شهادة
الفانتازيا والقصّة
غسان كامل ونوس
أيّ واقع هذا الذي يُخلق الكائن فيه؟! الظروف قاسية، والعتمة مهيمنة، والبرد محاصِر، والحراج متاخمة، والجدران متلاصقة، والأحياز متضايقة.. تنتظر انفراج الصيف؛ لتتفسّح في أريحيّته، وروائح الربيع؛ لتتفتّح الأوردة ومسامات النّفس. وتتهيّب عكر الخريف؛ لتتلملم في أركان الهمّ في انتظار الرعود والرياح، التي لا تُبقي ولا تَذر!
يموت من يموت بالحصبة، أو الهواء الأصفر، أو الدمامل.. أو نقص التغذية أو سوء التقدير والتدبير.. على الرغم من الرّقى والكْتِيبات والنذور.. ويبقى من يبقى ليخوّض في طقوس الحياة المنتهكة بالمزاح والخصام، والأوقات المضيّعة في اجترار الحوادث والمسموعات، واستصلاح ما لا يكاد يصلح من أراض حراجيّة عصيّة، وانتظار ما تَنُزُّه المواسم وتدرّه الدواب، وتُريقه الخادمات في بيوت الغرباء؛ أو استظهار العتابا والمواويل، وإخفاء المشاعر؛ كما يُخبّأ احتراق المشاحر مخافة البصّاصين الشمّامين المنتظرين على أحرّ من وشاية..
ومن الناس من هاجر بعيداً، لا ينتظره أحد، أو قريباً إلى خارج الحدود، يُنتظر، ويعود كلّ حين؛ ليقنع الآخرين، أنّه مكرّم هناك، على الرغم من أنه يحشر في بيت من صفيح في أحسن الأحوال، أو يستوطن عربة خربة!
أيّ واقع فانتازيّ هذا؟!
يولد الكائن، ويعيش، ثمّ يموت.. وماذا يحصل بعد ذلك؟! هل يعود إلى الحياة مجدّداً؟! بأيّ شكل أو هيئة؟! وما غاية ذلك، وما معناه، أو جدواه؟!
وخلال اللحظات، التي تُلفظ فيها الروح، أين تذهب؟! وكيف تتصرّف؟! وتحت أيّ تأثير، وما الذي يرافقها من إمكانيّات، وماذا تفقد من قيود؟!
أليس في التفكير في ذلك قدر من الفانتازيا؟! أليست البيئة، التي تعيش فيها هذه الفكرة، وتدور الأحاديث، وتُستثار الأوقات فضاء أثيراً للفانتازيا؟!
وأيّة واقعيّة، تلك التي تشخّص حال ساعات النوم المنتهكة بأصوات الوكف الصاخبة، التي ترافق أوّل المطر، ويمكن أن تصيبك إحداها في أيّ مكان عزيز؟! فحالك حال من يقع في مرمى نيران غريزيّة.. لكنّ الفارق، أنّ المعرّض للمياه الملوّثة بتراب السطح وأخشاب السقف، يموت مرّات، ويعود إلى الحياة في فصول أخرى؛ حيث الحشرات والزواحف في أيّ حيّز، أو طريق، تضيق حتّى على قدم واحدة بين أحجار متراكمة أو متراكبة، وبين حراج، تستطيع، مهما تقزّمت، أن تخفي السمّ إلى حين!
أيّة واقعية، تلك التي ترافق ساعاتك الليليّة فيها أصوات قضم المعزاة وأولادها، ومحاولاتهم المستمرة للوصول إلى أثدائها الممنوعة، بما يحفظ حليبها غذاء أساسيّاً لكم؟! ولا يلبث أولادها الأصدقاء أن يُباعوا، بعد أن يكون الذكر استطاع ترك وريث له من أمّه ذاتها!
كلّ هذا وسواه من القطط وسواها، يجري على مقربة منك، في الليل الغارق في العتمة والنزوات والتخيّلات والتساؤلات والأحلام، والكوابيس، التي تفيق عليها، مع شكوى والديك المستترة من الهموم والحاجات، التي لا تنتهي؛ إضافة إلى طقوس النهار، الذي ينعكس بتقاصره وتطاوله على أفكارك وبرنامجك غير المكتظّ، وواجباتك العصيّة!
وماذا عن الجنّ وحكاياته، التي تطوف، ولا تركد؟!
الصبيّة الشقراء، التي يتكرّر عزفها ألحاناً بديعة؛ العجلة التي رافقت أحدهم ليلاً حتّى وصل إلى مفرق داره، تركته فناداها، فنادته بمثل ندائه؛ الشيخ الذي خاطب سارق ورق التوت المحتاج، وطلب منه أن يكتفي بما حصل عليه، ويرمي إليه الكيس الذي سقط على الأرض؛ الرجل الذي غاب فجأة، وعاش مع الجنّ اسبوعاً، وكلما جلسوا إلى الطعام، كانوا يطلبون منه أن لا يقول تلك الجملة (لا يبسمل)، فحين نطق بها، عاد إلينا نادماً!
الفتاة التي ظهرت على الضفّة الأخرى من المسيل (المسكون) أمامنا، حين تأخّرنا في الأرض البعيدة، تلك التي تبيّن فيما بعد أنّها ابنة الجيران المتمرّدة!
وماذا عمّا كان يشغلك ممّا في الحكايات: المارد الذي يخرج من الخاتم، ويقول: (شبّيك لبّيك..)، وكلمة السرّ المنتظرة: (افتح يا سمسم)، والفتيات المسحورات، والرجال الملعونون.. والسحر الذي يدخل في تفاصيل الحياة، التي تُقرأ في السير المتطاولة، وتتداخل نتائجها مع نتاج الواقع؟!
أليس في الأخبار أيضاً ما هو غرائبيّ؟!
بضعة آلاف قادمون من جهات الدنيا، ينجحون في اغتصاب فلسطين، ووعود مانحة من قبل، ووعود دينيّة مدّعاة، وأضاليل تعمّم، ونكسة بعد نكبة، وقرارات دوليّة خجولة، وموقف دوليّ مراوغ ومساوم.. وبعد حرب تحريريّة مباركة في تشرين، وعبور أسطوريّ لقناة السويس وخطّ بارليف، وخطّ آلون والوصول إلى طبرية، تعود كرّة التنازل في الجبهات الأخرى، وتجتاح الحرب الأهليّة البلد الأقرب، مع وقائع كارثيّة لأبناء الوطن الواحد، ومجزرة تلحق بالفلسطينيين المهجّرين في صبرا وشاتيلا، تفوق التصوّر حول القتل الشنيع، والنهم الوحشيّ للدم البريء، ثمّ تعود الحياة لتنتظم بشكل صمود أسطوريّ، إلى جانب بضعة آلاف في جنوب لبنان وغزة، يقهرون جيشاً جبّاراً.
•
هل كانت جدّتي تفكّر في إشكاليّة المصطلح، حين تقول: ألا تشبعون من الفنطزة؟!
لم أفكّر فيما تعنيه، كنت أفهم أنّها تقصد اللعب الطفوليّ، أو اللهو العابث. ولم أفكّر كثيراً في المصطلح، حين بدأت أكتب، وكانت الكتابة نصوصاً متداخلة، تميل إلى القصّة أكثر. لكنّ الواقع برغم لا منطقيّته، أو منطقه غير المفهوم أو المقبول دائماً، والحياة برغم عبثيّتها ولا جدواها؛ كما بتّ أفكّر، بعد قراءات وتساؤلات عن السرّ من ورائه، والمصير الذي ينتظر، والغاية الآخرة أو اللا نهائيّة..
كلّ هذا لم يغرِني بتصويره؛ كما هو، وكنت أرغب، وآمل أن يقال شيء ما مختلف، يخفّف عنّي، أو يعزّيني، أن تقدّم جرعة إضافيّة، تسوّغ الولوج في هذا المعترك الشائق الشائك، أو تعبر عمّا وراءها من قلق، أو رغبة، أو اختلاف.. ربّما حملت قدراً كبيراً من الأسئلة والتساؤلات، أو رصدت حالات، لا تصرّح بها كثيراً، أو لا يهتمّ بمعاينتها..أو كانت تجميعاً لبعض ممّا في نثارات الحياة، أو تحت ركامها، أو في رماد المجامر، وإعادة تخليقه بهيكل مختلف، وبثّ روح الحياة فيه، ومنحه علامات فارقة، أو لملمة بعض المشاهد والملامح والرموز، وإنشاء علاقة ما ممكنة بينها أو متخيّلة، أو موهومة!
ربّما اختلفت نسبة ذلك بين عمل وآخر، ومجموعة قصصيّة أو سواها، وربّما كان ذلك أقلّ في البداية، وازداد وقعه فيما بعد، حتّى تحوّلت بعض القصص إلى ما يشبه الحالة، التي تستغرب، أو تُدين، أو تحذّر، أو تتكهّن، أو تخمّن، أو تنتظر.. بلا تقرير أو تصريح؛ وقبل ذلك، معه، أو بعده: تتساءل، وتثير أفكاراً جديدة أو مستجدّة، وتترك الكثير من علامات الاستفهام والتعجّب، أو تحاول!
هجوم حشرات وزواحف متكاثفة نهمة على إنسان، إثر قرصة بعوضة، وعرس طارئ للجميع بلا عرائس ولا دعوات، مختلفة طقوسه ونتائجه، وشيء ما ينبت في مؤخّرة هذا الكائن (العاقل)، ودبيب في مختلف أعضائه، وتكوّر حياتيّ بعد التكوّر الجنينيّ، ونزول مسافرٍ في مكان لا مظهر حياة فيه، وعيد يتراجع عن دخول القرية المنتظِرة، وقبول بعض البشر بحكم (طاقة) للعبور البريء من تهمة كبرت أم صغرت.. وغير ذلك من أحوال؛ وصولاً إلى خوف من ضياع الشمس بعد اختفاء القمر!
•
قد لا تحتاج إلى الكثير من الجهد؛ لرصد غرائبيّة الواقع، وعرض عجائبيّة الوقائع، ولكنّك تحتاج إلى إهراق الكثير من الطاقة والوقت لِما تقدّمه من نفسك وروحك، من فكرك، الذي بدأ يتعذّب مع ابتداء الوعي: لماذا هذا الذي يجري؟!
سؤال ليس هيّناً، ولست مختاراً، ولا مجيب، على الرغم من محاولات واهنة للتسليم، وأخرى منذرة بعواقب الأمور!
كنت تحتاج إلى الكثير من الجرأة في إعلانه، والكثير من البحث والقراءة والتفكّر والتأمّل لتدعيم مسوّغات إطلاقه، والتغافل عمّا يثار حول تزيين ما بعد الحياة إذا…! لأنّها لا تستطيع الاحتفاء بأوقاتها القصيرة البائسة.
ولم تستطع ارتداء قبّعة الإخفاء، أو لم ترد؛ كما يفعل الكثيرون، للوصول إلى ما يريدون!
ولن يأتيك المارد، وليس في يديك مفتاح الكنز، ولا سرّ المغارة.. تلك التي تتوغّل في داخل النفس، والمغارات الكثيرة خارجها؛ فإلى أيّ الكهوف تميل؟!
هل رغبت في أن تأتي بما لم تستطعه الأوائل؟! هل تحارب فرسان الواقع، أو طواحين الهواء، أو حرّاس الما وراء؟!
كان لا بدّ من أن تقول أشياء منك ومن الآخرين، عنك وعنهم، أن تبوح وترصد، بطريقة لا يعرفونها، أو لا يريدونها، وقد لا تهمهم. لكنّها تشغلك، وتراودك عن لهوك، وأترابك، ورغباتك، وتتجاوز دراستك وإرادتك، وتتماشى مع أسئلتك، وتتماهى في تساؤلاتك.. تتأمّل، وتفكّر، مع الدواب، التي ترعى، وترضى، وتتمتّع حين تحلّ المواسم الخصيبة، وتلبّى طلباتها!
الرياضة لم تعوّض؛ الكرة البائسة ضاعت أو تشرّخت. النجاحات المدرسيّة المميّزة لم تقنع، على الرغم من فرح الوالدين العظيم بها. والأغاني لم تشبع؛ لأنّ (بطّاريّات الراديو) سرعان ما ينتهي مفعولها، وليس من اليسير تأمينها، وهي مخصّصة للأخبار والتعليقات، علّ فرجاً يأتي!
تحتاج إلى شيء آخر..
اللغة تمتع، لغة القرآن والأحاديث والأقوال، لغة الروايات والسير والقصائد.. كان عليك التغلّب على جرسها الرنّان، وإيقاعها الفتّان، بعدما حاول الأساتذة الاستفادة منها في الخطب المطلوبة للمناسبات الملمّة.. وليس الأمر سهلاً.
كنت تريد أكثر من سلامة في اللفظ، ودقّة في التحريك والتوقّف، وجلجلة في الأصداء..
وتحتاج إلى أكثر من تعبير وإنشاء، وسرد مستفيض، ووصف زائد، وحوار لا يضيف كثيراً.. ولاسيّما في القصّة القصيرة، التي لا تحتمل التطويل ولا التفصيل، وفضاءاتها ثمينة، لا يمكن التفريط بها، وعناصرها دقيقة، والتعامل معها يتطلّب الثقة والحدس والضبط الغريزيّ، والتمثّل الشعوريّ، والمعرفة بعد الموهبة والرغبة والحماسة للتخليق القابل للحياة الإبداعيّة. من دون أن يظهر القصد في ذلك، ومن دون أن يكون النصّ المنجز محتاجاً إلى نسب تعريفيّ بصاحبه، وليس منبتّاً عنه.
وإذا كان الزمن الأرضيّ الواقعيّ مفروضاً، فيمكنك أن تتطاول عليه في الزمن القصصيّ؛ فتقدّم وتؤخّر، تحذف وتكثّف..، ويمكن أن يكون للعناصر الطبيعيّة والكائنات المألوفة ملامح أخرى، أو سلوك آخر، أو طقوس مختلفة كثيراً أو قليلاً!
وإذا كانت المسارات الأرضيّة متفهّمة على الرغم من تعدّدها وتعقّدها، والمفازات معهودة، والعثرات والصعوبات معروفة أو متوقّعة.. فلتكن مساراتك متوتّرة وحائرة، ومفازاتك كوّات أو إشراقات، والظروف غير مفهومة أو مثار تفكّر، والاحتمالات مفتوحة!
وإذا كانت القناعات منذورة، والارتهانات حاضرة، والمصائر محتومة، فلا بأس من بعض الشكّ المسائل، وبعض التململ والتمرّد، ولتكن مصائر كائناتك غائمة، والنهايات عائمة.
ففي أيّ مسار لا تستقرّ، وأيَّ مصير لا تنتظر؟!
***
غسان كامل ونوس
الفئة: شهادات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد