الفئة: دراسات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموقف الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

الحياة.. لعبة لغة
قراءة في قصص
أنيس ابراهيم
غسان كامل ونوس
ذات عصر مشمس، كنت وأخي الأصغر، على المصطبة الترابية، نشاغل الوقت والبعد، حين طلع علينا من ثغر الطريق الضيقة المصعدة وعورة، وجه وعر الملامح أسمر، لكنه أليف، رغم أنها المرة الأولى التي نراه فيها، سأل، ثمّ انحدر آيباً في الطريق ذاتها؛ حين وصفنا تلك الملامح المميزة، أكد أخي الأكبر محمد أنه أنيس ابراهيم، كان ذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي.
تابعت بعد حين لقاء دافئاً بينهما، وكانا في مستهل الدراسة الجامعية والكتابة الإبداعية، شغل الجانب الأدبي حيزاً مهماً منه؛ أحسست بعد الفضول، بالغبطة والإثارة والرغبة بأن يطول ذاك اللقاء، ويتكرر..
لكن ذلك تأخر حتى الربع الأخير من عقد الثمانينيات، ذات مساء مسرف في حصاره ومغالبة إضاءة مصفرّة، وأنفاس تتآلف، أطال أنيس ابراهيم السكوت، أم أن الترقب هو الذي جعلني أحسّ ذلك، قبل أن يطلق مدائحه لنص قرأته أمامه، ثم هزّ رأسه مقللاً من أهمية النص الثاني. لكن السعادة كانت قد تمكنت من أحاسيسي؛ فاسم أنيس ابراهيم سرعان ما يبرز في أي حديث عن الأدب والثقافة، ويتردد عبر الصحافة والإعلام مشاركاً فعالاً في المناسبات الثقافية، وكان قد فاز بأكثر من مسابقة، وأصدر مجموعة قصصية “التفاحة”..
بعد ذلك بقليل، تواترت الجلسات الأدبية، بمشاركة عدد من الأصدقاء المهتمين في تجربة رائدة مثمرة، استمرت سنوات، رغم ضغوطات الحياة، وحصارات الهموم، وإلحاح الحاجات، وتطفلات وادعاءات ورهانات.. حتى أتى عليها منها ما أجهضها، ولذلك قصة أخرى ومناسبة أخرى.

يستطيع أنيس ابراهيم أن يفخر بأنه ممثل لجيل قصصي ثالث في محافظة طرطوس؛ تمثل الجيل الأول بالرائدين محمد المجذوب ومحمد الحاج حسين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ونهض الجيل الثاني بالأدباء يوسف المحمود وحيدر حيدر ومحمد كامل الخطيب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، مع اختلاف بيّن في منحى كل منهم موضوعات ومعالجات، وظروف وجودهم خارج المحافظة..
ومع أن أنيس ابراهيم لم يكن وحيداً في المشهد القصصي الطرطوسي، منذ منتصف السبعينيات، لكنه كان الوحيد الذي أخلص لهذا الفن؛ انشغل به وأشغل الآخرين، حمله على أعصابه، وطاف على متنه إلى مختلف المراكز الثقافية، والمواقع التي تقام فيها الملتقيات والنشاطات في المحافظة، والمحافظات الأخرى. ويمكن القول إن حضور الأديب أنيس ابراهيم الفاعل والمؤثر امتدّ ما يزيد عن عقدين، أصدر خلال تلك الفترة مجموعتين قصصيتين عن وزارة الثقافة، هما: “التفاحة” 1984، و”أرض الديس” 1993، ترافق ذلك مع نشاط عدد قليل من الكتاب في هذا الجنس الأدبي الحساس، وإصدارات جديدة لبعض من سبقه، ثم تزامنت تجربته مع عدد غير قليل من القاصين، مما شكّل إضافة إلى التجارب المميزة التي سبقت، وصار للقصة في طرطوس حضورها الفاعل على خارطة القصة السورية على الأقل.
ولاشك في أن لأديبنا المكرم دوراً ما في العديد من هذه التجارب، تشجيعاً واهتماماً وملاحظات صريحة وحادة أحياناً، أو تحفّزاً وتمثلاً واقتداء.
ويستطيع أنيس ابراهيم أن يغتبط لأنه تجاوز ظروفاً بالغة القسوة قارسة الشحّ، بالصبر والعمل في أكثر من مهنة إضافة إلى التدريس، متمتعاً بالدماثة والألفة والطرافة والظُّرف.. ولو إلى حين، ومنشغلاً بالثقافة والأدب قراءة وكتابة ومتابعة لتجارب الآخرين، لا إلى أجل مسمّى، ومتشاغلاً باللقاءات والمنادمات في أوقات تسرق من المسار الشائك المعذب.
(فما تكاد زوجتي تقتنص منه ساعة إلا بشق النفس، الأولاد يكادون يربون بغير أب، أنا أحبهم، وأحنو عليهم، لكنني أحب الكتب، والشطرنج، والتدخين وشيئاً من المشروبات الروحية، وغناء الهزار، توزع عمري بين ذلك، كلها نزعات استبدت بي بعواطفي ولا بد من التوفيق.) “أوراق من دفتر مذكرات” ص19 من المجموعة “أرض الديس”.
ولم تكن أمنية الوصول إلى الكأس السبعين شطحة إبداعية عابرة (في قصة طقوس التعري)؛ بل هي رغبة دفينة، أو تحدّ مكتوم يستمتع باستحضاره كل آن، وحين يتجاوز الكأس السابعة والسابعة عشرة، ويقترب من حدّ النهاية، أو يظن ذلك، يخاتل الحَكَمَ الداخليّ، ويراوغ المراقب الخارجي، ليعود إلى أن يبدأ العدّ من جديد!

حين تقرأ أنيس ابراهيم، يمكنك أن تمضي في مختلف نصوصه بيسر؛ فالدروب تعرفها، والمعالم تألفها، والملامح ليست عصية، والأصداء ليست غريبة أو غامضة.
وإذا ما كنت تضطر للتوقف، فلكثرة المعذبين، وازدحام المنكوبين، وتزاحم المقهورين، الذين تحاول أن تتعرف إليهم من خلال شخوص النصوص وبيئاتهم وظروفهم غير الهنيّة.
فأنيس ابراهيم يستلهم موضوعاته من الواقع القريب اكتواء أو معايشة أو مسموعات.. وينتقل بين البيوت والزواريب والحارات، يتسقّط الزفرات، ويترصّد الأنات، ويستولد الاعترافات؛ يتمثل النزوات، ويضيء الرغبات، ويستنهض الإرادات لمحاولة التغيير، ولو كان ذلك بأضعف الإيمان!
فالجوع كافر، والفقر حتى لو لم يكن رجلاً، يستحقّ أن يقتل، والكبت يفترض أن ينفث، والاستعباد المادي والنفسي عورة هذا الكائن البشري؛ وإن لجسدك عليك حقاً، ولنفسك وحاجاتك وشهواتك.. أيضاً!
وغالباً ما يكتفي أنيس ابراهيم بالمسارات السطحية، مع إغراءات صعودها وانحدارها وتعرجاتها ووعورتها وامتداداتها التي لا تطول كثيراً؛ يخطو في سموتها بحرّية وجرأة، وينقّل الطرف بين عناصر الطبيعة، متوقفاً عند مشاهد الجمال غاباتٍ وينابيع ودروبَ عشق ظاهرة أو كامنة، ويعاين كائناتها في احترابها وتعالقها واكتئابها ونفورها، وفرارها المقيّد بالظروف والإمكانيات والأقدار، فترتهن إلى مصائرها، وتنكفئ إلى ذواتها في حال عجز أو جنون.
ولا ينسى الكاتب أن يرصد هنا أو هناك حالات تمرد أو رفض، على الرغم من ضعف الإمكانيات، وقلة الحيلة، لكن إرادة الحياة تستطيع تحفيز الكثير من الطاقات على صعيد الفرد أو الجماعة، في النطاق المحلي، والوطني، والقومي.. والإنساني بشكل عام. ويستمتع ويمتّع بالاحتفاء بمشاهد خصب، وحالات وئام وانسجام، لا تعدمها الحياة في تضاريسها المتعددة وفصولها المتداخلة، ويتلمظ لمظهر أنثوي مغرٍ، أو السعي إليه، أو التفكير فيه، وربما الاحتلام؛ على النبع، وفي الوادي، والغابة، أو على الشاطئ، رغم ما قد يلقى من جرائه، مثل ما حدث مع “صبية” البحر التي فعلتها في وجهه؛ وإذا تعذر أمر التصريح بما لدى الكائن العاقل حذراً أو خوفاً، أو حياء، لجأ الكاتب إلى غير ذات عقل من الكائنات: كالحلزون، والكلاب، والسلاحف، والحمير والقطط..، يتقوّل عنها، ويحكي بلسانها، ويتحسس مواءمة، ويستشعر مقاربة ومشاركة ومشابهة، انتشاء أو تلمظاً أو مواجهة، ولا يكتفي بذلك، بل يراقبها، ويستنطقها في حالات أخرى أقرب ما تكون لدى البشر! وحين يلتجئ الكاتب إلى هؤلاء، يكاد يعترف بأن مأساته تكمن في معشر حاملي العقل، أو المدرجين في هذا الصنف؛ أو أن لهذه الأحياء القدر ذاته من العذاب والعجز في هذه الكرة التي تجري إلى لا مستقر لها، و”ميت لا يجر ميتاً”!
وحين تعيد قراءة ما كتبه أنيس ابراهيم في القصة القصيرة خلال أربعين عاماً، (وهو ليس بالكثير: أربع مجموعات قصصية للكبار، وأقل منها للصغار)، فأنت تسترجع الكثير من ذاتك وحياتك وظروفك وأحلامك وأوهامك.. لكن هذا الاسترجاع ليس ممتعاً دائماً، لأنه يذكرك بمآس ومعاناة لم تنتهِ فصولها بعد، ويعود بك إلى لحظات ومواقع، لم تكد تغرب عن مراكز استشعارك، وتحار إن كنت تريد لها أن تنتهي أم تستمرّ، ويقرّبك من كائنات سبقتك إلى أتون الحياة، وجاءت بك إليه، وسبقتك إلى مفترق لا تعرف ما فيه، وما يمكن أن يكون في ما يليه، وتنتظر السقوط في براثنه أو الخروج إليه..
وليس أنيس ابراهيم ابن ريف فحسب؛ بل هو عاشق الريف الشغوف به أشياء وأحياء، وليس غريباً أن يكرس جلّ كتاباته عنه، وأن تكون البيئة الريفية موئل معظم نصوصه. وعلى الرغم مما ينقله أديبنا عن الريف من بؤس وضنك وحصار وشح واكتئاب، فإن كل هذا يظل حسناً أمام الحالات التي استجدت نتيجة تحولات غير منضبطة في الريف ذاته: (صاحب جواميس يصبح خماراً وزوجته وبناته داعرات: “طقوس التعري”؛ الطبيب البيطري صارت له الحارات والمنافذ والدروب، كهف الصيادين غدا ملهى الكهف: ” وقائع محاكمة صطوف”.. مما أدى إلى انقطاع في التواصل الإنساني: “الرهان الصعب”، واضطر الأستاذ إلى العمل بلّاطاً: “بلاط”.. حتى لو كان بعض هذه التحولات “حاجة حيوية”!)، ومع ذلك فهذا ليس سوى جزء يسير مما آلت إليه الحال في المدينة التي لا يذكرها الكاتب كثيراً؛ فالحفرة التي أهملت في الطريق صارت تتطلب بناء مستشفى مجاور لمعالجة الإصابات التي سببتها، والمدينة باتت تعني لديه بمظاهرها الحديثة مكاناً للأوبئة والسرطانات والأورام، بعد أن كانت (أغنية هي فرع من نشيد الخلق الأول ورقصة المطر)، ولو يشاء الكاتب لحذف كل ما في الدنيا من حضارة، ولو وصل به الأمر إلى الجنون، كما حصل مع شخصية قصته “المدينة” في المجموعة “أرض الديس”، ولهذا “وعندما استحال ذلك كذلك، انكفأ ابن ذنون على نفسه وغاب” ختام القصة “ابن ذنون” ص49 من المجموعة “لعبة لغة”.
وتستشعر غربة أنيس ابراهيم مما كتبه، رغم حضوره الاجتماعي، فكأنه يعيش في واد غير ذي ألفة، ويحس بذلك رهبة أو حاجة إلى أنيس أو رفيق، فتراه ينادي في الكثير من قصصه نداء داخلياً أكثر من كونه خارجياً: ياسليمان، ياهارون، يا أحمد، ياحمود، ياعروة، ياصطوف، ياحسون.. وكثيراً ما يكون النداء أنثوي التوجّه بما تحمله الأنثى من خصب وألفة وعذوبة، تخفف عناء الدرب المقفر، والخطو المتثاقل والوقت الشوكي، رغم كثرة العابرين؛ ومن غيرُ الأنثى يوحي بالخلاص من كل هذا، أو يحاول: يا بهية، يا دنيا، يا أم سامر، يا أم كاسر، يا ليلى، يا غيداء، يا لامة، يا وفاء، يا هادية، يا حبيبة..
ويلتفت أنيس ابراهيم إلى الماضي القريب، ليسترجع الوقائع والأحداث والذكريات، وفي الماضي البعيد ثمة حكايات ومسموعات، أما حين يولي وجهه صوب الماضي الأبعد، فليستحضر منه أسماء ووقائع ومعاني: (هارون، زبيدة، حسن الخراط، غرناطة، زبطرة، بغداد، الشطرنج.. نيرون، روما، جلجامش، كرماني، ابن جنادة..)، يقاربها مع أخرى معاصرة: (نيرودا، جياب، حسن الخراط، الجولان، الليطاني..)، “أوراق من دفتر مذكرات” و”تداعيات”؛ ولا ينسى أن يربط الماضي بالحاضر مباشرة، أو عبر الملامح وأوجه الشبه والمناسبات.. وقد يظهر الاستعراض الثقافي أحياناً!
وللسخرية نصيب في بعض نصوص أنيس ابراهيم؛ وهي قد تظهر صراحة أو عبر الأسلوب والإشارات والتلميحات.. وقد يكون المقصود منها هجاء الغباء والجهل: “صباغ لكن للحمير”، والانتقام من واقع أو حالة أو بيئة أو تفكير أو تاريخ: “سراويل”، “الحفرة”، “موت السندباد” “الطبل”؛ وحتى من النفس: “صبية”؛ وتصل السخرية حدّ المرارة حين يكون الانشغال الأهم باللغة والصياغات والتقديم والتأخير، كما في “لعبة لغة”، فيما الدنيا تستباح!

ويختلف تمثل الحالات بين نص وآخر؛ ففي بعضها يبدو الكاتب منهمكاً محترقاً متألماً منتشياً، فتحس أن النص بعض من حياة بمختلف تجلياتها، وتحس بنبض كائناتها، وحيوية أشيائها، وسلاسة أدائها، واندغام عناصرها، وعفوية انفعالاتها، ومناسبة علائقها وأفكارها.. وفي بعضها الآخر تبدو المقاربة خارجية، كأن الكاتب يقدم واجباً، أو يتصرف بآلية الكتابة بلا روح أو رغبة.. وتمكن ملاحظة ذلك بمقارنة سريعة بين نصين، يكاد أن يكون موضوعاهما متشابهين: “موت الحلزون”؛ حيث التمثّل والتواشج بين الطبيعة والراوي المقاتل والحلزون المنتشي، و”كل الدهان أحمر”؛ حيث محاولة استعادة مشهد مثير قاهر لاستشهاد محمد الدرة، بأقل مما قدمته الصور المتلفزة بكثير!
ويلاحظ على الكاتب اكتفاؤه بالبقاء على السطح، وعدم اقتحامه الأعماق منقباً، ولا جوابِه الآفاق طائراً مغامراً؛ فهل كان ذلك لوجدانه في هذا الحيّز الأرضي المحدود ما يعبر عن الأحياز الأخرى علاقات وأحلاماً وخيبات؟! أم أن الانشغال الحياتي المقيم، والانغماس اليومي في طمي البحث عن خلاص معيشي ملحّ، والضغوط التي ما خفت على كاهله داخلياً وخارجياً، لم تترك أمامه الوقت اللازم، ولم تؤمن له الأدوات الضرورية لذلك؟!
أم أن همه الأكبر اجتماعي إنساني، أكثر منه قلقاً وجودياً؟!
وهل كان هذا وراء التشابه في العديد من الحالات، وافتقاد الثراء والحيوية والتنوع في حالات أخرى؟! والاهتمام بما هو قريب ومعروف ومفهوم، والاقتصار على العرض، ملتجئاً إلى الشرح والتفسير والتقرير من دون أن يترك للقارئ الكثير مما يفكر فيه أو يتأمله أو ينشغل به؟!
وقد لجأ الكاتب تجنباً لذلك أحياناً، إلى تضمين نصه وقائع تاريخية، وحكايا صغيرة قديمة وحديثة، ونوادر، وكان ذلك مناسباً؛ وحاول اجتراح اسطورة لم تحلق طويلاً، وبقيت أدواتها حكائية، ومبالغاتها وخيالاتها لا تبتعد كثيراً عما يتداول في الذاكرة الشعبية “ابن ذنون”، “موت السندباد” و”جميلة” مثلاً.
ولم يكن البناء القصصي أكثر جدة أو خصوصية، رغم كونه ليس تقليدياً في معظمه، ولا التناول الأدبي أكثر جرأة في هذا الجَوَلان بين أطراف الحالة ووسطها، متوقفاً عند مشاهد وأفكار وأمنيات، مستعرضاً وقائع وأحداثاً وتحولات لا تبتعد كثيراً، ولا تتعمق! وفي الكثير من الحالات، يبدأ النص ويمضي وينتهي في اتجاه واحد: “المدينة”، “بلاط”، “جارنا الطيب سلمو”، “الجمار”، “موت السندباد”.. ويمكن أن تكون البداية من مكان ما من الحالة، ويتم التنقل بين الماضي والحاضر: “موت الحلزون”، صيد النجوم” حكايا حمود”، الطبل”، “طقوس التعري”.. ، ومن النصوص ما يبدأ من محطة النهاية، ويعود إلى الخلف: “صبية”، و”لعبة لغة”، و”الخصاء”..؛ وقد اعتمد الكاتب على تنوع الضمائر في النص الواحد، كما استخدم ضمير المتكلم في حالات كثيرة، وفيه إثارة وقرب وإيحاء بالمصداقية، شرط أن لا يتحول إلى حديث ذاتي، لا يكتفي باللازم والكافي للنص والفكرة، ولا يمكن القول إن ذلك لم يحدث؛ أما الضمير المخاطب فكان له حضور فاعل بما يفيد في تقديم النفس عن طريق مناداتها والحديث إليها تلويماً أو مواساة أو شكوى، وعرض الحالة أمام الآخرين أو في وجوههم على طريقة المناجاة أو المرافعات أو الأمنيات.. ويلجأ الكاتب أحياناً قليلة إلى حيوية أخرى في الأداء، فيعمد إلى التقطيع بعنوانات أو ترقيم، وفي الوقت الذي يفيد فيه هذا الأمر للقفز عبر الزمان أو المكان في مشاهد متقاربة متواشجة، “الجمار” و”أوراق من دفتر مذكرات” و”حنين إلى لامة” مثلاً، بدا أنه ليس أكثر من تموضع حالات أو أوضاع أخرى بعناصر مغايرة، يؤدي تجاورها إلى إعطاء صورة عامة يريد الكاتب عرضها أو إبرازها: “موت السندباد” و”لعبة لغة”..
فالكاتب أمين على زمان قصصه ومسيره المنطقي، فيما عدا بعض التذكر، وكانت أزمنة متباعدة استحضرت عبر الحكايات والوقائع التاريخية، وبقيت في حيزها من دون المشاركة الحميمية المتفاعلة إلا عبر الأفكار والمقارنات؛ وفي بعض النصوص لم يكن الزمن ليبدو متحركاً، ولاسيما حين يكون النص عرض حالة مستقرة، أو مهيمنة؛ ويمكن القول إن الزمن لم يكن ذا شأن في بناء الكثير من النصوص؛ أما المكان فقد كان دعامة أساسية في عدد كبير من القصص، وكان حضوره ظاهراً ومؤثراً ومفيداً في إيصال الفكرة وتلوينها: الضيعة وحاراتها، البيت الريفي، المصطبة، الغابة، الكهف، الدروب، الخندق على الجبهة، الشاطئ.. كما كان مبالغاً به أحياناً بأشيائه الحيادية، وتكويناته الظاهرة وتفصيلاته النافلة.
وتتنوع بدايات القصص ما بين حكائية: (قال جدي ذات يوم، وقد عدنا من المقبرة..): “موت الحلزون” وكذلك: “جميلة” و”موت السندباد”، و”ابن ذنون”، و”الطبل”.. وسردية: (وضع إصبعه في لهاته، وكان قد انحنى بجذعه إلى الأمام..): “حاجة حيوية” وكذلك: “الخصاء” و”مأساة كلب” و”قطة” و”الجمار”، و”صبية”…، وإنشائية: (إنه الغروب.. وليس ككل غروب، رمادي بلون الفقد..) “هو الغروب” وكذلك: “سراويل”، و”طقوس التعري” و”جارنا الطيب سلمو”.. وفي حين كان الكثير منها مثيراً محفزاً، كان بعضها عادياً. أما الخواتيم فمعظمها باتّ ومغلق ومحسوم: (وكانت لا تزال فوهات البنادق تبصق رصاصاً أحمر وأحمر وأحمر) “كل الدهان أحمر” وسواها: ” صبية” “الرهان الصعب”، “أرض الديس”، “حكايا حمود”، “قطة”، “سراويل”، “الحبار”، “تداعيات”، “ابتهالات”، صباغ ولكن”، حميلة.. وفي القليل منها انفتاح، أو انعتاق: “لحظة وداع”، “صيد النجوم”، حنين إلى لامة”.. ؛أما العنوانات فمعظمها يعطي فكرة القصة سلفاً: “أرض الديس”، “موت الحلزون”، “موت السندباد”، “لعبة لغة”، “كل الدهان أحمر”، “مأساة كلب”، “الخصاء”.. وبعضها محايد: “قطة”، “الحفرة”، “سراويل”، “حاجة حيوية”، “الطبل”.. وقليلها مثير أو موحٍ: “صباغ ولكن!”، “طقوس التعري”، “الجمار”..

*
يمتاز نتاج أنيس ابراهيم القصصي بالسرد الذي يسلس ويألف، يطول ويقصر، ويتلون بالإيقاعات التي تأتي عبر التنوع في الأسلوب، بما يناسب الحال أو الفكرة أو الموقف أو الشخصية.. (والذي عرفناه، وقد صار حقيقة، هو أن جميلة لم تمت. إذ ان أغنيات ما تفتأ تملأ ساعات السحر، وتنفذ إلى أسرة النوم ومعها فرح جميلة..): “جميلة”، (أبو عبدو يقولون إنك لا تدقق في بلاطك، واحدة طالعة، واحدة نازلة..): “بلاط”؛ كما يغتني بالذخيرة اللغوية مفردات وعبارات.. (عند ذلك يكون العقل خرج من تلافيفه، وحلق بعيداً، راح يحوم في درب القرية، يتعطف مع التواءاتها، يتعثر بحجارتها، وبالحفر التي خددها السيل، يتقر النوافذ، ويستريح فوق العتبات، يتقلب من الدروب إلى البيادر، إلى ظلال أشجار اللوز والتين، إلى درب العين، وجرار الماء والدواب، إلى طفولة شقية يلفها الخوف، إلى وجوه يعرفها، وقسمات تنكره ولا تنكره.. إلى كل الطعنات التي دفنتها في صدرها مع عذابات السنين.): “هو الغروب”؛ إضافة إلى تغيّرِ الضمير من متكلم أو غائب إلى مخاطب، بأقواس أو من دونها؛ على الرغم من الصياغات والتراكيب التي جاء الكثير منها تقليدياً. ويبدو أن أنيس ابراهيم اللغوي البارع يتصرف بالكلمات والتعابير بسهولة وليونة، لكنه لا يصل في استخداماته حدّ الابتكار والتجديد، مع ميل واضح إلى الاستطرادات والمعطوفات المبالغ فيها أحياناً، ولا يضيف بعضها الكثير إلى النص الذي يقوم أساساً على السرد، مع قلة الأحداث أو وهن إثارتها، وقرب المعاني والدلالات المعبّر عنها أو الموحى بها: (فكان من بينهم خدم ونوادل وسقاة وقوادون وبستانيون وسائسو خيل وكلاب وقرود، وكان من بينهم سبايا وبغايا وراقصات وغاسلات وخادمات وقينات ومغنيات كلهن مدجنات أصولاً..) “المسخ”؛ كما يسود التقرير والشرح والتحديد العديد من المواقع والنصوص، ولا سيما في آخر مجموعتين: “الجمار” و”لعبة لغة”: (الحيوي -إذن- مشاكس وعنيد وخطر على الديمقراطية في المدينة، إلا أنه –على ما يبدو- لا بدّ منه) “حاجة حيوية”، (ولأنه كذلك كان لابدّ من أن تلتقي أنابيب الصرف الصحي في وسط الشارع وتتجمع في تلك الحفرة لتخترق بطن الشارع وتصل إلى النهر) “الحفرة”؛ لكأن الكاتب لا يكتفي بالإشارة إلى الفكرة؛ بل يريد أن يتملّى من الحالة حتى الإشباع، إيماناً بقول أبي نواس: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر!
وكثيراً ما يعمد الكاتب، للتغلب على هذه الحال، إلى تضمين السرد أمثالاً شعبية: (يقتلون القتيل ويحملون في جنازته): “جميلة”، (ميت لا يجر ميتاً)، و(لسانك حصانك، إذا صنته صانك)، و(صدرك أوسع لسرك) و(النصيحة اشتروها بجمل): “حكايا حمود”.. وأقوالاً وأفكاراً تستحق التوقف عندها: (تذكر أن الديمقراطية لا تنفع مع استفحال الداء..)، (على البشر أن يبنوا مدائنهم، وليس لها أن تعيد بناءهم) ص 27و28 “المدينة” من المجموعة “أرض الديس”؛ أوتهيؤات ونجوى: (يا بني وأنتم في عليائكم في السماء، اقتربوا من درب المجرة، فكل الأمهات الثكالى قذفن بحليب أثدائهن صوب المجرة، ليثري بالحليب..) ص92 القصة “نجوى” من المجموعة “لعبة لغة”، (ربّ لا تجعل حملي ثقيلاً كأكياس الملح، ولا كصناديق المعلبات): “ابتهالات”؛ إضافة إلى التركيز على المعاني التي تضفيها بعض العادات والكلمات: لعبة الشطرنج في “أوراق من دفتر مذكرات، الرقم سبعة في “طقوس التعري..
ويبدو أن أسلوب الحكاية أثير لدى الأديب أنيس، ولا يكتفي باستخدامه؛ بل يصرح به مراراً:
قال الراوي، قالت الحكايا، تقول الحكاية، هي الحكاية..
ويستخدم أسلوب الخطاب المباشر: عذراً أيها السادة، يا سيدي يا ابن ذنون، يا سادة يا كرام، قولوا أنتم..

بعد السرد يأتي الوصف الذي يجيده أنيس ابراهيم أيضاً، بما يمتلكه من لغة، وما يكتنزه من مشاهد الطفولة واليفاعة، وما يستوحيه من صور تعيد رسم الطبيعة بتضاريسها وفصولها وكائناتها، والبيئة بطقوسها ودقائقها.. وبما يستطيع متابعته من ملامح ومعالم وحركات وانفعالات..(سمرة ناعمة تفيض من وجنتي جميلة، وبريق هادئ ينبعث من عينين وادعتين، قد ممشوق باستقامة عمود الكهرباء الذي في طرف الساحة، وشعر كأعشاب السواقي يمرح فوق كتفين عاريين.. فابتسامة مثل ينبوع تدحرجت على شفتيها..) “جميلة”، (لعل ظهرك الذي كاللوح لم يخلق إلا من أجل ذلك.. رجلاك قويتان كرجلي ثور، وزنداك كالكلابات، ورأسك يتكور على كرة من حديد، سطل عرق لا يستطيع أن يديره، فلماذا بعد كل ذلك تكره العنابر الواطئة؟) “ابتهالات” من “أرض الديس”.
لكن الوصف الذي جاء به الكاتب في مختلف النصوص ليس في مستوى واحد، وإن بدا أنه قد غلب عليه الوصف الخارجي الذي ينم بالتأكيد عما يحدث في الداخل، ولكن لا تصل المقاربة حدّ الاكتواء ومتابعة الزفرات والنفثات، ولا رصد التناقضات التي تعتمل في النفس البشرية التي لا تقاس انفعالاتها بدرجة الحرارة أو عدد النبضات والضحكات والحشرجات فقط.
ويعيب الوصف، كما في السرد، التكرار والاستطراد والعطف والمبالغة في التعداد، واللعب على اللغة مما يؤدي إلى الرتابة والبرودة والترميد؛ (حفارات وجرافات وكواسر وسواحق وطواحن، وقلابات وماسحات وماهدات ذوات صريف وزعيق وهدير وشخير وجعير، وربما عويل وأنين ورنين..) “المسخ، ابن ذنون”؛ ويكثر في القصة “لعبة لغة” إلى درجة مملة تغيير مواقع الكلمات في العبارة نفسها: (.. حتى أقتص للمظلوم من الظالم، وللمظلوم من الظالم أقتص، ومن الظالم للمظلوم أقتص، ومن الظالم أقتص للمظلوم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.) ص85،
أما الحوار فليس أثيراً لدى الكاتب، وقليلاً ما يلجأ إليه، كما في قصة “السندباد” من المجموعة “أرض الديس” مثلاً، ويستعيض عن ذلك أحياناً بالحوار الذاتي مع النفس، وقد يجيء بصيغة المخاطب والنداء أو التذكر، وغالباً ما يكون من طرف واحد؛ مناجاة بين الأم وابنها الشهيد في عليائه: قصة “نجوى”. وتذكّر المقاتل لبهيّة زوجته ونجواه إليها “موت الحلزون”، وحديث حسون مع نفسه ودعواه ربّه “ابتهالات”..

في الختام:
كتب أنيس ابراهيم في القصة “لعبة لغة” التي أعطت اسمها لآخر مجموعة أصدرها هذا العام 2010:
(..نحن –أبناء العشيرة- الذين ليس لهم غنى عنها ولا موطن إلاها، لايهمنا كيف كتب شيخ الكتاب، ولا إن كان كتب، إنما الذي يهمنا ما آلت الحال بعد الحدث الأخير، وما يمكن أن يفاجئنا المستقبل..) ص82
فإننا نحن قراءه ومتابعيه ومحبيه، يهمنا أنه كتب، ويهمنا كثيراً ما كتب، ويهمنا أكثر كيف كتب؛ فقد تحولت الحياة بطبيعتها وكائناتها وعناصرها الأخرى إلى أدوات لعب وأساليب لهو، قوامها اللغة بمختلف تلويناتها المشرقة والمكفهرة، الكئيبة والضاحكة.. لكن ذلك لم يكن تسلية ولا مجانياً؛
فهل كان لعباً بأطياف الروح على ألسنة النار، أو بشبكة الأعصاب على الحدود القاطعة؟!
لعله بذلك خفّف، يخفّف عنه وعنّا أعباء اقتراف الحياة حتى من دون خيار!
وليس عبثاً أن جاءت قصة “هو الغروب” في ختام آخر مجموعة صدرت؛ وفي ختامها يقول:
(..مائلاً قليلاً إلى اليمين والأمام، يبقى وجهه معلقاً بضوء رمادي مثل مسيح مصلوب، وعلى الحائط المقابل للضوء تجمعت صراصير، وراحت بزقزقاتها تعزف لحن الوداع.). ص104 من المجموعة “لعبة لغة”.
***
غسان كامل ونوس
كتبت هذه الدراسة بناء على الإصدارت التالية للأديب أنيس ابراهيم:
• أرض الديس قصص وزارة الثقافة 1993
• الجمار قصص مطبعة إياس طرطوس 2000
• لعبة لغة قصص عروة للطباعة طرطوس 2010
وللكاتب إصدارات أخرى:
• التفاحة قصص وزارة الثقافة 1984
• النورس الأبيض قصص للأطفال عمريت طرطوس 2000
• عصفور مسرحية للأطفال الإمارات العربية المتحدة 2000
• الغول قصص للأطفال عروة للطباعة طرطوس 2009

اترك رداً