( في الزمن الراجع ) أسئلة القصة السورية !
محمد باقي محمد
23 أغسطس 2008
*على سبيل التقديم : محمد باقي محمد
على استحياء – وفي بدايات القرن الماضي – أبحرت القصة القصيرة كمنجز أوروبي إلى الوطن العربي عموما ، والى سورية على وجه التخصيص ، فعلى أعتاب العصر الحديث كانت السلسلة الثقافية العربية ، المؤسسة على الشعر عمودا فقريا لها ، مضافا إليه النثر الفني – ” ألف ليلة وليلة ” درة النثر العربي ، ونثر الجاحظ في بيانه وتبيينه أو في حكاياته عن بخلاء مرو ، ونثر التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” ، أو حكايات ابن المقفع في ” كليلة ودمنة ” نموذجًا – ثم فن السير – سيرة الزير سالم ، وعنترة العبسي ،وسيف بن ذي يزن ، وسيرة بني هلال ، أو تغريبتهم – وفنّ التراسل – رسائل الوزير عبد الحميد الكاتب نموذجًا- من غير أن ننسى المقامة – بديع الزمان الهمذاني نموذجاً – كانت هذه السلسلة قد تحطّمت ، فغابت الحلقات السابقة – عدا الشعر – لمصلحة الأجناس المُستحدثة ، التي أنجزتها أوروبا الناهضة – والتي تشكّل الرواية والقصّة القصيرة والمسرح مثلّثها الذهبي – ثم صدّرتها إلى المشرق ، بين دفّتي الحوار – المتعدّد الأشكال والمستويات – بين الشرق والغرب ، هذا الحوار الذي يؤسّس – بحسب الكثيرين – لتاريخ العالم بصداه وصواه المتباينين .
ربّ قائل : “هذه بضاعتنا ردت إلينا ” زاعماً أن النثر الحكائيّ – والحديث هنا عن فنّ القصّ العربيّ – تسرّب إلى بلاد الفرنجة عبر بوّابات آسيا الصغرى ، وصقلية ، والأندلس ، إلاّ إنّ الإقرار – إذا سلّمنا جدلاً بما تقدّمَ – بأنّ الغرب لم يردّ إلينا هذه البضاعة كما استعارها ، بل اشتغل عليها ، فانتقل بالنثر الحكائي التقليدي إلى مستوى القصّ الفنّي ، يجب أن يحدونا دائما ، لقد تخلّصت القصّة القصيرة الفنّية من الديباجة ” كان يا ما كان ، أو بلغني أيها الملك السعيد ، أو يحكى أن … ” والإنشاء والنهاية التقريرية الوعظية ” وهكذا تجدون ،أونخلص من ذلك إلى …” أو الزمن المنفلت ، الذي تكفيه عبارة ” وبعد سنوات – مثلا ” للانتقال به سنوات وسنوات .
عليه – ربما – أسس السرد ” بناء ووظيفة ” النسيج القصصيّ الذي أنتجه القاصّون السوريّون ، على امتداد النصف الأوّل من القرن الماضي ، وعليه – أيضاً – احتفظت القصة بالخيط الحكائيّ المعبّر عنه بضمير الغائب “هو ” ، وذلك بالاتّكاء إلى زمن فيزيائيّ ، تجري سيالته من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل ، غبّ أن ضبط هذ1 الزمن في إطار ما اصطلح عليه بزمن القصّ ، المتطابق – بالضرورة- مع زمن الموضوع أو الفكرة ، تأسيساً على أن القصّة القصيرة حدث ، يتصدّى غالباً للشخصيّة الإنسانيّة في واحدة من حالاتها ، في لحظة انبتاتها عن المؤسّسة المهيمنة ، سواء أكانت هذه المؤسّسة دولة أو مذهباً أو طائفة أو عشيرة أو عائلة.
وعليه أيضا لم تهاجس الحداثة ” مقترفو” هذا الجنس في تلك المرحلة ، ربّما لغياب التراكم في المُمارسَة القصصيّة ، هذا التراكم الذي كان سيؤسّس للتقليديّ ، ليتحدد – في ضوئه – الحداثوي ، وربما لوضوح في الرؤيا السياسية / الاجتصادية ، ذلك أن البلد كان محتلا ، وإذن فان هذا الاحتلال راح يحيل إلى الوطني – موضوعًا – يضع الاستقلال عن الأجنبي في صلب أهدافه ، ثم إلى الاجتصادي لاحقا ، باعتبار الإفقار سمة ملازمة للاستعمار القائم أساسًا على نهب خيرات البلاد المستعمرة – بفتح الميم – من غير أن يغيب التاريخ الذي يحيل إلى مراحل مضيئة في ماضي الأمة ، ولغياب المثل المُغوي بالاقتداء في حاضرها أو في مستقبلها ، على الرغم من أنّ الاستعمار في وجهه الإيجابي – هذا إن كان له وجه إيجابي – غازل الأذهان بدوله القومية المُنجزة قدوة ومثالاً ، لكنّ هذه الصورة ستختلف – من كلّ بدّ – غبّ الحرب العالمية الثانية ، وتحصّل ما تواضع عليه بدول العالم الثالث على استقلالها ، ولن يكون هذا الاختلاف بمنأى عن إنجازات علم النفس الحديث ” فرويد – يونغ – إدلر ” ، تلك الإنجازات التي أتاحت للأدباء الغوص عميقاً في ضمائر شخوصهم وأحلامها ، فظهرت أشكال جديدة للتعبير جاورت السرد ، ولم تلغه ، تجلّت في المونولوج المعبّر عنه بضمير المتكلم ، أو- مع الإيغال في لعبة الضمائر – المخاطب أو المخاطب المتكلم ، ومعه ، وفي مُحاولة لحلّ إشكاليّة الزمن في القصّة ، أو لكسر الرتابة في السرد ” التقليديّ ” ، أو لتمتين البناء الدراميّ ، أو لكلّ ما تقدّمَ معاً ، نجح القاصّون في تقديم أكثر من مستوى للقصّ ” زمن القصّ ، و زمن الفكرة أو الموضوع ” وذلك بالاتّكاء على التداعي أو التذكّر ، ذلك أنّ الذاكرة حامل حرّ له أن يرتحل نحو الماضي القريب أو البعيد ، وله أن يرتحل – حتى – نحو المُستقبل عبر بوّابة الحلم أو التخيّل . كانت سينما الأخوين لومير حاضرة ، فأعارت القصة تقنية ” التقطيع الفنيّ ” بما هو مونتاج سينمائي أساسًا ، ناهيك عن ” الفلاش باك ” – الخطف خلفا – ما أتاح للقاصّين الحلول التي أسلفت ، ولم يبخل المسرح على القصّة بأدواته المختلفة ، إذ قدّم هو الآخر عنصري الحوار والتغريب ” شخصيّة الراوي أو المجنون ، ناهيك عن الحوار بما هو الأساس في المسرح ” ، ثمّ أتاحت الميثولوجيا استعارة الحكايات الدينيّة، والقصص التي وردت في النصوص المُقدّسَة، ما مكّن القاصّين من إشراك المتعالي على التاريخ أو العرف أو القانون بالبشري الموضوعي ، أي بالنسبي وبالتالي إكسبت المتن أسطرة نهلت ممّا وسمه “رينيه ويليك” بما قبل الأدبي ، ممثّلا بالمثل الشعبي والموال والأهزوجة والأسطورة، إذْ شكّلت الأساطير معيناً لا ينضب، إن في الترميز أو الاستعارة أو المجاز! .
قدمت الستينات الجيل الأهم في القصّة السوريّة ، الجيل الذي مثّله زكريا تامر وسعيد حورانية ، ثم عبد الله عبد وحيدر حيدر خير تمثيل ، ومرّة أخرى كان الماضي ” التاريخ ” حاضرًا ، لكنّه تمظهر في النصوص القصصيّة بشكل مختلف ، لقد استلهمت المادة التاريخيّة لتقدّم إسقاطًا تاريخياً ، تتقاطع دوائر رموزه المتّسعة باستمرار مع الحاضر ، ولم يكن هذا بعيدًا عن تعملق الدولة القطريّة ، المولودة من رحم الشكل البرلمانيّ الهشّ ، الذي خلّفه لنا الاستعمار الغربي ، فلقد قفز العسكر إلى واجهة السلطة غبّ فترة قصيرة من الاستقلال ، باعتبار الجيش – كظاهرة عالمثالثيّة بامتياز – الجهة الأكثر تنظيماً وقوّة ، ولم يكن ذلك بمعزل عن حداثة تجربة الأحزاب السياسيّة ، بتلاوينها الرئيسة ” المُتأسلمة ، أو القوميّة ، أو الماركسيّة الاشتراكيّة ” زاعماً – في وهمي – بأنّ هذه الأحزاب اشتغلت على الآيديولوجيّ لا السياسيّ، ما أنتج تحاجزات اجتماعيّة ، وابتعد بها عن التوافقات والتحالفات الوطنية وحتى لاينحو الموضوع نحو علاقة القصة بالأجناس والفنون الأخرى ، فنعرّج – من ثمّ – على الموسيقى والقصّ ، والشعر والقصّ ، والفنّ التشكيلي والقصّ ، نختتم ما تقدّمَ بأنّ هزيمة سبعة وستين وتسعمائة وألف عرّت التشكيلات السياسية باتجاهاتها المختلفة ، ليس على مستوى الوطن العربي فحسب ، بل على امتداد الدول المخلّفة .
وفي علاقة الثقافي بالسياسي / الاجتصادي ، كان ثمة ثقافة مأزومة بالضرورة ،لأ نّها كانت نتاج هزائم مُتتالية ، عمّقت الهوّة بين النخب الحاكمة و” الجماهير” – لاحظوا دلالة المُصطلح – ولم يكن ثمة بدّ من اللجوء إلى تمثّل علاقة الراعي بالقطيع – بحسب فوكو – تلك العلاقة التي تحيل القطيع إلى مفهوم الأنعام ، فإذا نفرت ” نعجة” عن هذا القطيع ، كانت عصا الراعي حاضرة لتعيدها إلى” الحظيرة” ، هذا كلّه في غياب تام لصيغة العقد الاجتماعي التي ابتدعها “جان جاك روسو” ، كتأسيس معاصر لعلاقة الحاكم بالمحكوم!
كان على القصة السورية أن تخطّ طريقها في ظلّ ما تقدّم من ظروف ، لاسيما بعد أن انتشرت أفقياً ، فشملت محافظات القطر كافة ، وشكّلت ورشة عمل دؤوبة ، سجلّت في منعرجاتها تجربة النصّ المفتوح ” د. نضال الصالح في الأفعال الناقصة نموذجًا ) ، ولم يكن الأمر بمنأى عن النداء الذي أطلقه الشاعر السوري الكبير أدونيس ، لإنتاج نصّ أدبي يتجاوز الأجناس الأدبية ، ويمتح منها جميعا بآن ، هذا النداء الذي وجد في ديوان ” مونادا دمشق” لمحمود السيد تجلّيه الشعريّ ، لكنّ هذه التجربة ستصل إلى أفق مسدود ، قد يكون تحرّي أسبابها في غير هذا المقام مطلوباً ، ولتطلّ – من ثمّ – على القصّة القصيرة جدًا ” د. أحمد جاسم الحسين نموذجًا ” ، من غير أن تستوي لها المُمارسة والتقعيد بعد ، فهل أجاب ” مقترفو” فنّ القصّ على سؤال ما يزال يقضّ المضاجع ، بما هو سؤال هويّة ، أن هل نحن أبناء شرعيّون لنثر الجاحظ وأبي حيّان التوحيديّ وابن المُقفّع وسواهم ، أم أنّنا أبناء شرعيّون – أو غير شرعيّين – لأنطون تشيخوف وغي دو موباسان وفرانز كافكا وأو هنري !؟هذا الهاجس الذي سيظلّ برسم السؤال ، في عالم راحت أسسه العميقات تتحوّل وتموج وتنقسم وتتشابك أو تغيب تحت وطأة عولمة عاتية ، هبّت رياحها العاصفة منذ أمد ليس بالبعيد ، وهل أجاب النقد الأدبي المُتّهم بتخلّف عمارته عن العمارة الأدبيّة ، عن سبب تمركز الشعر في العراق ، وتمركز القصّة االقصيرة في سورية ، في حين أنتجت مصر الرواية ، وذلك عندما نرسم قوسًا يمتدّ من بغداد إلى القاهرة مرورًا بدمشق !؟
*في الموضوع :
ينتمي”غسان كامل ونّوس” إلى جيل التسعينات ، وعليه فلقد اتّكأ على مُنجز قصصيّ واسع ، حمل لواءه قاصّو السبعينات والثمانينات كوليد إخلاصي وكوليت خوري ومحسن يوسف ومحمد حيدر وعادل أبو شنب ومحمود عبد الواحد وجميل سلوم شقير ووهيب سراي الدين ووليد معماري وعبد الإله الرحيل وحسن حميد وإبراهيم خريط ومحمد رشيد رويلي ومحمد نديم ومحمد باقي محمد وعبد الباقي يوسف وزهير جبور وأنور رجا وعوض سعود عوض وباسم عبدو ونيروز مالك وسامي حمزة وصبحي دسوقي وماجد رشيد العويد وعبدو محمد ومأمون الجنان ونادر السباعي وممدوح عزام ومحمد كامل الخطيب وعبد الله أبو هيف وناديا خوست وأنيس إبراهيم ونضال الصالح وهيثم الخواجة “حمص ” وهيثم الخوجة ” الرقة ” وخطيب بدلة وتاج الدين موسى ومحي الدين مينو ورياض الطويل ومحسن غانم وياسين رفاعية وإبراهيم صموئيل وغسان الجباعي وخلف الزرزور وعلي ديبة ومالك صقور وهيفاء بيطار .
على مبدأ النمنمات يشتغل” الونّوس” على التفاصيل ، في مجموعته الموسومة بـ: ” في الزمن الراجع” ، الصادرة في العام 2007،عن دار عروة للطباعة والنشر في طرطوس ، ليقدّمَ في النهاية صورة كليّة للمجتمعيّ بأبعاده السياسية والثقافية والاجتصادية ، ففي ” رؤيا” يترصّد المسافة بين الواقع بحقائقه الصادمة والأحلام الصغيرات التي تعزّ أكثر فأكثر ، وحتى يؤسطر هذه الأحلام ، ينسبها إلى المُقدّس باعتبارها رؤيا تحيل إلى النبوّة خارج مُصطلحها الدينيّ ، وفي نصّ ” قبل الوصول ” ثمّة رحلة ، رحلة نحو الأحلام النائيات ربّما ، وإذن فثمّة تشّوف إنساني إلى تلك الأماني، وثمّة قلق من مواجهة القادم المجهول ، هذا كلّه على خلفيّة الذين يدفعونك بعيدًا عن البلد لهذا السبب أو ذاك ، بهذه التهمة أو تلك، ناهيك عن الأسى الشفيف لمفارقة تفاصيل شكلّت تاريخك الشخصي .. شكلت حياتك ، أما في نصّ “جثّة” فثمّة ذلك اليباس الذي يصيب مفاصل الروح ، فالواقع صادم ومفرّق ، والأحبة تاهوا في مُنعرجات الحياة، ولم يبق سوى عنوسة قاسية تغلّ المشاعر في مجتمع ذكوري بطريركي ، فيه يحقّ للأب أن يُخرج ابنته من المدرسة، والأخ – هو الآخر – يتحكم ، يأمر وينهى ، الأمر ذاته يتكرّر مع الحبيب ، وإذا قيّد لهذه العنوسة أن تنتهي ، فلن يكون الحال مع الزوج أفضل ، وإذن فلا حلّ إلاّ بالنكوص نحو الأعماق القصيّة للنفس ، للتشرنق ربّما ، وربّما للتحوّل إلى جثّة تسير على قدمين . في نصّ ” العصا” ثمّة عصا في يد الأب لكي نحفظ “جزوعمّ” ، وأخرى في يد الأستاذ ، وأخرى في يد الشرطي ، عصا من نوع آخر في يد الزوجة التي اصطحبت أولادها وهجرت من غير سبب واضح ربما ، وعصّي في يد آخرين ، مجهولين معروفين ، يقتنصون من حياتنا البهيّ والمورق ، فيما يحفر نص ” طاقة” عميقاً في النفس بحثاً عن الطاقة التي أهدرت على عتبات الحياة ، الحياة المُدجّجة بالآخرين الذين يراقبون ، يتلصّصون .. ويلاحقون ، ومرّة أخرى لامهرب سوى أسوار كتيمة في أغوار النفس ، نتمترس خلفها هرباً من تدخلّهم الفظّ والجارح ، فمن هم هؤلاء الآخرون!؟ أهم الأهل ! الجوار ! أم المخبرون السريّون ورجال الشرطة! أم أنهم هؤلاء كلهم مجتمعين !؟ وإذن هل نصرخ طلبا للنجدة !؟ يشير نص ” التابع” إلى الآخر المُلازم لنا كظلّ ربّما ، موجود في الفرح تماماً كما في الحزن ، وحاضر في الشدّة كما في الرخاء ، فهل هوآخر فعليّ ، أم أنّه يشي بالأنا الأعلى التي تراقب سلوكنا ، وتمنحه حكم القيمة الأخلاقي !؟ وفي نصّ ” في اللجّة” تسبح الشخصيّة المحوريّة في اللجّة ، لجّة البحر في الظاهر ، ولجّة الحياة بما فيها من سموّ ونبل غير مُتاحين على الأغلب من جهة ، وما فيها من ابتذال وسوقيّ نغرق فيهما على الرغم منّا من جهة أخرى ، وفي الأحوال كافة ثمّة ما يغوي ، ويستحقّ عناء المُحاولة ، تحقيق الذات ربّما .. وربّما هم الأولاد .. المرأة المُشتهاة ، والصداقة ، والتوق البشريّ إلى مُثُل الحقّ والخير والجمال ، وبينما يرثي نصّ ” شهامة” الحياة ، تحضر المرأة- كما في غير نصّ – بإغوائها الشهوي الغفور ، المرأة المثال المُشتهاة ، والمرأة الأرضيّة التي تتطلّب وتتطلّب ولاتشبع، فلا يعود ثمّة وقت بين شجار وآخر، يتيح للمرء أن يتابع الأولاد في دراستهم ، يدفعهم إلى الأمام ، ويزرع فيهم السلوك القويم ، فهل المرأة حقاً من برج ناريّ ، والرجل من تراب !؟ يتعزّى نصّ ” العزاء” بالأسرة ، لكن هذه الأسرة تتشظّى على أعتاب الحياتيّ في زمن صعب ، وإذن فثمّة – مرّة أخرى – امرأة متذمّرة ، ومرّة أخرى – أيضاً – المرض ليستلّ حياة أحد الأطفال ، ويحيل إلى حسّ الفقد غير المُحتمل ، أبدًا يحضر الآخرون ، ولكن لاليسهموا في حلّ المشكلات ، وإنّما ليشتركوا في دفعها إلى الأمام بعريها الصفيق ، في نصّ ” ولدي” ثمة طفل يزفّ لنا الأعياد، يمصّ أصبعه، يقوم بحركات خرقاء ، ويسقط أرضاً، ثم يتّكىء على ركبتنا للنهوض ، فنضحك ، إنّه يعيدنا إلى طفولتنا ، إلى علاقتنا المرتبكة بأبوينا ، لكنّ الأطفال يكبرون في محيط تتناهبه مئات المعوقات ، ” فهل سندعهم يستقلون ، هل يستطيعون ، وهل نستطيع !؟” أما في نصّ ” الموعد” فنحن ننتظر موعدًا ما ، ” على قلق والريح تحتي – المتنبي ” ، فهل هو موعد مع الحبيب، أم أنّه موعد مع القدر ؟ مع المُستقبل ربّما ، أم مع وجه يطلّ عليك من الماضي البعيد ، السعيد حيناً ، والكئيب في أغلب الأحايين !؟ هل هو هذا كلّه مجتمعاً ، أم أنه انتظار ما لا يأتي ، وإذا حلّ وصل متأخّرًا !؟ وفي نصّ ” في الزمن الراجع ” ثمّة رائحة ، ثمّة لون ، وثمّة محطّات كثيرة تؤسّس لخبرات مؤلمة على الأغلب ، صباحات شاحبة ، وبرودة تصلب إلى جليدها تاريخنا الشخصيّ ! نحن لانريد سوى التفاتة حنون ، نظرة دافئة ، وحنان يحيل إلى الحميميّ من المشاعر والنبيل ، إيماءة أليفة ، لكن” الأشياء تختلف في الزمن الراجع ، تتحوّل ” ” ثمّة حين من الدهر يغدو الزمن الراجع فيه قضيّة ، بعد ما كان معيارًا ” ولا جواب يلغي من الذاكرة الأسئلة ، ثمة – فقط – ” مُتّسع من الوهم ” ، فالواقعيّ بعيد عن اللطافة والهيف ، وها ” نحن نلملم أطرافنا وأطيافنا ، ونهرول مبتعدين ” . أمّا في ” الثقب الأسود ” خاتمة هذه النصوص ، فإننا نغرق في أفكارنا عن ” الوعي ، الزمن ، المعرفة ، الإنسان والكون ، الاتجاه الحتمي وأسئلة الختام ” ، لكنّنا – على ما يبدو – مسيّرون لامخيّرون ، وإذن فثمّة فتاة حلم غادرتنا في مُنتصف المسافة ، وثمّة أكثر من كبوة في أكثر من محطّة ، وأكثر من حلم مُغتال ، وهاهو الثقب الأسود يرشح بانكسارات متأبّية على الرأب ، انكسارات تصلبنا في كلّ منعطف إلى المُبتذل ، فهل تأخّرنا !؟ وهل الظلمة إذ تطغى على النور غالباً قانون متأبّد !؟
شخوص” الونّوس “مصلوبة إلى قلقهم إذن ، إنهم يشكون العزلة ، وهم مأزومون في ذواتهم وفي علاقتهم بالآخر، وفي كلّ مفصل ثمة حلم مصيره الوأد ، ثمة اشتراط غير إنساني يحكمهم ويتحكّم بهم ، فيشكون الغربة ويعيشونها ، لقد قام الآخر على سجن آمالهم ، وأدخلهم في نفق مسدود ، ومع ذلك فهم لايصرخون ، إنهم يسرّون بسرّ شديد الخصوصية ، هم يبوحون ، وفي البوح ما فيه من فرجة للأمل ، وهو أمل يستمد نسغه من حسّ الإحباط ذاته ، ذلك أنّنا – في النهاية – محكومون بالأمل ، على حدّ تعبير الراحل “سعد الله ونوس “، ولكن هل التقط قاصّو التسعينات من مثل نجم الدين سمّان وعبد الحليم يوسف وأحمد عمر وخورشيد أحمد وفاضل عبد الله وإبراهيم الخليف وبسام الحافظ وهيمي المفتي وميرفت أحمد وحمدي البصيري وفرحان ريدان وفرحان مطر وعبد الحافظ خليف ونجلاء علي أحمد ومحمد جمال الطحان وأنيس إبراهيم وعبد الحميد يونس وسمير عامودي وشذا برغوث وكوليت بهنا ،على سبيل المثال لاالحصر ، هل التقط هؤلاء القاصّون التحوّل البنيويّ الخطير في تركيبة المُجتمع السوريّ ، غبّ التوقيع على اتفاقيّة التجارة العالميّة ” الغات” ، والذي وجد تعبيره السياسيّ / الاقتصاديّ في ما سيُسمّى باقتصاد السوق “الاجتماعي” ، الذي يعني ببساطة تخلّي السلطة عن دور الراعي الداعم لأسعار البضائع الأساسية خصوصاً ، لتترك مواطنها في عراء الرأسمالية المتوحّشة المديد ، في ظلّ ” سلّم ” أجور ” ثابت” !؟ لقد تشكّل المجتمع السوري التقليدي من شريحة محدودة العدد، تعيش حالة الرفاه ، مستأثرة بالثروة والجاه ، وشريحة صغيرة محدودة العدد هي الأخرى تتموضع في أسفل السلّم الاجتماعي ، مُشكّلة الفئة الفقيرة ، وشريحة واسعة تنتمي إلى الطبقة الوسطى ، وتكمن أهميّة الشريحة الأخيرة في أنّها كانت الحامل السياسي لمشاريع التغيير بكافة تلاوينها ، والمنتج الأساسي للخيرات المادية ، لكنّ اقتصاد السوق ” الاجتماعي” غير المُقونن بعد ، أفقر قطّاعات واسعة من هذه الشريحة ، وهبط بها إلى ما دون خطّ الفقر ، وهاهي تغيب أو تكاد ، لتغيب معها مشاريعها المختلفة !؟ فهل الارتباك المواضيعيّ في القصّ السوري انعكاس لحالة عدم الالتقاط هذه !؟ فإذا كان الجواب على السؤال الأخير بالنفي ، جاز لنا السؤال ، أن أين هي هذه التحوّلات الدراماتيكية العميقة في نتاج القاصّين السوريّين !؟
*في الشكل الفنيّ :
لا يسلّم نصّ “الونّوس” نفسه للمتلقّي بسهولة ، ما يعيد إلى الأذهان الجدل الواسع ، الذي دار في ثلاثينات القرن الماضي على مستوى الاتحاد السوفييتي السابق حول مسألة الإيصال ، والذي أسهم فيه كلّ من ” بلينسكي ودوبرولوبوف ولوناشارسكي” ، والكثيرون يتذكرون الرأي الفيصل” لأناتولي لوناشارسكي “الذي ذهب إلى أنّ ” مايُكتب للفلاسفة والمفكّرين ومدرّسي الجامعات ، سيختلف بالضرورة عمّا سيُكتب لفلاح في أعماق سيبيريا ” ، وإذن فإنّ نصّ”الونّوس” ينتمي إلى النخبويّ ، المُوجّه إلى قارىء مُتمرّس في القراءة القصصّية ، صحيح أنّه ينتمي إلى التيّار الثاني في القصّ السوري ، ذلك التيار الذي تزعّمه د. فؤاد مرعي ، والذي يرى بأنّ مقتل القصة القصيرة يكمن في شعريّتها ، على عكس التيار الثاني ، الذي رفع لواءه الناقد وفيق خنسة ، والذي نادى باللغة الشعريّة لغة للقصّ ، لقد نادى الخنسة بما يسمّى بالقصّة ” القصيدة” ، إذا جاز التعبير ، وعليه فلغة “غسان كامل ونوس” لغة تحليل ، بما هي لغة نثر ، لا لغة صورة ، إنها حامل مباشر لموضوعه ، يذهب مباشرة إلى هدفه ، إنّه يتوخّى الدقة في الدلالة أساساً ، إضافة إلى السلامة طبعاً ، لكنّها- أي اللغة القصصيّة – لاتأبه كثيراً بالاشتغال على اللغة جمالياً ، وبذلك ” تفرمل” غموض القصّ ، بعد أن قطع هذا النصّ حبل السرّة مع الخيط الحكائيّ ، الذي يربط أجزاء الحدث ببعضه ، بشكل كامل أو يكاد ، فإذا وشى نصّ “الونّوس” بمُقاربة الشعري من جانب آخر ، إذ يشكّل ” حالة” تتصدّى لردّ الفعل على الحدث ، أكثر ممّا تتصدّى للحدث ، أدركنا لماذا لجأ القاصّ إلى الاقتصاد اللغويّ ، وذلك بإعمال قانون الحذف والاصطفاء ، الحذف لكلّ ماهو عارض بحسبه ، والاصطفاء لكلّ ما هو جوهري – أيضا – بحسبه ، هذا القانون الذي لايحكم المتن القصصيّ فقط ، بل يذهب إلى التقاط لحظة المُفارقة ذاتها ، وذلك لبناء العمل الفنيّ عليها ، بما يُتيح اصطفاء الجوهريّ من المواضيع ، وهذا يذكّرنا بالقول الروسيّ ” إذا أحبّ ساشا ماشا وتزوّجها ، فليس ثمّة مشكلة ، المشكلة هي في ألاّ يحبّ ساشا ماشا ، ومع ذلك يتزوّجها ” على هذا الأساس ينزع نصّ “الونّوس” إلى التجريب بحثاً عن الخاص المتوافر على الجدّة والفرادة ، فينأى عن التقليديّ إلى الحداثويّ ، وفي هذا الحداثويّ تقوم جمل بعينها بدور محفّزات القصّ، لتدفع الحدث إلى التنامي ، لكنّها تحتاج إلى قارىء حصيف لا تفوته هذه المحفزّات ، بسبب من غياب الخيط الحكائيّ كما أسلفنا . وتشكّل تقنية التقطيع الفنيّ سدى المتن القصصيّ في المجموعة ، لتقدّم في أجزائه أو تؤخّر ، توخياً لإحداث التشويق اللازم ، عبر تنامي البنية الدرامية الخارجيّة ” صراع الشخوص في القصّ ” والداخلية ” صراع النوازع المختلفة في الشخصية الواحدة ” ! هذا التقطيع يحلّ إشكالية الزمن في القصّ من جهة ، وذلك بخلق مستويين للقصّ ، مستوى القصّ ، ومستوى الفكرة ، إذ يقوم الأول بضبط الثاني ، كما يسمح التقطيع بتجاور السرد ” التقليدي” مع المونولوج المتعدّد المُستويات ، عبر اللعب على ضمائر المتكلّم والمخاطب والغائب ، التي تنتظم غير مقطع في المتن ، وتقدّم الأصوات المتعددّة في رؤاها المتباينة للحدث ذاته من جهة أخرى ، ويوزّع التشكيل على أجزاء النصّ ما يذكّر بالفنّ التشكيليّ من جهة ثالثة .
إنّ مشروع “الونّوس” يعتمد – أساساً – على توريط القارىء في لعبة مُشتركة ، يسهم من خلالها في إكمال المسكوت عنه في النصّ ، لكن الموما إليه بذكاء ، هو لايريد قارئاً نمطياً مشدودًا إلى سلبيّته ، وإذن فهذا القارىء مُطالب بإكمال الأغنية إلى آخرها ، ولاشكّ في أنّ كلّ قارىء سينجز المهمة على طريقته ، استناداً إلى خبراته ورؤاه ، من هنا جاءت النهايات المفتوحة على أكثر من احتمال ربّما ، أمّا كيف تضاءلت الشخوص في المتون بنتيجة انكساراتها ، فلقد لجأ القاص إلى وزن ” تفاعل” ، الذي يحيل إلى تشكّل الفعل من داخله ، ولم يكن هذا بعيدًا عن العناوين – ذات الكلمة الواحدة على الأغلب – التي تشي بالمراد من غير أن تصرّح به ، فهل أوغل “الونّوس” في التحلّل من الحكي القصصيّ ، بشكل غيّم هذا المراد لمصلحة التجريب ! وهل أسهمت عناصر ما قبل الأدبي من مَثَل ” لكنّ من هذا الذي يدخل في آخر الليل بين بصلة وقشرتها ” وحكاية ” زوّج السلطان ابنته للشاب الشاطر الفقير ، وأسكنهما في قصره ، انزعج العريس الذي يريد أن ينفرد بعروسه بعيدًا عن العسس والحرس ، فظلاّ ينامان والسيف بينهما إلى أن … ” وميثولوجيا ” ويحرك ثور الأرض قرنيه حتى ليكاد يلقيها ” ، ” هناك عصا شقّت ماء البحر المالح ، وعصيّ تحوّلت إلى ثعابين تتلوّى ” نقول هل أسهمت هذه العناصر في أسطرة النصّ بالشكل المطلوب !؟ سؤال أخير ، المكان بجماليّاته التي أخذت بمجامع “غاستون باشلار” ، فخصّص له كتاباً بالعنوان ذاته ” جماليات المكان ” ألم يكن يستحقّ التفاتة أكبر!؟ ألم يكن بالإمكان الاشتغال عليه ، ليكون فضاءً قصصياً ينافس الشخوص على ” البطولة ” ، ويقف معهم على قدم المساواة ، بعيداً عن المكان الواقعيّ ، بما هو فضاء أرضيّ يحيط بالشخوص ويبيّئها فقط !؟ ثمّ هل ثمّة أمل في عمارة نقدية توازي العمارة القصصّية ، تحلّلها ، وترتّبها ، وتبعد عنها الدخلاء وأنصاف المواهب ، وتضع الجهود الفردية المشكورة ” د . نضال الصالح – القصّ السوري ، قصة التسعينات نموذجاً – على سبيل المثال لاالحصر ” في مكانها المُناسب داخل هذه العمارة !؟
محطة::. عرض ونقد |
إرسال للأصدقاء | طباعة
يمكنك متابعة آخر التعليقات من خلال يمكنك التعليق على الموضوع،