الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: خبر جليس
الناشر: العروبة- العدد 14088
تاريخ النشر: 2018-08-10
رابط النص الأصلي: http://ouruba.alwehda.gov.sy/node/232354

هل العودة للماضي والخوض في متاهاته يمكنها أن تستنهض الحاضر وتصوِّب خياراته
كثيرة هي الأعمال الأدبية من رواية ومسرحية وقصص وشعر التي اتخذت من البحث في الزمن الضائع ، أو العمر المنقضي سبيلاً لتسليط الضوء على قضايا نفسية تخصُّ الإنسان في الزمن الحالي للنص الأدبي. ومن هذه الأعمال رواية (البحث عن الزمن المفقود) للروائي الفرنسي (مارسيل بروست)، والتي لابد لنا من استحضارها ونحن نقرأ المجموعة القصصية التي تحمل عنوان(في الزمن الراجع) للأديب السوري(غسان كامل ونوس).‏

*التحليل النفسي…وانعكاساته:‏

يبدو جلياً تأثير التحليل النفسي على قصص مجموعة(في الزمن الراجع)، حيث يعيد أبطال القصص سرد سيرهم الحياتية عبر تحليل نفسي لتفاصيل عاشوها في الماضي من الزمان ولكن يُحسَب للأديب(غسان كامل ونوس) أنه ترك للتحليل النفسي الذي يقدمه أبطال القصص أن يتجسَّد بأساليب مختلفة من ناحية دقة التفاصيل ودقة الإحالة للأسباب والدوافع وذلك لتتوافق مع طبيعة وإمكانات كل بطل من هؤلاء الشخوص وحتى درجة ثقافته أو مستواه التعليمي ووسطه العائلي وطبيعة عمله، وهذا ما أضفى على كل التحليلات صفة المصداقية وهذا ما يجعل القارئ أكثر تفاعلاً معها وتقبلاً للقضايا المطروحة بلا تنظير وإنما جاء الإسقاط النفسي على عنصر(الزمن) مناسباً لمقاس كل شخصية.في قصة(قبل الوصول) ص19(الحواس التي صارت تُهَمي لم يختبرها، ولست متأكداً من نجاعتها، رغم أن الكثير من الحوادث كان يجب ألا يمر بلا اهتمام: مدرس اللغة الأجنبية الذي أهانني في الصف أمام زملائي، انتهى في بئر مهجورة، الزميل الذي غلبني في معركة غير متكافئة، وقع عن شجرة التين، تلك التي لم تستجب لرغبتي في الحديث الحميم، شوهتها الحصبة…).‏

*الإنسان بلا إرادة مجرَّد جثَّة!!!‏

ربما قسوة الوصف والتحليل النفسي الذي يجرح المشاعر أحياناً، سيغدو كالصدمة الكهربائية بالنسبة لمريض على فراش الموت، فإما أن تعيد لقلبه الخفقان أو ترسله في طرفة عين إلى غياهب الموت، وحين يقدِّم الأديب صورة الإنسان فاقد الإرادة على هيئة جثَّة فهذا يمكنه أن يصدم القارئ الذي سيستهجن الأمر ولكنه وبردة الفعل الطبيعية للاستهجان سيعود لذاته ويتفحَّص حياته وصيرورة قدراته وإرادته وبالتالي تصرفاته ومواقفه ومقاومته للظروف القاسية أو استسلامه لها لتشله وتحيله إلى جثَّة، ص34( سألتِ نفسكِ السؤال ذاته. هل فكرتِ أن يفعل شيئاً بهذه الجثة التي لا تموت؟! لن يتطلب الأمر كثيراً من التصرف والحيلة، قليل من الجرأة التي لم تكن لديه، هل كانت لديكِ؟!).‏

*القوة هل تحمي الروح؟‏

القوة الجسدية، أو النفوذ المادي للإنسان بكل أشكاله، ربما كل هذا يُغرِقُ صاحبه في لجَّة الوهم أنه يمكنه العيش بسعادة، ودون الحاجة للتواصل مع الآخر ولكن علم النفس له كلمة وهو يجيب على التساؤل: هل القوة تحمي الروح؟ والإجابة في الأدب تأتي عب سياق القصَّة لتقول: لا، أبداً بل على العكس تماماً القوة بعيداً عن التواصل مع الآخر ستؤدي بصاحبها إلى هوَّة بلا نهاية، ص57( صوتُ عزيزٌ يدوّم في فضاء الوعي الخامل، يستحثه دويّ يتكرر، بعد ومض يتواتر، قصف أم رعد؟!..أصوات تتنافر في الذاكرة، رصاص أم برد؟! زخات متلاحقة تأتي وتروح، لكنها تتكرر، تتزايد من كل الجهات. لا سبيل للسؤال، لا وسيلة للتواصل. الصدأ يبطن أطياف الروح، التساؤل يتغلغل في طيات العفن والغفلة.).‏

*أدوات الحياة البسيطة:‏

ما الذي يدفع الإنسان للذهاب إلى جهاتٍ تمنحه ولو تصوّر عما ستؤول إليه حياته أو لتقدِّم له تفسيراً لأمر ما قد جرى معه في زمنٍ ماضٍ؟ إنه الإنسان العاشق لمعرفة المجهول والباحث عن شيءٍ ما يضيء له مكاناً مظلماً من حياته الماضية والقادمة حتى لو استخدم أدوات الحياة البسيطة والساذجة كالذهاب إلى البصَّارة، ذلك أنَّ النفس الحائرة والأمنيات القلقة عند الإنسان الضعيف الإرادة لابدَّ أن تقوده إلى هذه الطريق، ص84( ستصدق البصارة التي قالت: ليست من برجك، هي من نار، وأنت من تراب! “ضحكتُ: يلزمنا هواء وماء لنشكل طينة الخلق، وليسا عصيين! أما النفخ فمن أنفاس الحب والقناعة.” قالت حين أخبرنها بذلك مداعباً: -ألم تنس البيت والسيارة؟! ألم تبشرك بكنز..غيري؟! قلتُ بثقة: سيأتي على وجهك!).‏

الإعاقة الجسدية…وغنى الروح!!!‏

التحليل النفسي يُظهِر لنا قوّة الروح المقاوِمة على دفع صاحب الإعاقة الجسدية إلى درجاتٍ من النجاح والحياة الجميلة وإثبات الذات ليكون إنساناً معطاءً لذاته ومحيطه ومجتمعه ويتجاوز إعاقته، ليكون مميزاً بقدراته الفكرية. ولم يتغافل الأديب (غسان كامل ونوس) عن هذا الأمر الذي يخصّ النفس البشرية والروح التوّاقة للشمس والحياة، ص96( كيف استطاع أن ينجو وحاول إنقاذنا؟! القراءة والكتابة، تعلم بسرعة…قرأ كثيراً، مكتبتي التي أهملتها، اضطررت إلى إغنائها لإرضاء نهمه. طلباته لم تكن ملحة.).‏

*العادات والموروث في مواجهة علم النفس!!!‏

حين يطرح الأطفال أو المراهقين تساؤل ما يتعلق بالجنس تحديداً، كأن يسأل الطفل: كيف أتيت إلى هذه الدنيا؟ على سبيل المثال لا الحصر، فبما يجيبه الوالدان؟!!! بالتأكيد في مجتمعاتنا العربية التي تسير وفق موروث محدد ومهما بلغ الوالدان من درجة الوعي والعلم، نجد أنهما لا يقدمان إجابة علمية لا للطفل ولا للمراهق في مرحلة مراهقته الأولى. والأديب(غسان كامل ونوس) يطرح هذا الأمر الذي يعتبر هاماً جداً في علم النفس والتحليل النفسي، ص109( لم يكن هيناً تقبل فكرة ذلك الفيلسوف، حيث أرجع الكثير من الأمراض والعقد والسلوك المنحرف إلى هذا الأمر، خلال فترات لا يكون للوعي دور فاعل فيها. لكنك صرت تراقب الأمور عن كثب، وقد غدا الوعي ممكناً، فهل المصيبة أخف وطأة؟!).‏

*فلسفة الزمن هل هي مجدية؟!!!‏

هل يمكننا التحكم في الزمن؟ وإذا كنا كذلك فهل هذا سيغيّر مجرى الحياة؟ وهل سنغدو أكثر سعادة وحيوية وعطاء؟ أم سنستسلم لهذه القدرات ونعتمد عليها لحل المشاكل التي كان يمكن للزمن أن يخلقها لنا عبر الأجيال؟ هذه تساؤلات مشروعة أمام مسألة العودة للبحث عن الزمن الماضي وتوسله للولادة من جديد في حاضرنا. ص131( للزمن الراجع تقويمه، حاضره المنحدر باندفاع إلى الماضي، مع غموض في الأفق الآخر. ثمة حين من الدهر يغدو الزمن الراجع فيه قضية، بعدما كان معياراً. متى بدأ هذا الزمن؟! قبل الخيبات، بعد الشهادات؟! أم أن في كل مرحلة زمناً راجعاً. أو أن كل خطوة مدماك في بنيانه الهدام؟! في كل خطوة محاولة لترميمه، أم لترميم الزمن الآخر عبره؟! متى ينتهي؟!).‏

*المحور الواحد يميِّز قصص ونوس:‏

تميَّزت قصص هذه المجموعة بدورانها حول محور واحد وهو محور النفس البشرية والروح التواقة للزمن الفائت والباحثة عن كوّة يدخل منها نور الحياة والفرح وكل هذا متمركز على أسس علم النفس والتحليل النفسي ولكن بأسلوب قصصي جميل وبسيط قريب من الواقع مع الخيال القصصي الجميل الذي يمنحه القوة للوصول إلى نفس القارئ بسهولة.‏

*الكتاب: مجموعة قصصية بعنوان: (في الزمن الراجع )‏

*المؤلف: (غسان كامل ونوس )‏

*الناشر: عروة للطباعة والنشر (طرطوس).

اترك رداً