لا حدود لمتون القول الشعري وأشكاله العصية على الحصر، في القصائد التي لبت حروفها وإيحاءاتها، رغبة الشاعر السوري (غسان كامل ونوس) بمجموعته الشعرية ” حديث الروح “، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، رغبة ممزوجة بالألم حيناً وبالحنين والشغف أحياناً أخرى، بأن يحول بأدواته البسيطة، العوالم السحرية التي تجوب أصقاع أفكاره، إلى كلمات مدادها الوطن، وإيقاع تجلياتها يرقص بترف لغوي باذخ التنوع والثراء، ينتقل بخفة كلمة حرة، بين انتمائه العتيق لسوريته، وحزنه الشفيف المرتدي عباءة القابض على انزياحات تفاصيل هذا الحزن، المتلطي بدهاء حبة عنب تختمر، بين الكلام وأبعاد مراميه الصاخبة.
الإيحاء والتكثيف والتلميح المطمئن لثبات نرده، سمات مختلفة للنص الشعري الذي يغوي به صاحب ” عذراً سورية”، مناخات سلطانه الشعري، بعد أن وجه رسائله الإنسانية والفكرية إلى حيث لا مجال للشك في هوية قضيته الإنسانية والفكرية أيضاً، من خلال الإهداء الذي حَمّله (ونوس)، رؤاه وما يختلج في وجدانه، إلى أم المقاوم، بقصيدة تضافرت على نسج وشاحها البوحية السردية الحرة، والانسجام المعشق للخيوط الشعرية العديدة، المرتحلة بين شكل المعنى ومعنى الشكل، حيث يقول فيها:
هي كل دربٍ
موجة الخطى.. في المسرى إليك
هي كل عين
رفة الهدب… المسافر مقلتيك
هي كل صوتٍ
آهة
تمتد من جمر إلى جمر.
تبتعد لغة صاحب ” تضاريس على أفق واحد “، عن الزخرفة اللغوية المقصودة، غازلة تداعياتها الحرة على نول ذاكرته ومخزونه الفكري بمفرداته الغنية، الذي ينهل (ونوس) من دلالاته البسيطة، واحتمالات انتقائيته المعقدة، فاللغة التي عُجنت بها قصائد ” حديث الروح “، تعتمد البساطة الظاهرة شكلاً فيها، لتجذب مختلف أنواع القراء، لكن إيحاءاتها البوحية تنوء بثقل المعنى وعمقه الأليف، إذ كثيراً ما تصدح موسيقا تلك القصائد، بمكنونات نوتاتها المألوفة إلى حدٍّ ما، تاركة لخيال المستمع- القارئ ، أن يركن إلى ما تحسبه حالته النفسية، طوقها الأمين، وهنا تبرز أهمية أشعار (ونوس) في مواءمتها للكثير من الأمزجة المتنافرة في استساغة الكلام وشرائطه التي تقبلها الأنفس على شرائط أيضاً.
يقول في قصيدة ” مدار الأبد ” المهداة إلى اسشهاده الأكيد:
وأنا الغريب ببابي
المفتوح للغرباء
قد لا أليق
بكل آهاتي
وبحة صرختي
ودمي الرصين
لكن بي توق التعالي
كي أطاول غرة تسمو
لكن بي شوق التلهف
كي أعانق
مقلة ترنو
إلى الرجع الأليف.
للشعر في رأي صاحب ” الاحتراق ” فرادة بين الأجناس الأدبية، قد يشع من خلالها بشكل أو آخر، وهو يعني بذلك : “الشعرالمعبر عن كينونة وأعماق وأبعاد وأطياف، والدخول في ذلك ليس يسيراً، والحالات التي يمكن للمرء أن يعرفها من ذلك، قد يشاغلها أو يعكرها ما في اليوميات من أحداث وهموم وانشغالات”، ومن هنا نلاحظ في ” حديث الروح ” ، أن الشاعر يرسل صوته المكتظ بلوعة الواقع الذي تحياه أحلامه البسيطة في بلد ينفتح على مقاماته البديعة، حتى في خيباتها، على من أضرم في دواخله حرائق القلب، إلى النزيف المصقول بعناية ألمه، وما يمر تحت خائنة عيونه، من وجع سوري لا تندمل جراحه المفتوحة على مسارب الدهشة المطعّمة بمرارة ريق الحسرة، بحيث أصبحت تلك الرؤى التي يراها الشاعر بعيني شغفه ورهافة أماسيه الطويلة، قاسية في هبوبها السارح على مساحة وطنه، واقعاً مشوهاً لا يحتمل الشعر تفادي انزياحاته الجارفة.
يقول (ونوس) في قصيدته حديث الروح:
لأني شهيد أقول
لمن صار في الظل
يلهث خلف الظعون
ويلقي إلى نبضي المر
والثاكلات الظنون:
لقد ضاع فيك النداء
كأن لم نكن في العراء معاً
ولم نشتك الهمّ والجوع والبرد
في خيمة من خواء
فصار لنا قبلتان
وشطان في اتساع
ولون بحجم الضياع.
نلاحظ تقنياً الأساليب المتنوعة التي يطوعها صاحب “مفازات “، لتجري أنساغها في ترانيمه الشعرية، تاركاً للسرد أن يجرف القوافي المصطنعة، وموسعاً حيزاً دلالياً للمفردات المقفّاة لتكون مفاتيحه السرية وهو يلج مكامن اللغة وحيوات غنائيتها العفوية، خصوصاً وأن قصيدته ” حديث الروح “، هي احتفاء بالشهادة التي يشتهيها، ورفع نخب الوفاء للشهيد الذي تقف أبيات (ونوس)، على ناصيتها، وهي ترنو إلى كماله العالي و بياضه المشتعل، لذا سنرى كم هو مطمئن إلى قلق التداعي الشعري، تاركاً للكلمات أن تقود قلمه حيثما تشتهي غايته وسبلها المبررة.
تنتقل قصائد ” حديث الروح ” داخل عالم انتقالي يمنح ثيماتها مخيلة عميقة وأفقاً رحباً، لا تنظر تساؤلاتها وهواجسها إلى الواقع من زجاج حاجب للألوان والرائحة، فقصيدته تتنفس أحماض مكوناتها وشخوص حكاياتها المشتهاة، كما أن النظام الدلالي فيها يوحّد نقيضين رسّخهما الجدل النقدي، على اعتبار أنهما متوازيان لايلتقيان: الاشتغال على اللغة، والذي بدوره يناقض، الاشتغال على التفاصيل. محاولة التوحيد التي قام بها (ونوس) تمتلك أهمية جوهرية، لأنها تعيد المبادلة في الأثرالشعري بين الصوغ ( الذي يسمى، بسرعة، بلاغة ) والتفاصيل (التي تسمى، عموماً، لغة الحياة اليومية) كما نقرأ هنا في قصيدة شهرزاد الزمان، المهداة إلى دمشق:
بأي المنى تهجسين ؟!
وأي المنى تمنحين ؟!
وكل الطقوس تقود
إلى معبد الصالحين
و كل النذور تزاحم
كي تقبلي
سأشهد أنك عاشقة من نسيج فريد
و أشهد أنك عُّز وجاه
وحب شفيف يُرى من بعيد
وأصرخ :
هل من مزيد.
لا يشي عنوان المجموعة الشعرية ” حديث الروح ” بما يحمله من دلالات حسية شفيفية، بالمضامين الإبداعية التي تتزاحم على ضفاف القصيدة النابتة على الورق كشتلة معربشة، تحمل قطوفاً دانية معانيها وعصية على الإيجاز والتجاور في آن، وربما نستطيع أن ندّعي أن القلق الذي يقف على ريحه الشاعر (غسان كامل ونوس ) في حديث روحه المعلن، طبعاً بالمعنى الإبداعي وليس المرضي، هو الذي يدفعه للبحث عن وسائل تعبيريةٍ جديدة، ولغةٍ جديدة، وأشكالٍ فنيةٍ مختلفةٍ عن السائد.