ والتأثير المباشر.‏

ـ في حديث الرِّوائي عن المكان أيضاً يُشير إلى الأشجار التي تحاصر البيوت وتتعالى فوق أسطحتها، وتضيق الدروب، وتشرذمها.. ويضع مقابل هذا مشهد قطع أشجار الحراج في سفوح القرية لصناعة /الفحم/.. وهو مهنةٌ رئيسية في حياة سكان القرية.. هنا الحفاظُ على الخاص وقطع العام.‏

ـ في حديثه عن /المشاحر/ التي تصنع الفحم يقول ص/8/: (وما أن يبدأ الليل دبيبه الأسود.. منطلقاً من تحت الأشجار وجوارها إلى الفضاء الأرضي حتى يشع /احتراقٌ مكتومٌ/ في أمكنة متعددةٍ من المسكونة.. حيث تشعل النيران في أعوادٍ لازالت تهسهس في عروقها أصداء الحياة)..‏

هذا المقطَّعُ هو في وصف المشاحر حيث كانت تشعل في اللَّيل بعيداً عن أعينُ الحراج، (والليلُ هو أخفى للويل) كما يقال.. إنَّ تعبير: /احتراقٌ مكتوم/ هو إشارةً للحذر، والضِّيق الذي تعاني منه القرية خوفاً من سطوة الحراج على مشاحرهم وبالتالي الحاجة لدفع المعلوم للحراج اتقاءً لضبوطهم وإحالتهم للقضاء.‏

هكذا أطَّلت الرُّواية، وقدَّمت /فضاء المكان/ وإيقاعَهُ الرَّتيب.. النمط المكانيُّ هنا يميلُ إلى /اللون التراجيدي الخفيف/.. حيث الفقر، والحاجة، والمعاناة، والمغامرة بقطعِ الحراج لصناعة الفحم، والحذر أيضاً في الحراك الاجتماعي.. هذا المطلع الشاحب في الرِّواية ينسحب كنسمة /تراجيديةٍ/ على الأحداث الرئيسية في الرِّواية.. لمْ يقدم الكاتب /ريفاً رومانسياً/ بأفيائه، وأندائه، وظلاله، وأغانيه، وأفراحه، وسهراته الخ.. ربَّما كانت هذه القضايا قائمةً في حياة القرية مكان الرِّواية.. لكنْ كما يبدو هناك القليل في القرية، والغالب هو هموم الأرض، والعمل، والمشاحر، ولقمة العيش، والعودة من تعب الحقول للاستسلام إلى نوم ليلٍ طويلٍ.‏

2 ـ أبطال الرواية.. مأساةُ شهلا:‏

بعد هذا التقديم في وصف مكان أحداث الرِّواية يدخل الكاتب في شخصيات الرِّواية يقول ص/9/: (فهل كانت قضية شهلا ومرزوق مشحرة المسكونة؟!.) .. لقد وفِّقَ الكاتب في هذا الرَّبط، فقضية /شهلا/ ومأساتُها كانت /احتراقاً اجتماعياً بطيئاً).. لم ينته بموتها.. لكنَّه انتهى بتحولها من كائنٍ عاقلٍ وهادئٍ إلى كائن فقد عقله، وكأنَّه تحول الأعواد الخضراء إلى فحم وليس إلى رماد لأنَّ هناك اشتعالاً آخر للفحم.. أمَّا قصة /شهلا/: فهي فتاةٌ من القرية /فقدتْ عُذريتها/ بحكمِ علاقة حبٍّ مع /مرزوق/ أحد شباب القرية حيث كانا يرعيان سويةً، ويلعبان سويةً، وبحكم معرفة أهل القرية بوضعها لم يكن زواجها ممكناً إلاَّ من /الدَّرويش/ كما يسميه الكاتب، وهو رجلٌ من القرية، يعمل على /الرَّوافع/ في مرفأ بيروت، وهو غائبٌ عن القرية، ورجلٌ بسيطٌ يَسهلُ استغفاله، وبعد فترةٍ من زواجهما يفقد /الدَّرويش/ رجولته حيث يصيبه خطَّاف الرَّافعة التي يعمل عليها في /موقع ذكورته/ بهذا يصبح عاجزاً جنسياً. تقول الرِّواية /ص 10/ (وعلى الرَّغم من أهمية الحادث الذي تعرَّض له،وحساسية العضو الذي تعرَّض للضَّرر.. فحاجة /الدرويش/ ليست ملحةً، وهي لا تتعدى مراتٍ قليلةٍ في السَّنة حين يعود إلى القرية، أو تزوره زوجته في بيروت) حيث هو منهكٌ في العمل لتحصيل النقود، وإرسالها لشهلا وأولادها في القرية.‏

ـ بحكم غياب /الدَّرويش/ عن القرية، وعلاقة شهلا /بمرزوق/ وآخرين بعده يحصل حملٌ غير شرعي، ويمضي حوالي الشهرين على هذا الحمل، ولم يبق أمام شهلا من مخرج سوى الذهاب إلى بيروت، ولقاء الزَّوج /ص 10/‏

(وهو لن يستطيع اكتشاف الحالة بعد أشهر.. كما أنَّ المعتاد أن تلد المرأة في الشَّهر السَّابع من حملها، وأن يكون المولود طبيعياً كابن التسعة تماماً!) هكذا يتنامى البناء /التراجيدي/ في نصِّ الرِّواية، وتقرر شهلا السَّفر إلى بيروت، وهي لا تعرفُ ما آل إليه حال زوجها.. تلتقي شهلا الزَّوج في بيروت. أظهرت شوقها إليه، ولهفتها لوصاله.. قابلها /الدَّرويش/ بالفتور، والانكسار، وادِّعاء التَّعب، والإرهاق، والمرض. (أسقط في يده، وعجز عن متابعة التأجيل أمام إلحاحها الذي لا سبيل إلى كبح جماحه) /ص 11/.. فكانت /لحظة الاعتراف/ بوضعه الذي آل إليه، وهنا جُنَّ جنونها، وبدأ صياحها، وشدُّ شعرها، وتمزيق الثياب، وتكسير الأغراض، وغدتْ في حالةٍ عُصابيةٍ انتهت بها إلى مشفى الأمراض العقلية.. عرف الجميع في القرية بخبرها، وبدأ الكلام عن أسماء أصحاب العلاقة مع شهلا.. وسرت الفضيحة في القرية وجوارها. أٌول: شخصية /الدَّرويش/ كما تبدو هي /أنموذجٌ/ يحمل همومه، ولـه وضعه، ومعاناته، وهو بعيدً عن الفرح، أو الانفراج في الحياة.. هو منطوٍ على نفسه، وأنموذجٌ غائبٌ عن جوانب الحياة الأخرى، يرسل النقود إلى القرية، وتصرُفها الزوجة كُلَّها، ولا منْ يشفق أو يقدر، أيضاً هنا: الوضع مأساة.. ربُّ أسرةٍ يغترب ويعمل، ويُضحي، والزَّوجة تبذِّر ما يرسل من أموالٍ.. وهي في موقع الخيانة الزَّوجية لعلّ خير ما وصفه الرِّوائي لشخصية الدَّرويش: (الدَّرويش الذي أضاع سُبَّحة الزَّمن، وهربت منه التقاويم، وضيَّع الجمع والحساب لن يكون من الصَّعب استغفاله أو التحايل عليه).. ص/10/: هذه العبارات ببلاغتها قدَّمت الصُّورة الواضحة لأبعاد شخصية /الدَّرويش/.‏

ـ هذا المشهد الهامُّ والرئيسي في /خطِّ النمو التراجيديِّ/ اختاره الكاتب مدخلاً لتفاصيل حياة الألم، والعذاب، والمعاناة لبطلة الرِّواية /شهلا/ خلال مسيرتها الحياتية وكأنَّ الكاتب ـ /فنيَّاً/ ـ اختارَ /الذَّروة الانفجارية/ في أحداث الرِّواية ليبدأ اطلاعنا على تفاصيل أخرى أقلَّ في حجمها الحزين من لحظة فشل الزَّوج في لقائها، وبالتالي افتضاح أمر /حملها/.. وأنا أعلم أنَّ الكثير من الأعمال الدرامية والتراجيدية تبدأ بهذه /الذّروات/ الملفتة، والتي تشدُّ القارئ لمتابعة بقية الأحداث، وهناك الكثير من مطالع القصائد الشِّعرية تبدأ بنوع من الدَّوي الملفت الاستهلال المطلعي في القصيدة والذي يُعدُّ جزءاً هاماً من بنائية القصيدة وقد أشار له الناقد والبلاغيُّ الكبير /عبد القاهر الجرجاني/ فسمَّاهُ /براعة الاستهلال/.. في تقديري هذه مسألة فنية أجاد فيها الروائي (غسَّان ونوس) وقدَّمها بنوعٍ من اللُّغة والصُّور المطابقة، والمعبِّرة عن واقع الحال (فالرَّأس المطأطأ، وحالة الانكسار) في وصف لقاء /الدِّرويش/ بالزوجة، هو التعبير الملائم لحالة عجزه الجنسيِّ، والزوجة بين يديه.. وقولـه: (إلحاحها الذي لا سبيل إلى كبح جماحه، ولا رادَّ لتياره الجارف) ص/11/ أيضاً هو التصوير الملائم لرغبتها في وصل الزَّوج، لتغطية حملها غير الشَّرعي، وبالتالي إخفاء الفضيحة.. وقولـه: (استقرت الفضيحة أخيراً في مشفى الأمراض العقلية) ص /11/.. وهل هناك ذروةٌ أكبر من ذلك سوى الموت، أو الانتحار /لشهلا/.‏

ـ يتابعُ الرِّوائيُّ مشاهد القهر والعذاب الأخرى في حياة /شهلا/ حيث ذهب بها والدها إلى بيروت وعمرها لا يتجاوز عشر سنوات.. لتعمل خادمةٌ مقابل بعض النقود التي تحتاج إليها أسرتها.. لقد صوَّر الكاتب حجم إحساسها بالغربة وهي في هذه الطفولة، ولم تغدر البيت بعد.. المشهد مؤلم هنا: الأب يقدِّم ابنته للسيدة البيروتية على أنها تجيد أعمال: الكناسة، وتربية الأولاد، وتعتني /بالدَّواب/، ومقاطعة السيدة له وهل عندنا نحن /دواب/: ذروة المشهد الحزين قول الكاتب: (قبّلها.. ناول يدها التي كانت متشبثةً بيده إلى يد السيدة التي انتزعتها وعصرتها) ص/12/ وقولـه: (لم تنمْ ليلتها، ولم تأكل.. أبكتها أوجاع الضَّرب، وأوجاعٌ أخرى) ص/12/.. في قراءة هذا المشهد نلمس بعداً إنسانياً واجتماعياً كبيراً قوامه: غربة الفتاة عن أهلها وهي الطفلة الصغيرة.. ثم خشونة سيدتها وضربها لها.. كذلك بقاؤها طوال النهار في المطبخ، وعدم السًّماح لها بدخول غرفة الجلوس.. إلى جانب قصِّ شعرها للصِّفر ووضع /القمْطة/.. أي المنديل المربوط على الرَّأس، والذي يُشعر زائر المنزل أنَّها /الخادمة/.. في تقديري لامست الرِّواية هنا قضايا /اجتماعيةً طبقيةً/، وقدّمتْ أنموذجاً للأسر البورجوازية المدنية.. قد لا يكون هذا الأنموذج هو في كلِّ أسر المدينة الغنية، لكنَّه يحمل بعداً طبقياً وأنماطاً اجتماعيةً قائمةً في الأسر الغنية، وتكويناتها النفسية الاجتماعية.. وهي أنماطٌ في السلوك الاستهلاكي حيث تظهر /الخادمة/ أنَّها بعض أدوات المنزل خارج الجانب الإنساني لطفولتها وغربتها، وفقر أسرتها.. لعلّ الكاتب هنا أراد أنْ يقدم نمطاً مجتمعياً عرفته خمسينيات القرن الماضي.. لم يعد قائماً بهذا الشكل وهو ذهاب الفتيات للعمل خادماتٍ منزلياتٍ في بيروت.. لقد تطورت القرية السُّورية، وتحسنت أحوالها، وارتقى وعيُّ أناسها، وتغيَّرت النظرة للفتاة، فاتجهت صوب التعليم، والعمل والوظيفة وتحررت الأنثى من فكرة الاستخدام المهين.‏

3 ـ تداعيات تراجيدية أخرى في حياة شهلا:‏

تحت ضغط الحاجة والفقر وبعد عودة /شهلا/ من بيروت لمرتها الأولى.. تعود ثانية لتعمل خادمةً في أسرةٍ ثانية، تتعرض للضَّرب والإهانة، مما جعلها تهرب من المنزل، وتلجأ لعند /الدَّرويش/ الذي أعادها لأهلها في القرية.. لكن فوجئت الأسرة بطلب المبلغ، وضرورة إعادتها لسيدتها، وإلاَّ فالقضاء، ووقع خيارُ الأب على الأخت الأصغر منها للذهاب كخادمةٍ لتأمين المبلغ المطلوب ودفعه للسيدة السَّابقة.. عاشت شهلا صراعاً كبيراً في نفسها في تلك الليلة.. كيف ستذهب أختها، ويُقصُّ شعرها، وتتعرض لما تعرضت له؟!.. فقررت الذَّهاب حمايةً لأختها، وتأميناً للمبلغ المطلوب قائلة (أنا جاهزةٌ للذهاب معك إلى حيث تشاء يا أبي)! ص/15/.. وفعلاً ذهبت، وحصل الأب على المبلغ المطلوب، وأعاده للسيدة.‏

قدَّم المؤلف وبتفصيل رحلتين اثنتين لشهلا إلى بيروت في الأولى أعادَها والدُها، وكان عبور المسافة من الطَّريق العام إلى القرية حيثُ لا تصل السَّيارة مشياً على الأقدام، وشهلا محمولةٌ على ظهر أبيها و/ضبعة الوادي/ تلاحقهما، وتزيد عناء الرِّحلة، وتكتب لهما سلامة الوصول إلى القرية، والعودة الثانية كانت هرباً من ظلم سيدتها، ولكن كان الألم الجديد وهو مطالبة السيدة بالمبلغ، والحرج في تأمينه، وعودتها الثالثة إلى بيروت.. ألا تكفي المعاناة لتحضر /ضبعة الوادي/ وتزيد الطين بلةً.. لأن كانت الرِّحلة الثالثة أفضل من سابقاتها إلا أنَّها انتهت بمأساة أيضاً، وهي محاولة سيدها الاعتداء عليها، وهربها من بين يديه وعودتها إلى القرية.‏

4 ـ في التقويم العام للرِّواية..‏

مقارباتٌ نقديةٌ:‏

ـ هذا التتالي في حياة هذه /البطلة التراجيدية /شهلا/ فمن مأساةٍ إلى أخرى ومن تعثر إلى آخر.. ثمَّ الزواج أخيراً من /الدَّرويش/ وما آل إليه حالهُ.. ثم حَملها غير الشرعيّ، وانتهاؤها إلى مشفى الأمراض العقلية، ثم موتها فيما بعد في المشفى، وعدم ذهاب أحد من أهلها لإحضارها ودفنها في القرية.. هذا التتالي يطرح مسألةً إشكاليةً كبيرةً في الحياة الاجتماعية وهي: هل كانت /شهلا/ صانعةً لمأساتها لوحدها.. أم أنَّ جملة الظروف التي أحاطت بها وبحياتها أوصلتها إلى هذه النهاية؟! وهل حمل مجتمعها الرحمة والغفرانية لوضعها، وما آل إليه أم جرى عليها المثل القائل (العنزة التي تقع تكثر سكاكينها).. وأنا أقدِّر هنا أنَّ الرواية قدَّمت جانباً اجتماعياً لا يبدو فيه /التضامن الاجتماعيُّ/..‏

تشي الرواية أنَّ قسماً ممن أقاموا علاقاتٍ مع /شهلا/.. هي أسماءٌ غير متوقعةٍ وربَّما كانوا محسوبين من فئة /الأوادم/ وهنا تظهرُ الازدواجية الشرقية بين خطابين: المثاليُّ المتحدث به، والحقيقيُّ المبطن بظاهر الزَّيف المثالي.‏

ـ /ص 27/ يتجمع عددٌ من الشباب حول لعبة رمي /قواميع الحجارة/ هذا النَّوع من اللعب بسبب فراغ بعض شباب القرية، وعدم وجود ألعابٍ بديلةٍ، وقيام حوارات عبثية بين هؤلاء الشَّباب حول قضايا لا تشكل هموماً حياتيةً.. وقسمٌ من أحاديث هؤلاء الشَّباب هو عن /العشق/ وكلٌ عمن يحبُّ.. هذه المشاهد وحواراتُها هي جزء من اهتمام الكاتب بلمَمِ الحياةِ اليوميةِ، والإشارة إلى شريحةٍ شبابيةٍ لا تعملُ، ولها همومها.. وهي في حالة البطالة، والفراغ حيث السَّهراتُ، والحديث عن الجنس، والعشيقات، والبطولات وغيرها من الهواجس الشَّرقية، وتجليات هذا المكبوت لدى جيل الشَّباب وهنا أقول: لقد غابت الهموم السِّياسية، والوطنية، أو الأدبية، وحتى الفنيّة عن هذه الشرائح الشبابية، وحضر مكانها خلفية المكبوت، وموروثه في بنائنا الشّرقي /السايكولوجي/.. وهذا جزءٌ من مشكلة العطالة الشبابية، وهي مشكلةٌ اجتماعيةٌ كبيرةٌ.‏

ـ /ص 44/ قدَّم الكاتب الأنموذج النسائيَّ الثاني وهي /سعاد/ التي رفضت أن تعمل خادمةً، وعادت من الخدمة مراتٍ بعد توقيع العقد.. حيث عملت في الرَّعي والزراعة.. أمَّا حبها /لتيسير/ فقد كانت حذرةً فيه، ولم تندفع للمحذور كما حصل مع /شهلا/ في حبِّها لمرزوق.. هذا النَّمط النسائيُّ هو نمطٌ متوازنٌ وهو قائمٌ وموجودٌ في المشهد الاجتماعيِّ، ويحمل عصاميته، ومناقبيته.‏

ـ /ص 68/: نصٌّ وصفي يتحدث عن فضاء القرية. (الوقت الممطوط، واللَّيلي المتطاول، والفراغ المنتشر كضبابٍ صباحي، والقمر المتباهي بغياب الشَّمس) هذا الوصف هو امتدادٌ لوصف مشاهد الرّتابة في القرية، رتابة الزَّمن، والمكان، والحراك الاجتماعيِّ في القرية، يقول المؤلفُ أيضاً /ص 83/: (الزَّمن فقاعاتٌ في الثغور والزوايا.. عيونٌ نائسةٌ معلقةٌ في الحيطان العتيقة.. وأعمدة الخشب الدَّاكنة خُطاً واهنةً، ومدى مقطوعاً الخ).. الفضاءُ العامُّ الذي تقدمُه هذه النصوص إضافةً لبلاغتها هو فضاءٌ حزينٌ، ورتيبٌ: فالأماني الضائعة، والنفس الضَّيق، والتصدُّع الداكنُ والمهشم، والجاهد.. هي: صفاتُ منزل /أمّ سعد/، وهي عجوزٌ في القرية ولا من يعينُ، ولا من يساعدُ.. فالزَّوج قد توفي، والأولاد كلٌّ في بلدٍ، لا أحد ينتبه إليها وهي تعيش غربةً كاملةً.‏

للمرة الثانية يقدِّم الكاتب مجتمعاً لا يبدو فيه /التضامن الاجتماعي/.. فكلُّ واحدٍ في سبيله، وكلٌّ مشغولُ بنفسه،ويبحث عن خلاصه الشَّخصيِّ.. وهذا في بعضه جزءٌ من ثقافة /الأنا/ وهي نوعٌ من التربية الأسرية، وغياب ثقافة الجماعة، ويلعب الفقر والحاجة دوراً في هذه الأنا الضَّيقة.‏

ـ /ص 174/: الفصل العاشر، الفقرة الأخيرة عودة لقصة شهلا (ذكرت الأسماء، تعددت الأفعال، نشرت الأسرار، ظلت آثار ذلك عالقةً فوق الرؤوس، وفي الأذهان) يشير الكاتب إلى بقاء /قصة شهلا/ في الذّاكرة الشعبية، وفي مخزونها الشَّرقي، حيث من يقع في الخطيئة تلاحقه اللعنة حتى القبر وتبقى قضاياه في الذاكرة ولا تُنسى.. إشارة لغياب التسامح وتنقية الذَّاكرة.‏

ـ /ص 175/ حول موت شهلا وإخبار المختار وزوجها بموتها.. حيث لم يذهب والمفارقة الكبيرة /والذَّروة الدرامية/ في الرِّواية هو فتوى /الشيخ مرزوق/ عشيقها الأول (بأنَّه لا يليق بالقرية أن تستقبل جثة مجنونة، والصلاة على فاقد العقل لا يجوز).. التحول الكبير الذي حصل في شخصية (مرزوقٍ) بعد اغترابه، وتحسن وضعه المعاشي، وزواجه، وكبر أولاده، ورغبته بعدم عودتهم معه إلى القرية كي لا يطَّلعوا على ماضيه.. لقد كبر في السِّن، وأصبح شيخاً متدنياً، يُفتي بين النّاس، وينسى هو كبطلٍ رئيسي وأوليٍّ فيما آل إليه وضعها.. (أكلها لحماً، ورفضها عظماً).‏

ـ أمَّا ذروة إبداع وآخرها /ص 175/ فهي عودة شبح /شهلا/ ومشاهدته من قبل الكثير من أهالي القرية: قرب العين، وتحت السِّنديانة، وبين الأشجار، وعند المقام المستحدث، وقرب الكهف.. حضرت في أحلام الكثيرين وتصوراتهم.. شاهدتها /أمَّ أسعد/ والمصمودي و/جمال/ وكثيرٌ غيرهم..‏

ـ في قراءة هذه العودة الشبحيِّة للضَّحية /شهلا/ في تقديري هو: /حضور الضحية الاجتماعية لمجتمع يوقع بالضحية ويتخلى عنها/.. هي لم تستطع الثأر ممن أوقعوا فيها وحوَّلوها ضحيةً لشهواتهم في حياتها.. فعاد شبحها ليلاحقهم وليشكل كابوساً لهم، يؤرقهم، ويقلق القرية ومجتمعها.‏

5 ـ خاتمة:‏

ـ الإيقاع الدَّاخلي للرِّواية هو /إيقاعٌ حزين/ إنَّها ملحمةٌ تراجيديةٌ عاشتها بطلة الرِّواية وانتهت بموتها، وحتى دفنها خارج القرية.. عاشت غربةَ القهر، وفقدان العقل ولا من يعين.. وكم هذه القضايا حاصلةٌ في السائد الاجتماعيِّ؟!.‏

ـ الرَّمز في الرِّواية، والتخييلُّ فيها هو قليلٌ بسبب واقعية الرِّواية، وأحداثها.‏

ـ لا يوجد تفصيلٌ في شخصية /الدَّرويش/ وحضورُه في الرِّواية حضورٌ هامشي.. وكان يمكن تسليط بعض الضَّوء على هذه النماذج الإنسانية الغائبة والمغيَّبة.‏

ـ لغة الرِّواية هي الفُصحى الإنشائية الوصفية المتقدمة.. غابت عن الرِّواية بعض المحكية الشَّعبية.. حبذا لو تُرك بعض أبطالٍ الرِّواية يتحدثون بلغتهم المحكية التي قد تضيء المشهد القرويَّ، وتحقق نوعاً من حميمية الرَّبط بين الواقع وأدوات التعبير اللّغوي عنه.. أقول بعض أشكال التعبير ولا أقول كلَّ حوارات الرِّواية.‏

ـ كلُّ الإطلالات المطلعية ابتدأت بإنشائيةٍ أدبيةٍ كقوله في وصف إطلالة الغروب من القرية ص /47/ (لألأةٌ في البحر المتقلقل تأهباً لإطفاء الجمرة الكونيَّة.. البحر الذي يبدو من فرجةٍ بين سفحين نضرين.. حيث أطراف أغصان الصنوبر مدارج لآلهةٍ خضرٍ تصعد نحو الزُّرقة).. يلاحظ رومانسية النَّص.‏

ـ حول دور مهنة الكاتب وكونه /مهندساً مدنياً/… حضورُ ذلك في وصف بيوت القرية، واصطفافها.. مساحة الاعتداء على الغابة.. طول الأشجار مثال /ص 48/ (هوِّن عليك يا مرزوق.. فللزَّمن وجوده، وللأمداء اتجاهاتٌ، وللمسارات تعرجاتٌ، وانعطافاتٌ، صعوداتٌ، وانحداراتٌ) اللغةَ هندسيةٌ، وحركةُ الخطوط واضحةٌ فيها وإنْ كانت هي أدبية في الأساس.. /ص 53/ في وصف مغارة القرية (فجوةٌ في الصَّخر.. فتحةٌ كبيرةٌ كقمعٍ.. فمٌ واسعٌ وفراغٌ يمتد متضيقاً حتى يختفي.. شفته العليا تطاولت كمظلةٍ يتوزعها بلا انتظامٍ).. اللغة الهندسية في وصف فجوة الصَّخرة، والإسقاط المساحيُّ فيها.‏

ـ المجتمع الذي قدمته الرِّواية.. كان مجتمعاً نمطياً لعلَّه مجتمعٌ يحمل بداية /تحولٍ/ هو مجتمعٌ قلقٌ لا تحكمُهُ منظومةٌ فكريةٌ.. يعيش بعض هواجس الماضي.. مجتمعٌ لا يتعاطى السِّياسة كما يبدو علماً أنَّ خمسينيات القرن الماضي شهدت تحولات سياسية هامةً.. كذلك غابت النماذج المثقفة عن المجتمع والتي تحمل أفكاراً إصلاحية.. كما يظهر في الرِّواية هوية مجتمعٍ زراعيٍّ في الغالب.‏

ـ حول تسمية الرّواية /تقاسيمُ الحضور والغياب/: التقاسيمُ تعني العزفَّ على آلةٍ موسيقيةٍ يقال: تقاسيمُ راست، نهوند، بياتي الخ في تقديري أنَّ تسمية التقاسيم مشروعةٌ فهناك/العزّف على وترِ التّاريخ/ على /وتر المجتمع/ على /وتر الشِّعر/ الخ.. مسألة الحضور والغياب المعنى مفتوحٌ هنا مثال: حضورُ الطبيعة وغياب الفعل الاجتماعيِّ قد يكون الرَّمز: حضور شهلة وغياب الدَّرويش /وقد يكون المعنى الاجتماعي هو معنىً جدلياً.. كلُّ بيئةٍ تحملُ /جدلية الحضور والغياب/ كثنائية تناقض في المشهد الحياتيِّ/ الورديِّ والرَّماديّ/ إذا كان رمزُ الحضور هو الإيجابيُّ، والغياب هو السَّلبيُّ، ولعله أخيراً وأنا أميلُ إليه هو/ غياب شهلا بطلة الرِّواية جسماً بموتها.. وحضورها شبحاً في القرية يلاحق الجميع/ فهي ضحية مجتمع بالمحصلة لم يرحمها في حياتها ولا في موتها.. أخيراً قدم الرّوائيُّ /غسَّانْ ونوس/.. رواية /التموج البنورامي التراجيدي/ في القرية ومحيطها والحديث يطول.‏

اترك رداً