للأديب غسان كامل ونوس تجربة متنوعة في مجال الشغل الإبداعي أصدر خلالها: (في القصة): هامش الحياة..هامش الموت- الاحتراق- ظلال النشوةالهاربة- دوار الصدى- أحمر.. أبيض- العائذ- مفازات- خطايا- في الزمن الراجع، في الضفة الأخرى؛ (الرواية): المدار- تقاسيم الحضور والغياب- أوقات برية؛ وفي (الشعر) تضاريس على أفق شاحب- موال الأرق. وله في (الكتابات): حالات – موضوعات ومواقف- في الثقافة والأدب..
التنحي جانباً
«قريباً من القلب» المجموعة الشعرية الجديدة للأديب ونوس تقع في 202/ص من القطع الوسط صادرة حديثاً عن دار الفرقد للطباعة والنشر تزينها لوحة الغلاف من تصميم الفنان كمال محي الدين حسين- يشغل الشاعر مساحة واسعة من الأدب؛ ففي الشعر الحديث يملك إرثاً مهماً وذائقة شعرية وإحساساً مرهفاً ويبحر في اللغة السهلة والتراكيب اللفظية الفصيحة كما يبحر في القصة والرواية يكون عالمه الخاص من خلال عالم القصيدة القديمة والحديثة. يقول: لا الثلج أكثر بياضاً من لهفتي ولا أبرد من ترددي في الاقتراب/ ولا الدرب أقصر من رغبتي/ ولا أسلس من سيالات الرغبة/ ولا أصعب من عجزي عن الوصول/ ص27.
فالثلج لديه يعني الكثير من التعابير ولاسيما هي الحقيقة ذاتها صافية للرؤية بل حلم يتدفق بالمشاعر والأحاسيس فهو متحول وغير ثابت يتدفق بالصور المطبقة فحالة الصوفية لديه تتطابق تماماً بالرغبات وهي الطريق الأقصر للعبور إلى الجهات واحتمالات مفتوحة للمعنى برؤية ولهفة لأشياء حتمية بلا موعد أو نداء روحي يسعى الشاعر ونوس لإيجاد جمالية المكان المفقود خلال الألوان ومقاربة الزمن.
يقول: ما الذي يبقى من الزمن /إن تنحينا جانباً؟!/ ما الذي يهمّ الزمن/ إن قررنا التوقف؟!/ أو درنا في المكان ذاته/حول المركز عينه ؟!/ ففلسفة الأشياء لها بعدها الزمني فنقطة الحياة هي المركز والولادة الأولى، هذه التأملات تضعنا في مسألة رياضية منطقية تدور حولها تجارب لتصل بوضوح وفي حالات تجاذبية وأحياناً تتنافر وتتصاعد وتهبط فجأة.. فالقدرة الكافية هي الحياة والموت معاً مدها وجزرها وقوانينها فصولها وزمنها العابر. فثنائية الشعر فلسفة لدى بعض الشعراء الكبار لهم أسلوبهم وثقافتهم في الإبداع. استطاع ونوس أن يفرض نفسه بروح ملهمة وذائقة شعرية مبدعة على الساحة الأدبية وناقداً في آن واحد فالمكان والزمن واللحظة في تجليات الشاعر تحمل المعاني المتدفقة فيضاً ونقاء في القصيدة الواحدة والصور المولدة الخاطفة والمكثفة التي جعلت من اللون وحدة متماسكة ومتناغمة في مشهدية متحركة ما أعطت الصورة الإحساس الجمالي يقول:
الأفق الرحب
«تستطيع الخضرة أن تلون المنحدرات/ لكنها تعجز عن تخفيف شدة انحداره/ يستطيع الشلال أن يختصر المسافة/ بين حافة الجرف والوادي/ لكنه سينحسر».
الشاعر يؤسس حداثة شعرية برؤية تعبيرية جديدة وفنية يستمد من عالمه المحيط بطبيعة ورؤية واضحة مرتبة بإيقاعية مكتملة ذات البعد والعلاقة الإنسانية من خلال اللغة المستحبة والشفافة المرتبطة بالبيئة دلالاتها وأبعادها مصوراً بذلك الطبيعة البشرية الحسية والجامدة والمتحركة وهذه ميزة لدى الشاعر ومنطقه المعرفي.
يحمل أفقاً رحباً في عمله الأدبي والفني بمفهوم اللغة الشعرية من حيث تنظيم الوصف تارة بواقعية السوريالية والتجريد تارة أخرى ضمن تشكيلة فنية لها خصائصها في الأسلوب يتصف شعره بروح المداعبة الحسية كعمل فني له قيمته الإرثية الأدبية له نظمه وترتيبه ومعاناته فرحه وحزنه الخ. لكن تحليل العمل الفني الفرد سرعان ما يتسع ليشمل أعمال الكاتب كلّها لأن الخصائص التي نلاحظها في عمل من أعماله تنتشر في بقية أعماله في معظم الأحيان ومن الممكن التعرف على أسلوب كاتب مثل (توماس كارلاين، أدهنري جيمن ووصفه بالسهولة. ويعد كتاب فرانت دورنيف (أسلوب بندار 1921) وكتاب وليم ك ومست (أسلوب سامبول جونسون النثري 1941) أمثلة رفيعة المستوى على الوصف المنظم لأسلوب كاتب بعينه لكننا ونحن ندرس هذه الأعمال للشاعر ونوس لمجموعة من الأعمال تنتمي لعلاقات أو لفترة زمنية انطلقت من خلالها على الأسلوب المنظم عن طريق التحليل اللغوي وهذه تشكل قدراً لا بأس به من المعرفة يقول: «تحاول الشمس أن تتجنب الزهور/ التي تحب أن تحترق/ تحاول الشمس أن تداري/ الغصون الطرية/ التي تلح على أن تلوّح لها / تحاول الشمس/أن تهدئ حماستك إليها/ فلا تكترث بذلك/».
شاعر الحب
وهنا يذكرنا بشاعر الهند الأول طاغور بتداعياته وملحمته الرائعة شاعر الحب والطبيعة والجمال إلى أن يقول «وألام إن راودتني/ كائنات الضفاف/ ورغبتي المتعالقة على الغصون والغرّات/ ولهفتي لالتقاط همسة/بين الظلال/ قد لا تقصدني» يبحث الشاعر عن مكان آمن وهادئ جميل لسماع صوت الطبيعة والغناء الدافئ بعيداً عن الضوضاء.. الشاعر مسكون بالحب والمشاعر الرومانسية فقد استخدم اللغة بطلاقة معبرة وحرية تروض النفس بروح الفضاءات الصافية الصادقة والرغبة أشد شوقاً للحياة، فالتشكيل لدى الشاعر حسي ورمزي للقصيدة المتوالدة والمولدة للكلمات التي تنداح في عمق اللغة وجوهرها شكل فيها حالة ذاتية بين الفصول ومفتوحة على الاحتمالات تغرق المعنى ببعض التفاصيل والأفعال والاستفسارات والنفي والخبر والأحوال وغيرهما، وهي بالضرورة تعد المفصل الرئيسي لبناء قصائده «إنه يؤسس في أسلوبه الرمزي ترابطاً وثيقاً في الفكرة المعنوية والفنية للصورة الشعرية بشكل عام وغني في كيفية تكثيف اللغة ودلالاتها في الإيماء وجدلية العلاقة بين الحداثة من جهة والموروث من جهة أخرى الذي يضفي عليها جمالية المعاني والذاكرة».
يقول: مهلاً يا أرجوحة الزرقة/لا أستطيع تحمل كل هذه الحيوية/لا تمدي ألسنتك/ أظنك تهزئين مني/ لأنني لم أنته بعد/ من حصار الخضرة/.
هاجس الشاعر دائماً البحث عن المعاني السحرية المتألقة في عالم القصيدة واللغة المنتجة الجميلة للطقوس وهذا من خلال خوض تجربته الأدبية الواعية كونها أصبحت جزءاً من حياته بل قريبة من القلب، ومخزوناً من الذاكرة الأدبية المبرمجة في التشكيل الرمزي للقصيدة الجديدة إذ يؤكد خياله الخصب في رسم الحياة بكل تفاصيلها بلذة الطبيعة والغوص في أسرارها فهي تعكس حياته الذاتية من خلال البحث لمفردات اللغة الجميلة ليضعها بمكانها المناسب مثل: «الحنان- الجمال- السهول- الجبال- الشجر- الزهور- عذراء- صافية- مطر- شفق- منحدر – مسافات- الوادي- القلب الخ» ويقابلها أيضاً: «حالات – انطفاء- نهاية- الحزن- ندم- جراح- يبتعد- تناثر- مرج- احتراق- خسائر- الصبر- النار- الحصاد- وغيرها» وهذا هو فضاء الشاعر المتكامل بحيويته، والتضاد عامل موحش في التشكيل الحاصل وهو العامل الرمزي والزمني للقصيدة إن كان سلباً أم إيجاباً فإنه يمزج ما بين الحسي والخيالي قريباً من القلب.. نص مفتوح على الأفق بزرقة بعيدة خصبة تتدلى من كأس الغياب «بصوفية خمرية» وإشراقة تبدد الظلام وتؤكد ما مدى صدقية وذوق الشاعر للغة المتوهجة وتؤكد بأن القلب يضيء من شمس الحلم بشوق ولهفة، فقد تتجلى قصائده عن الكثير من المميزات والخصوصية في التراث المعجمي، وحداثة الشاعر فيها الكثير من الخبايا والقيمة الفكرية والمعرفية المبحرة والمعاصرة في تألق عالم القصيدة عند ونوس بروح المداعبة وخيال خصب يرتقي إلى علاقات متجلية بالإنسان والوطن والحب والبوح إلى الحرية والمرأة الحضارية وكل قصيدة لديه هي اكتشاف ونضوج وإبداع….
الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: علي الشيخ
الناشر: جريدة تشرين
تاريخ النشر: 2012-09-06
رابط النص الأصلي: http://tishreen.news.sy/tishreen/public/print/267037